سبل السلام (رسالة عملية تبيّن المهم من أحكام الشريعة) - 45

| |عدد القراءات : 1828
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

  

 

 

كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

لا شك ان من أعظم الواجبات الدينية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال الله تعالى: [ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون]. وقال النبي صلى الله عليه وآله: كيف بكم اذ فسدت نساؤكم وفسق شبابكم، ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر. فقيل له: ويكون ذاك يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وآله) : نعم. فقال: كيف بكم اذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف. فقيل له: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويكون ذلك؟ فقال (صلى الله عليه وآله): نعم. وشر من ذلك. كيف بكم اذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا؟. وقد ورد عنهم (عليهم السلام): انه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقام الفرائض, وتأمن المذاهب, وتحل المكاسب، وتمنع المظالم، وتعمر الأرض، وينتصف للمظلوم من الظالم, ولا يزال الناس بخير ما امروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر, فان لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الارض ولا في السماء.

ملاحظة: حررنا مسائل هذا الباب بناءاً على نمط (الفقه الفردي) الذي جرى عليه السلف الصالح (قدّس الله أرواحهم)، اما على منهج (الفقه الاجتماعي) الذي كتبنا فيه (الأسس العامة للفقه الاجتماعي) فستختلف الرؤية الى بعض المسائل، وقد اضفنا شيئاً منه إلى هذا الكتاب، والله الهادي الى سواء السبيل.

[مسألة 873] يجب الامر بالمعروف الواجب, ويجب النهي عن المنكر الحرام وجوباً كفائياً (أي يجب على مجموع الأمة وليس على كل فرد بعينه) فإن قام به البعض ممن فيه الكفاية واحدا كان ام متعددا، سقط عن غيره, وان لم يقم به المقدار الكافي، بان لم يقم به احد أو قام به مقدار غير كاف، اثم الجميع ممن لم يقم به واستحقوا العقاب.

[مسألة 874] اذا كان المعروف مستحبا كان الأمر به مستحبا, واذا كان المنكر مكروها أو مرجوحا كان النهي عنه مستحباً، ولم يكن واجبا. فإذا أمر أو نهي كان مستحقا للثواب. وان لم يامر به أو لم ينه عنه لم يكن عليه اثم، ولا عقاب.

[مسألة 875] اذا كان الفعل مباحاً دينياً، فلا ميزان شرعي للأمر به, وان كان راجحاً دنيوياً, ولا النهي عنه وان كان مرجوحا دنيوياً نعم قد يكون الفعل مباحا شرعا في الاصل ولكنه راجح بعنوان ثانوي أو مرجوح كذلك، ككونه موردا لطاعة الوالدين, أو لاحترام المؤمن أو للتقية، ونحو ذلك. فيكون الامر به أو النهي عنه واجباً, ان كان العنوان الثانوي الزاميا، ومستحباً ان لم يكن كذلك.

[مسألة 877] يجب ايجاد مقدمات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر, وذلك :

اولا: بتعلم الاحكام الشرعية الضرورية في الحياة, ليعرف الفرد المعروف والمنكر من نفسه ومن غيره. ثانيا: بإيجاد المجتهد المطلق الذي يجوز تقليده, وذلك بتصدي جماعة كافيه لتعلم العلوم الدينية ليحصل بعضهم على هذه الدرجة الرفيعة. ولا يجوز لاي مجتمع اهمال ذلك بحيث يحصل في المستقبل زوال المجتهدين كلهم، وعدم تعويضهم بآخرين. ثالثاً: بايجاد القاضي الشرعي الجامع للشرائط, ليمكنه حل المخاصمات بين الناس, وذلك بتعلم العلوم الدينية كما قلنا, ولا يجوز اهمال ذلك ايضاً، بحيث يعود الامر كله إلى القضاء الدنيوي.

شروط وجوب هذه الفريضة:

يشترط في وجوب الامر بالمعروف والنهي من المنكر، امور:

الامر الاول: معرفة المعروف والمنكر ولو اجمالا. فلو جهل الفرد ان هذا الفعل قائم على المنكر لم يجب النهي عنه. واما معرفة الحكم الشرعي كقاعدة عامة, فقد اشرنا الى وجوب تعلمها. نعم، لو كان الفرد قاصرا أو عاجزا أو مكرها أو مضطراً ونحوه, لم يجب التعلم.

[مسألة 879] لا يجب الاستعلام والفحص عن ان هذه الحادثة أو تلك قائمة على المنكر يجب النهي عنها, بل يكفي الشك في لسقوطه الوجوب.

الامر الثاني : احتمال تأثير الامر بالمعروف والنهي عن المنكر, اما بانجاز ما يقول الآمر واما بتعلم الفاعل وتأثره النفسي والعقلي بالامر, وان لم يطبق عملياً. ويكفي الاحتمال في ذلك ولا يجب العلم بالتأثير، وعليه فيجب الامر بالمعروف مع احتمال التأثير فقط. نعم، لو علم ان الشخص الفاعل لا يبالي بالامر والنهي, ولو لاستصغاره للمخاطب، أو انه يعتبره جاهلا بالحكم، أو لآن الفاعل لا يبالي بالدين اصلا، أو عازم على العصيان وان النصيحة تزيده استكباراً وإصراراً على الإثم, عندئذ لا يجب على الآمر شيء والمراد بذكر هذا الشرط بيان هذا المسقط للوجوب وليس شرطية الاحتمال المذكور للوجوب، فان التأثير وتحقيق النتائج بيد الله تبارك وتعالى مدبّر الأمور، وعلى الانسان أن المحض والنصيحة معذرة إلى ربه.

الامر الثالث : ان يعلم الفرد ان حكم المعروف أو المنكر منجز في حق الفاعل، بحيث لا يعذر في تركه وعصيانه, فان كان الفاعل معذورا في فعله المنكر أو تركه المعروف يقيناً أو احتمالا, لم يجب الامر ولا النهي، وانما يكون معذورا لاعتقاد ان ما فعله ليس بحرام, أو ان ما تركه ليس بواجب، اما بالعنوان الاولى يعنى في اصل الشريعة, أو بالعنوان الثانوي يعني للاضطرار أو التقية أو غيرهما. سواء كان الفاعل صادقاً في هذا الاعتقاد أم مشتبها اشتباها معذورا فيه اجتهادا أو تقليداً. فلو علم الفرد الامر بذلك أو احتمله في حق الفاعل, لم يجب الامر بالمعروف أو النهي عن المنكر، لكن هذا لا ينافي الجوب من ناحية أخرى وهي تعليم الجاهل وهداية الضال.

الامر الرابع : المشهور فقهياً اشتراط الامر بالمعروف والنهي عن المنكر, بان يكون الفاعل مصرا على ترك المعروف أو ارتكاب المنكر، الا ان ذلك بمجرده ليس بصحيح, بل يجب الامر والنهي بمجرد مشاهدة الاقدام على الفعل أو ترك من قبل الفاعل مع اجتماع الشرائط الاخرى. نعم، يرتفع هذا الوجوب مع احراز الندامة والترك، يعني ان يعلم الآمر بندامة الفاعل ونحوها من الاسباب الموجبة لتركه العصيان, ولا يكفى احتمال الندامة أو الاقلاع على الاحوط .

[مسألة 880] المراد بالاقدام على العصيان شروع الفاعل في بعض مقدماته, بحيث يراه العرف مشارفا على الوقوع فيه وارتكابه, عندئذ يجب نهيه. واما بمجرد النية والعزم على العصيان, فالنهي عنها ان كان واجبا فهو ليس من باب وظيفة النهي عن المنكر, بل من وظيفة تبليغ الاحكام الشرعية.

الامر الخامس : ان لا يلزم من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرر على النفس أو العرض أو المال على الآمر أو على غيره من المؤمنين, بل المسلمين. فاذا لزم الضرر عليه أو على غيره من المسلمين لم يجب شيء, والظاهر انه لا فرق بين العلم بلزوم الضرر والظن به والاحتمال المعتد به عند العقلاء, لصدق الخوف. ولا يفرق بين ان يكون مصدر الضرر هو المأمور بالمعروف، أو عشيرته، أو متعلقيه، أو من شخص متنفذ في المنطقة أو في غيرها وهذا الشرط خاص بافعال الافراد التي لا تعم تأثيراتها غيرهم. أما المظالم الاجتماعية العامة والفساد الذي يعم بضرره الآخرين ونحوها فستأتي الاشارة اليها بإذن الله تعالى.

[مسألة 881] قد يكون الامر والنهي احيانا غير مشترط بهذا الشرط الاخير, وذلك عند احراز بل احتمال اهمية الفعل او الفاعل, اعني من حيث تأثيره الضار في المجتمع, وعندئذ فقد يجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مع العلم بترتب الضرر، فضلا عن الظن به أو احتماله، كالتحرك لازالة الظلم والفساد أو للمطالبة يحققون الأمة، أو للمحافظة على كيان الدين من المحو والزوال ونحوها.

[مسألة 882] لا يختص وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بصنف من الناس دون صنف, بل يجب عند اجتماع الشرائط المذكورة على العلماء، وغيرهم، وعلى العدول والفساق، وعلى السلطان والرعية، وعلى الأغنياء والفقراء، الى غير ذلك. كما لا يختص المأمورون بالمعروف والمنهيون عن المنكر بصنف من الناس أيضا, بل يسري هذا الوجوب على كل مكلف آمراً كان أو مأموراً، مع اجتماع الشرائط.

 

مراتب هذه الوظيفة:

للامر بالمعروف والنهي عن المنكر، مراتب :

المرتبة الأولى : وهي أدنى المراتب واقل الإيمان. وهي الإنكار بالقلب, يعني الانزجار عنه نفسيا وكراهته بصفته عاصياً الله سبحانه وتعالى, وهي مرتبة ملازمة مع الايمان، فلو لم توجد في قلب الفرد لم يكن مؤمنا, الا ان في كونها من الامر الفعلي بالمعروف والنهي عن المنكر كذلك, تسامح بالتعبير. وإنما هو امر الإنسان لنفسه ونهيه لها عن ان يكون كغيره في العصيان وهذه المرتبة غير مشروطة بالشروط السابقة.

المرتبة الثانية: إظهار الكراهية بعمل من الأعمال. مثل إظهار الانزعاج من الفاعل، أو الأعراض والصد عنه،أو ترك الكلام معه, أو ترك المكان الذي يكون فيه, أو ترك مشاغلته، أو مشاركته بالعمل اقتصاديا كان أو دنيويا أو أخروياً. والمهم هو إظهار ما يدل على كراهة ما وقع منه.

المرتبة الثالثة : الإنكار باللسان. بان يبلغه الحكم الشرعي، اولاً. فان كفى في الارتداع لم يجب الزائد, والا وجب نصحه ووعظه, بتذكيره بعذاب الله سبحانه للعاصين وثوابه للمطيعين.

[مسألة 884] لا يجب ان يكون الأمر بالمعروف بصيغة الأمر ونحوها, ولا ان يكون النهي عن المنكر بصيغة النهي ونحوها, بل يمكن للفرد ان يختارها، كما يمكن ان يختار تبليغ الحكم الشرعي المنجز في حق الفاعل، فان الأمر والنهي في الحقيقة هما للشريعة وليس الفاعل أكثر من مبلّغ لهما, فاذا بلغ الحكم كفى.

المرتبة الرابعة : الإنكار باليد بالضرب المؤلم الرادع عن المعصية، مع إمكانه واحتمال تأثيره، كما سبق, سواء استعمل آلة في يده أم لم يستعمل.

 [مسألة 886] المشهور وجوب الترتيب بين هذه المراتب الأربعة، والاقتصار منها على الاقل مع كفايته في التأثير, كما ان لكل مرتبة عدة مراتب فيها، فيجب الاقتصار على الاقل مع كفايته، والا وجب الترقي الى الاكثر وهكذا, وهذا هو الاحوط بل المتعين لان الزائد يكون ظلما حراما وهذا مختص بالمنكرات المتعلقة بالأفراد صدوراً وتأثيراً.

المرتبة الخامسة: إراقة الدم بجرح أو قتل اذا لم تكف المراتب السابقة لارتداع الفاعل وهذا من الاحكام الاجتماعية التي يستأذن فيها الفقيه الجامع لشرائط القيادة الاجتماعية.

المرتبة السادسة: التحرك العام بالاحتجاجات والاضرابات والمظاهرات والعصيان المدني وما يستلزم ذلك من التعرض للضرر في النفس والمال والأهل حينما يتطلب الواجب ذلك، وتشخيصه بيد الفقيه المؤهل للقيادة الإجتماعية.

[مسألة       ] قد يرى الفقيه لزوم التغيير باليد قبل اللسان اذا كان الموقف يتطلب ذلك كما لو كان المنكر ذا خطر عام على المجتمع أو على العقيدة، وهذا شأنه وليس شأن الأفراد، وفي ذلك ورد الحديث الشريف (من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) وهذا الترتيب عكس ما ذكره الفقهاء (قدس الله أرواحهم) والفرق ما ذكرناه.

 [مسألة 888] يتأكد وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في حق المكلف بالنسبة الى اهله, بل هو مأمور به شرعا بعنوانه التفصيلي في نص القرآن الكريم, في قوله تعالى: (قوا أنفسكم و أهليكم نارا وقدوها الناس والحجارة). وكون ذلك مشروطا بالشروط المتقدمة محل اشكال, وان كان غير بعيد, غير ان الغالب توفر تلك الشروط في داخل الأسرة، وان كان قد يوجد فيها من لا يحتمل فيه التأثير, أو من يخاف من ضرره. اذن، فيجب عليه اذا رأى من اهله التهاون في الواجبات، كالصلاة وأجزائها وشرائطها, بان لا يأتون بها على وجهها كعدم صحة القراءة والأذكار الواجبة منهم.أو أنهم لا يتوضؤون وضوءا صحيحا، أو لا يطهرون أبدانهم ولباسهم من النجاسة على الوجه الصحيح.  فيجب عليه تعليمهم وامرهم ونهيهم على الترتيب المتقدم, حتى ياتوا بها على وجهها الصحيح. وكذا الحال في بقية الواجبات، وكذلك في المعاملات وسائر الإحكام.

وكذا اذا رأى منهم التهاون في المحرمات, كالغيبة والنميمة والعدوان بين بعضهم على بعض أو على غيرهم أو الزنا، أو شرب الخمر, أو السرقة. فانه يجب عليه ان ينهاهم عن المنكر، حتى يرتدعوا عن المعصية.

[مسألة 889] اذا امر الفرد أو نهى بعض اهله فلم يرتدع, وكرر عليه فلم يؤثر فيه , فقد سقط تكليفه مع حسن أدائه للمراتب السابقة للإنكار , ولا يجب عليه بعد ذلك ترك الأسرة أو الانتقال إلى مكان آخر, أو طرد الفاعل ونحو ذلك, ما لم تقتض مصلحة ثانوية مهمة لذلك, وأولى الناس بالسكوت بعد التكرار, الزوجة إذا رأت زوجها عاصيا لا يرتدع, فأنه لا يجوز لها عندئذ حرمانه من حقوقه الواجبة أو الخروج بغير اذنه، بل يبقى (جهاد المرأة حسن التبعل) شاملا لها. وليس الأمر بأشد من فرعون المذكور في القرآن الكريم, وقد صبرت زوجته على مظالمه حتى أصبحت من النساء الأربعة الزاكيات في العالم. وقالت : (رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة, ونجني من فرعون وعمله). وهذه النجاة تعني النجاة المعنوية أو الأخروية, وليست النجاة الدنيوية, والا لم تكن مكتوبة في المجاهدين.

[مسألة 890] اذا صدرت المعصية من شخص من باب الاتفاق, وعلم الآخر ان الفاعل غير مصر عليها, لكنه لم يتب منها, وجب امره بالتوبة. فان التوبة من الواجبات وتركها من المحرمات الكبيرة الموبقة, هذا مع التفات الفاعل الى التوبة وتعمده تركها, اما مع الغفلة ففي وجوب أمره بها إشكال, وان كان هذا هو الاحوط استحبابا بل هو مستحب فعلا.