تقييم الدراسات الاجتماعية عن الشخصية العراقية
بسمه تعالى
تقييم الدراسات الاجتماعية عن الشخصية العراقية([1])
صدر الكثير من الكتب والدراسات منذ عقود من الزمن وإلى الآن عن طبيعة المجتمع العراقي والشخصية العراقية وتحليلها وتشخيص العناصر المؤثرة فيها، وقد وصلتني مأخراً خلاصة محاضرة ألقاها عالم اجتماع عراقي مغترب في ندوة أقيمت في لندن بعنوان(التحولات البنيوية وتأثيرها على الشخصية العراقية).
وأول ملاحظة تسجل على مثل هذه الدراسات وجود نقاط ضعف كثيرة منها:
1 ـ إنها مبنية على الاستقراء وهو ليس تاماً وقد يهمل الباحث في دراسته شرائح بأكملها فلا تكون النتائج دقيقة أي لا يمكن تعميمها وإنما هي تصح على شريحة معينة.
2 ـ إن تحليلاتها ونتائجها تتأثر بنفسية الباحث وتوجّهاته حتى لو حاول أن يكون موضوعياً، فإذا كان الكاتب علمانياً ـ كما هو الغالب ـ اتهم الظاهرة الدينية وألقى اللوم على المؤسسة الدينية، وإن كان فئة عانت الإقصاء من الحكم، حمّل السلطات المسؤولية، وقد يعيش عقداً باتجاه ما فتؤثر على كتابته.
3 ـ إن بعض هذه الدراسات مدفوعة الثمن من قبل جهات معينة فيضطر الباحث إلى مناغمتها والانسجام معها ويصوغ البحث بشكل يدفع إلى اعتناق الافكار والتصورات التي تريدها تلك الجهات.
4 ـ إنها لا تنطلق من الواقع أحياناً، وإنما يطبق ما يشبه المعادلات الرياضية، فيقول: إن الشعب العراقي ما دام قد عانى من بطش وقسوة وديكتاتورية فإنه سيكون عنيفاً صِدامياً إقصائياً خائفاً كئيباً جنائزياً ونحوها.
والحال أن الظروف المعاشة ليست هي الوحيدة التي تصنع شخصية الإنسان وتؤثر فيه، فهناك العقيدة والقيم والأخلاق والمبادئ الإنسانية النبيلة وغيرها، فقد ولد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وعاش في مجتمع جاهلي حوى المنكرات جميعاً ثم كان أفضل المخلوقات وأكملها، وهناك الكثير من الصالحين الذين نشأوا في مجتمعات فاسدة.
ورغم نقاط الضعف المذكورة فإن هذه الدراسات مفيدة خصوصاً إذا صدرت من باحثين متخصصين محنكين لأنها تساعد في إلفات النظر إلى ظواهر إيجابية بناءة عديدة ينبغي تدعيمها وترسيخها، وظواهر سلبية هدامة يجب مكافحتها والقضاء عليها.
إن كثيراً من الخصائص التي تنسب إلى الشخصية العراقية لا تختص بها بل يتصف بها كل شعب يتعرض لما يتعرض له الشعب العراقي، مثلاً ظاهرة العنف أو ما يسمى بالحواسم والفرهود أو الفتنة الطائفية ونحوها، موجودة في المجتمعات التي يعدونها راقية، فقد استمرت الحروب الطائفية بين الكاثوليك والبروتستانت في أوربا منذ قرون إلى الآن، وتوجد أحياء في العاصمة الأمريكية واقعة تحت سيطرة العصابات والجماعات المسلحة ولا تستطيع قوات الشرطة الدخول إليها، فضلاً عن بسط الأمن فيها، وفضائح الفساد المالي والإثراء من المال العام في الغرب عموماً لا تكاد تنقطع وتجاوزت المليارات وأدّت إلى إفلاس مؤسسات ضخمة، ونفوذ المافيات في عدة دول من الواضحات وكذا تجارة المخدرات وغيرها. هذا غير ما سبّبوه من إزهاق ملايين الأرواح وتدمير الممتلكات في عمليات الغزو والاحتلال والإبادة التي عمّت بني البشر.
وعلى العكس من ذلك فإن قيماً نبيلة ومبادئ سامية تتجسد في الشخصية العراقية كانت سداً منيعاً حال دون حصول المزيد من الانهيار والتردي الذي خطّط لحصوله في ظل الظروف التي أقحم فيها الشعب العراقي.
نعم توجد خصوصيات في الشخصية العراقية إيجابية أو سلبية، بعضها على نحو العلل والأسباب، وبعضها على نحو المعلولات والآثار والنتائج.
ومنها ـ على المستوى الأول ـ شدة الصراع والتناقض الذي يعيشه بداخله بين داعي الدين والإيمان والمبادئ التي آمن بها وتوارثها وتربى عليها وهي التي تدفعه بقوة إلى السمو والكمال، وداعي النفس التي تريد الاستئثار والانتقام والتسلط وحب الشهوات، بينما أكثر الأمم الأخرى لا يوجد لديها الوازع الأول فتنساق تلقائياً وراء الثاني ولا تجد مشكلة في ذلك.
ومنها ـ على المستوى الثاني ـ إن مصدر ما حل بالعراقيين من جهل وفقر وقتل ودمار وكوارث هي قياداته فقد ابتلوا عبر التاريخ بزعامات فاسدة متخلفة ظالمة حمقى سواء على صعيد الزعامات الاجتماعية ـ كرؤساء العشائر عدا من عصم الله تعالى ـ أو سياسية فقد سوّدت السلطات وجه التاريخ الماضي والحاضر بأفعالها الشنيعة، وحتى الدينية فإن الكثير من الزعامات الدينية تطلب الدنيا باسم الدين المقدس وهي لا تتورع عن ارتكاب الكبائر لتحقيق مآربها والعياذ بالله.
والغريب هو انصياع الأغلب لتلك الزعامات والانسياق ورائها من دون عذر أو مبرر، بل حتى لو أعطوا حق الاختيار فإنهم يختارون نفس الظالمين والمقصرين والفاسدين، ونتائج الانتخابات ـ في عصر الديمقراطية المزعوم ـ شاهدة على ذلك، هذا على صعيد السياسة، أما على صعيد الزعامة الدينية فالأمر كذلك إذ أن اختيار مرجع التقليد بأيديهم ، ومع ذلك يختار الأكثر أتباع من لا يعبأ بهم ولا ينظر إليهم ويصنعون لهم قداسة مزيفة ثم يصدقونها ويتمسكون بها ويتركون المرجعيات الرسالية المخلصة لله تعالى ولهم حتى تمضي إلى ربها شاهدة شهيدة.
وعلى أي حال فإنني أدعو العلماء والمفكرين والمثقفين والكتاب إلى تفعيل الدراسات الاجتماعية والنظر فيها بعمق والاستفادة منها لنرقى بمستوى أمتنا حتى تكون مستعدة لاحتضان دولة الإمام الموعود(عليه السلام) وقيادته المباركة التي تنطلق من هذه الأرض المعطاء.
ويجب أن تكون هذه الدراسات صريحة وشفافة ومخلصة لنتمكن من التأسيس عليها وسنجد حينئذٍ أن كثيراً من المظاهر التي تعد إيجابية هي سلبية وبالعكس (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ) البقرة/ 216.