محور الحوزة العلمية
محور الحوزة العلمية
بسم الله الرحمن الرحيم
لم تكن الحوزة العلمية الشريفة بمنآى عن الحدث السياسي او المشهد العراقي العام في العهد المباد ولكنها لظروف موضوعية معروفة لم يكن بوسعها الانفتاح على الحياة العراقية بالشكل الذي يناسب مكانتها الدينية وبالتالي السياسية والقيادية، ولكن مع هذا بقي ثقلها الشرعي قائماً ومؤثراً في المجتمع العراقي المسلم لانه يرى فيها الحبل الواصل مع تعاليم السماء والنهج الاسلامي القويم..
اما بعد سقوط النظام في 9/4/2003 فقد تعاظم دور الحوزة الشريفة وانفتحت الآفاق كلها امامها مع المجتمع العراقي ولا سيما تلك الآفاق التي اغلقها القمع السياسي وتخوف السلطة من تدخل الحوزة في قيادة المجتمع.. فكان ان تدخلت في اغلب تفاصيل الحياة العراقية بما هو مرجو منها من اصلاح المجتمع ووضعه على الطريق الذي يجعل منه قادراً على مواجهة التحديات و لا سيما في مرحلة ما بعد السقوط.
وبالفعل فقد بدأت الحوزة الشريفة بتوسيع دورها المؤثر وذلك منذ مخاض التغيير ايام سقوط النظام وقبله حيث اصدرت الحوزة توجيهات الى المجتمع العراقي من موقع مسؤوليتها الشرعية والقيادية وحرصها على سلامة الشعب وحقوق المواطن ولا سيما بعد غياب القانون وانفلات الوضع الامني وانفتاحه على كل الاحتمالات السيئة.. فاجمعت الحوزة امرها وتوحدت كمرجعيات وعلماء دين على اصدار التعليمات والتوجيهات التي تضع المواطن العراقي امام مسؤولياته في الدين والمواطنة من باب (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) فكانت هذه التوجيهات تخص كل جوانب الحياة بما فيها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وامور الدولة الادارية والمالية وغيرها، من خلال الواعز الديني والضمير الجمعي الاسلامي الذي يتحلى به العراقيون على الرغم من فداحة الفوضى وانكفاء النظام لان الانسان حين تتساقط امامه الانظمة والقيم يبقى اتصاله الروحي مع الله قائماً (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ..) وحبل الاتصال مع الله خير من يمثله هو المرجعية الدينية او الحوزة الشريفة لذلك يتقبل هذا الانسان تعاليم السماء او تعاليم الحوزة لانها متكأه الاخير وملاذه الروحي الآمن ومعياره الثابت الذي يبين له حقوقه وواجباته في اصعب الظروف.. من هنا ركزت الحوزة باجماع مرجعياتها على وحدة الصف العراقي بعيداً عن الاسماء والمسميات ما عدا خيمة الحوزة التي تجمع الجميع.
كما ركزت الحوزة على الواجبات الايمانية للمواطن العراقي التي تؤكد حبه وفعله لعمل الخير وابتعاده عن الاعمال المنكرة المرفوضة شرعاً فحثت على اقامة صلاة الجمعة وصلاة الجماعة حيث تلتف الامة حول مرجعياتها الدينية وتقترب من رضا الله لان صلاة الجمعة وصلاة الجماعة فرصة لتوجيه المجتمع باتجاه قيم الاخلاق والتوحد ونبذ التفرقة والحفاظ على مصلحة الوطن ولا سيما في الظرف الحرج الذي كان يمر به البلد.
كما اكدت على الحفاظ على الممتلكات وتقديم المساعدات واعداد اللجان لتفقد متطلبات كل منطقة من قبل ساكنيها كما اوصت بعدم التسرع في الانتماء او التجاوب مع الاحزاب والجهات السياسية لان المناهج لم تكن معروفة، والابتعاد عن عمليات الثأر والتصفيات وارجاء ذلك الى اقامة المحاكم التي تقوم بهذه المهمة , وكذلك اوصت الحوزة باحترام التركيبة الاجتماعية والاديان السماوية او المذاهب والقوميات بحيث وفرت لكل هذه المذاهب والاديان حصانة شرعية بعيداً عن اي هاجس طائفي او قومي او ديني لان المرجعية او الحوزة تضع كل شرائح المجتمع ضمن مسؤولياتها ازاء الشعب والوطن المتنوع باطيافه وتركيبته.. كما دعت موظفي الدولة للعودة الى العمل في الدوائر لكي تبدأ الحياة الادارية في البلد الى مجاريها.
اي ان المرجعية تصرفت بما يمليها عليها احساسها بالمسؤولية الشرعية والوطنية والاخلاقية والتاريخية في غياب الدولة والنظام وازاء وطاة المحتل الذي لا يبالي بما تؤول اليه الفوضى والانفلات الامني و لايبالي بمصلحة الشعب العراقي بل تهمه مصالحه وسلامة جنوده على حساب سلامة المجتمع العراقي فكانت الحوزة الشريفة او هكذا أَُريد منها ان تعيد بناء مجتمع عانى تدميرين:
الاول: من النظام السابق وسياساته العنجهية الطائشة.
الثاني: الاحتلال الذي ادى الى الفوضى والانفلات الامني والاداري..
من هنا ركز سماحة الشيخ على دور الحوزة واهميته في مناسبات عدة منها حديثه مع جموع الزائرين بتاريخ 27/4/2003 في كلمة بعنوان (الشعب العراقي مسؤوليات وايجابيات) حيث اشاد بالتزام افراد المجتمع بتعاليم الحوزة ومصداقية المجتمع مع مرجعيته الرشيدة وذلك من خلال (الطاعة الكاملة للحوزة العلمية الشريفة والالتزام بتعاليمها واوامرها، فما ان أمرت الحوزة بترك السلب والنهب من الممتلكات العامة حتى امتنعوا، وحين أمرتهم باعادة المسروقات اعادوها، وحين أمرتهم بالتوجه الى محلات عملهم ووظائفهم لتسيير الخدمات الى الناس، فالمجتمع اذن يعرف بوضوح قادته الحقيقيين..) وهذا الكلام يمثل رضا المرجعية على المجتمع باستجابة المجتمع لكل تعاليمها.
كما ان اهتمام مرجعية الشيخ اليعقوبي بتوسيع دور الحوزة الشريفة وتوحيد آليات عملها وقرارها قاده الى فكرة تاسيس جماعة الفضلاء كتجمع هدفه (النهوض بواقع الامة لتكون بمستوى التحديات وهو مفتوح لكل فضلاء واساتذة الحوزة الشريفة وأئمة الجمعات والجماعات وخطباء المنبر الحسيني.
والغرض من تاسيسها امران :
1- تنظيم آلية عمل الحوزة في اداء المسؤوليات.
2- توحيد الحوزة وتقريب وجهات نظرها..... ).
وهذه هي الشروط الذاتية المرجوة من الحوزة والعمل على توفيرها بعد ان توفر الشرط الموضوعي وهو حريتها في العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي وغيرها بعد ان كانت ممنوعة على التوسع في هذه المجالات في الزمان السابق.
فصار اهم شرط في شروطها الذاتية هو توحيد الكلمة والصف وبالتالي توحيد القرار الشرعي امام الآخر الذي ينتظر من المرجعية الشريفة قراراً في كل الاحداث والمستجدات والقوانين والتشريعات فكانت فكرة تاسيس جماعة الفضلاء هو تحقيق هذا الهدف المهم لكي يقف الآخر امام قرار المرجعية الموحد موقف المقتنع امام الاجماع الشرعي للقرار فمن هنا ياخذ هذا القرار قوته في التاثير في المشهد العراقي العام بكل جوانبه السياسية وغيرها والمستمد قوته من شرعيته وجماعيته او شرعيته المجمع عليها من قبل كل المرجعيات الشريفة.. لان هذا الاجماع يمثل - فضلاً عن الشرعية - جماهيريته حيث ان كل الجماهير المسلمة لها من يمثلها في التقليد ضمن المرجعيات وبالتالي سيكون هذا القرار قراراً جماهيرياً ومطلباً شعبياً من خلال قناة التشريع المرجعي كما ان هذا الاجماع سوف يحصن الصف المرجعي وبالتالي الجماهيري من الاختراق من قبل الجهات التي تعمل على تفريق الصف وتضعيفه وبالتالي تضعيف القرار الاسلامي وسلطته وتاثيره في المشهد العراقي العام.
بل طورت المرجعية هذه الطموحات والمطالب وذلك بان (يكون للحوزة دور في الكثير من الامور كصياغة الدستور وشكل الحكم والاشخاص المؤهلين وتعيين القضاء وغيرها..) اي ان الحوزة بثقلها الشرعي والجماهيري وبانتقالها من العمل الفردي الى العمل المجموعي ستفرض ارادتها العادلة على شكل العملية السياسية وسيرها او على الاقل ان يكون لها بصمات واضحة فيها.
ان تاسيس جماعة الفضلاء اُريد له ان يكون جواباً على (العقدة المستعصية والاشكالية الراسخة عن السؤال من هي الحوزة ومن يمثلها..) كما يشير سماحة الشيخ لكي لا تبقى عنواناً مجملاً ومبهماً لدى الكثيرين بل ان توحد الحوزة بقرار واحد - وليس بفتوى واحدة - وبرؤى متعددة وبتوحدها الذي يمثل العمل الجمعي ووحدة الصف يجعل منها ومن قرارها ذا تاثير اوسع وان هذا الاتفاق الحوزوي من قبل المرجعيات على جماعة تمثلها يوفر لها (الحق في ان تتحدث باسم الحوزة وتعبر عن مطالبها..) فيتسلم الآخر من الحوزة اي من المرجعيات قراراً موحداً لا مناص من القبول به وذلك لقوته الشرعية والجماهيرية في آن واحد كما اسلفنا... هذا فضلا عن كون القرار المجموعي يكون (اكثر عطاء واقل اخطاء باعتبار انظمام العقول ومشاورتها) كما يؤكد سماحة الشيخ.
ووفق هذا التصور لتفعيل دور الحوزة الشريفة وضع سماحة الشيخ اليعقوبي الخطوط العامة للمشروع السياسي في المرحلة الانتقالية التي كان يمر بها البلد وهي الاكثر حساسية لانها المرحلة المباشرة بعد التغيير الكبير الذي حصل كما انها المرحلة التي لم تتخذ فيها المسؤوليات في الدولة قوتها الشرعية والجماهيرية وانما كانت تتم بمقتضى التعيين والارضاء وكان للمحتل الفعل او التاثير الاكبر في وضع خطوط هذه المرحلة سياسياً وادارياً لذلك كانت مبادرة الحوزة الشريفة تمثل حلاً وخلاصاً من استمرار هذه المرحلة العائمة سياسياً فوق مياه الاحتلال.
لذلك ركزت المرجعية الرشيدة على ارادة الشعب وحريته في اختيار (ما تشاء ومن تشاء) لان صوت الشعب وارادته هي الاقوى في ازاحة إرادة المحتل وفرضه لشروطه ومواصفاته على نوع العملية السياسية ووضع خطوطها كما تتطلب مصالحه واجندته في العراق.. فقد كان هذا المشروع من باب (توحيد الجهود وصهر الطاقات لتشكل درعاً يدفع عن امتنا الاخطار ويحقق الطموحات..).
وقد قام المشروع السياسي على ثلاثة محاور رئيسة هي :
(1- لا شرعية لكل الخطوات السياسية التي حدثت بعد سقوط النظام باعتبار كونها فاقدة للشرعية لعدم رجوعها الى راي الشعب ورضاه).
وهذه النقطة تمثل سحب البساط من تحت اقدام المحتل في ادارة البلد او اي اجندة خارجية بعيدة عن ارادة الشعب العراقي كما انها تضع الهدف الرئيس من التغيير الذي حصل امام الانظار وهو انتقال الحكم من الفردية والدكتاتورية الى حكم الشعب عبر المنهج الديمقراطي وتخليص الموقف السياسي من فوضاه وتخبطه او من منطقته السياسية الرجراجة القابلة لكل الاحتمالات والتدخلات..
كما ان عبارة (لا شرعية لكل الخطوات السياسية) تضع المسؤول الانتقالي امام حجمه السياسي الحقيقي وهو موقع تسيير الامور من باب سد الفراغ والتحضير لمرحلة شرعية قادمة وليس من حق هذا المسؤول اتخاذ القرارت الستراتيجية والمصيرية..
(2- ندعو الى اجراء انتخابات عامة لتشكيل المجلس التاسيسي الذي تنبثق عنه الحكومات المؤقتة الانتقالية ويسن من خلالها الدستور الدائم للبلاد) وهذه الخطوة تمثل وضع الحل والبديل للمسؤول اللاشرعي عبر المطالبة باجراء الانتخابات العامة لتكون بمثابة ارضية صلبة تنهض عليها العملية السياسية القادمة في العراق متسمة بشرعيتها الجماهيرية المتفق عليها من قبل الشعب.
3- فتعطي تفاصيل هذا المجلس التاسيسي بطريقة مدروسة وتوضيح ملامح الدولة وخطوطها الرئيسة عبر البرلمان المؤقت الذي يمثل السلطة التشريعية المؤقتة في البلاد، ثم الحكومة المؤقتة وتمثل السلطة التنفيذية المؤقتة للبلاد ثم نوع الانتخابات المعتمد ثم الآليات وتوضيح كل هذه الفقرات وشروطها وامكانية تطبيقها على ارض الواقع مع تحديد عدد اعضاء البرلمان وعدد الوزراء ومواصفاتهم وطريقة تقسيم العراق الى دوائر انتخابية وغيرها من التفاصيل.
وبهذا المشروع السياسي المتكامل تضع المرجعية او الحوزة الشريفة المعنيين بالشأن العراقي امام الحل الامثل والاكثر قبولاً من لدن الشعب ومرجعياته الدينية طبعاً.
وقد وضع هذا المشروع بتاريخ تموز 2003 اي في وقت مبكر جداً بعد التغيير، وقد اخذت به - مع بعض التعديلات- سلطة الاحتلال والحكومة المؤقتة التي شكّلها مجلس الحكم بعد عام بالضبط بعد ان فشلت عمليتها السياسية فرجعت الى هذا المشروع وشكلت الجمعية التاسيسية بنفس الخطوات.. ما يدل على سعة افق المرجعية واستقرائها للواقع العراقي وطريقة الخروج من الازمة السياسية التي حدثت بعد التغيير فاثبتت الحوزة وعلى رأسها المرجعية قدرتها على القيادة ووعيها السياسي والاداري ونظرها الثاقب الى المستقبل.. فمثلاً على صعيد تشكيل الوزارة اوصى مشروع الحوزة ان تتكون الوزارة من 23 وزيراً منتخباً في حينها.. ولكن المحاصصات والارضاءات التي سببتها التجاذبات السياسية اوصلت عدد الوزارات الى اكثر من 35 وزارة ثم اثبتت التجارب والواقع السياسي ان عدد هذه الوزارات مبالغ فيه فصار توجيه الحكومة الآن وبعد خمسة اعوام على التغيير ان تكون هناك 22 وزارة فقط وهذا ما يشير الى دقة المرجعية في رؤيتها لعدد الوزارات قبل خمسة اعوام وغيرها من الامور التي عادت لها الدولة بعد سلسلة من الخسارات والتجارب الصعبة التي ضيعت كثيراً من المال والوقت على حساب الشعب العراقي ومصالحه.
واذا كان هذا المشروع السياسي يعد مشروعاً نظرياً قابلاً للتطبيق فان الحوزة عززت هذا المشروع بمشاريع عملية منها اجراء الاسفتاء عن بعض قضايا الحكم والدستور على شريحة كبيرة من المواطنين العراقيين من مختلف المحافظات العراقية ومختلف الاعمار والمستويات الدراسية والقوميات والاديان والمهن ومن كلا الجنسين.. كما ان البيان لم يكتف بتدوين الاسئلة وانما قدم لكل سؤال شرحاً مبسطاً آخذاً بنظر الاعتبار بعض المفاهيم السياسية الجديدة التي لم يطلع عليها كثير من العراقيين كما انه وضح حسنات وسيئات النظام البرلماني او الرئاسي وغيرها.. وقد كانت نتائج الاستفتاء دالة على وعي العراقيين وحاجتهم الى الدستور واهميته لديهم كما وضحت اجابات الغالبية العظمى من المستفتين، كما اثبت الاستفتاء التزام الشعب العراقي بالشريعة ورفضه للمبادئ الخارجة عن الاسلام وابدى ثقته العالية بعلماء الدين وتجاوبه مع الحوزة العلمية الشريفة، كما ابدى وعيه السياسي وحرصه على مصالحه الوطنية وقدرته على تجاوز الماضي بكل عقده والتطلع الى مستقبل افضل ليبنيه العراقيون مجتمعين.
وبهكذا منهج نظري وعملي تؤكد الحوزة الشريفة على انها ليست مجرد كيان علمي صرف مثل الجامعات الاكاديمية، كما يؤكد سماحة الشيخ في حديثه مع دفعة جديدة من كلية التوجيه الديني والاصلاح الاجتماعي بتاريخ 12/1/2006 ويضيف (بل ان الحوزة وعلى رأسها المرجعية تمثل الكيان القيادي للامة بما تقتضيه القيادة من نشاط سياسي واجتماعي واخلاقي وتربوي وفكري وانساني وحتى اقتصادي..).