أحبوا الله تعالـى وحبّبوه وتحبّبوا إليه

| |عدد القراءات : 1914
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أحبوا الله تعالـى وحبّبوه وتحبّبوا إليه (*)

 

          الحمد لله  كما هو أهله وكما يستحقه حمداً كثيراً، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأكملهم أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

          ورد في حديث نبوي شريف أنه توجد فئة من الناس لهم مقام رفيع يوم القيامة يغبطهم عليه الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وتشرأبُّ أعناق طالبي الكمال إزاء مثل هذه الأحاديث ويقبلون عليها بكلّهم، والحديث الشريف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إني لأعرف ناساً ما هم أنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنزلتهم يوم القيامة: الذين يحبّون الله ويحببونه إلى خلقه يأمرونهم بطاعة الله فإذا أطاعوا الله أحبهم الله)([1])، فمن الغريب أنك تجد بعض الناس يتحمّس في الدعوة إلى محبة حزبه أو فريقه الرياضي الذي يشجعه، أو الشخص الذي يعجبه، ويغفل عن الدعوة إلى محبة خالقه الكريم ويزهد في هذا المنزلة الرفيعة.

          وهي منزلة قد لا يبدو من الصعب وصول الإنسان إليها بلطف الله تبارك وتعالى وتوفيقه إذ ليس عليه إلا أن يحبّبَّ الله تعالى إلى مخلوقاته، يأمر الله تعالى النخبة من عبادة ليكونوا من الدعاة إلى محبة الله تعالى، ففي حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (أوحى الله تعالى إلى موسى (عليه السلام): أحببني وحببني إلى خلقي، قال موسى: يا رب إنك لتعلم أنه ليس أحدٌ أحبُّ إلي منك فكيف لي بقلوب العباد؟ فأوحى الله إليه: فذكّرهم نعمتي وآلائي فإنهم لا يذكرون مني إلا خيراً)([2])، وورد مثله([3]) عن النبي داود (عليه السلام).

          وهذا الحديث يبين طريقاً لتحبيب الله تعالى إلى خلقه بتذكيرهم بنعمه التي لا تُعدّ ولا تحصى، ولا تحتاج معرفتها إلى مؤونة كبيرة، وليقم الإنسان بمراجعة لنفسه وحاله ليعرف سعة النعم، فمثلاً إذا جلس على الطعام ورأى أنواع المواد الداخلة في إعداده، وكم بُذل عليها من جهود لتصل إليه بهذا الشكل، ولننظر في الخبز الذي هو طعام مشترك لكل الناس كيف تعب الزرّاع لإنتاج حبات القمح ثم طحنت ونقلت وعُجنت وخبزت، وكل مرحلة من هذه المراحل يقوم عليها عمال ومكائن ولوازم أخرى كالوقود والماء وغيرها، فإذا تأمل الإنسان في هذه المنظومة الواسعة من النعم التي تشترك لتقدم له رغيف الخبز، أحبَّ الإنسان خالقه الذي هيّأ له كل هذه الأسباب وذلّل له كل الصعوبات، وإذا تأمل في الأنواع الأخرى من طعامه وشرابه فإنه سيعجز عن إدراكها فضلاً عن استقصائها. لذلك حكي عن البعض أنه كان يبكي حينما يقدَّم له الطعام لما يراه من أعظم النعم.

          وهذا لا يعني اقتصار النعم على المطعم والمشرب، ومن ظن ذلك فهو جاهل، فإن لله تبارك وتعالى على عبده نعماً لا تحصى على رأسها الإيمان بالله تعالى وتوحيده ونعمة الإسلام وولاية النبي وأهل بيته الطاهرين (صلوات ا لله عليهم أجمعين) وقد تضمن دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفه جملة من تلك النعم من قبل خروجنا إلى هذه الدنيا، ولو تعرّف الإنسان على عجائب بدنه لرأى عجباً. في أمالي الشيخ الطوسي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (من لم يعلم فضل الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قصر علمه ودنا عذابه)([4]) فإذا علم الإنسان بعض ما أنعم عليه ربه –وهي لا تعد ولا تحصى- أحبه، لأن الإنسان مجبول فطرياً على حب من أحسن إليه، ولو أن شخصاً وفّر لآخر واحدة من نعم الله كالحياة بانقاذه من غرق أو موت محقق أو وفّر له نعمة البصر أو السمع أو الطعام لأحبه وكان مديناً له طول حياته بذلك الإحسان. فكيف لا يحب الله تعالى الذي وفّر له كل هذه النعم.

          ومن الوسائل الأخرى لتحبيب الله تعالى إلى خلقه بيان صفاته الحسنى وتعريفه إلى خلقه بما هو أهله من الكمال فإن الإنسان ينجذب فطرياً إلى الجمال والكمال، وذلك يتطلب معرفة فإنه لا حب إلا بمعرفة، فنحن لم نرَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا أمير المؤمنين (عليه السلام) ولا الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء والحسن والحسين والأئمة المعصومين والأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم أجمعين) ولم نعايشهم ولكنهم وُصفوا لنا بمحاسن الأخلاق واطلعنا على سيرتهم الكريمة وسمو ذواتهم ومواقفهم النبيلة فأحببناهم، أما الجاهل بهم فإنه لا يعرفهم حتى يحبهم، وهكذا العلماء من السلف الصالح (قدس الله أرواحهم) فإن العامي الذي لا يعرف قيمة إنجازاتهم العظيمة يكون حبه هامشياً مجملاً، أما العلماء الذين وقفوا على مؤلفاتهم وسبروا أغوار علومهم وعلموا قوة ملكاتهم والجهود المضنية التي بذلوها فإنهم يحملون لهم كل الحب والإجلال والتعظيم.

          وهكذا إذا تعرّف الإنسان على الصفات الحسنى لخالقه أحبّه، فمثلاً إذا عرف سعة عفوه عن المذنبين وقرأ قوله تعالى: [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] (الزمر:53) وقرأ بعض الروايات في ذلك كقول الإمام الكاظم (عليه السلام) في الشاب الذي قتل مائة بريء وكان يائساً من عفو الله عنه فقال (عليه السلام): (إن يأسه من رحمة الله أعظم من قتله مائة نفس محرمة).

          أو عرف سعة رحمة الله تبارك وتعالى بعباده وأنه تعالى وزّع جزءاً من مائة جزء من رحمته على مخلوقاته فبها تتراحم)، تصوروا أن رحمة الأمهات والآباء بأبنائهم لدى الإنسان والحيوان والمشاعر النبيلة التي تتدفق عند رؤية مبتلى أو عاجز أو ذوي عاهة، تشكّل هذه كلها جزء من مائة جزء من رحمة الله تعالى التي لا حدود لها، والقصص في رحمة الله تعالى وتدبيره لأمر خلقه ورعايتهم عجيبة.

          أو عرف كيف أن الله يستر على المذنبين والخاطئين ويحفظ كرامتهم ويصون سمعتهم بين الناس كقصة السيد بحر العلوم (قدس سره) الذي أمره الإمام المهدي (أرواحنا له الفداء) بأن يزور رجلاً عادياً من عامة الناس ويبشره بعلو منزلته لخصلة أحبّها الله تعالى فيه وهي أنه لما تزوج امرأة لم يجدها باكراً فطلبت منه الستر عليها وعدم فضحها فاستجاب لطلبها قربة إلى الله تعالى.

          أقول: إذا تعرف الإنسان على مثل هذه الصفات لخالقه أحبه قطعاً.

          ومما يحبّب الله تعالى إلى عباده التعرف على سيرة أنبيائه ورسله وأوصيائهم المنتجبين وسمو أخلاقهم وطهارة نفوسهم، فإن رباً يكون رسله وسفراؤه إلى خلقه مثل نبينا الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ويكون أولياؤه مثل علي بن أبي طالب (عليه السلام) لجدير بأن يستأثر بحب عباده، لأنهم يعكسون صورة عن صفات ربهم. وكمثال على ذلك أن بعض الناس يحبون مرجعية ما ويقلدونها لأن وكيلها ومعتمدها عندهم حسن السيرة محبوب عندهم.

 

 

حب الله تعالى:

          ولا بد للإنسان قبل أن يحبب الله تعالى إلى خلقه أن ينطوي قلبه على حب الله تعالى، ويظهر من الآيات الكريمة والروايات الشريفة أن هذا الحب علامة الإيمان، بل لا يؤثر عليه حب غيره، قال تعالى: [قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ] (التوبة:24) وقال تعالى: [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ] (البقرة: 165) وقال تعالى: [فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ] (المائدة: 54).

          وروي أنه سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليك مما سواهما)([5]) وفي حديث آخر (لا يؤمن العبد حتى أكون أحبَّ إليه من أهله وماله والناس أجمعين).

          ويحصل الحب لله تبارك وتعالى بعد تحقق مقدمتين، كلما قويتا قوي الحب وكمُل:

الأولى: تطهير القلب من حب الدنيا وتهيئته بتفريغه لحب الله تعالى، فإن القلوب أوعية لا تستوعب أمراً ما حتى تخليها من غيره، قال تعالى: [مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ] (الأحزاب: 4) وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن كنتم تحبون الله فأخرجوا من قلوبكم حب الدنيا) وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا تخلى المؤمن من الدنيا سما ووجد حلاوة حب الله تعالى) ولذا وردت الوصية فيه عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (القلب حرم الله فلا تسكن حرم الله غير الله).

          وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نظر إلى مصعب بن عمير مقبلاً وعليه إهاب كبش قد تنطق به فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نوّر الله قلبه، لقد رأيته بين أبويه يغذونه بأطيب الطعام والشراب فدعاه حب الله وحب رسوله إلى ما ترون)([6]).

الثانية: المعرفة بالله تعالى، فإنه لا حب إلا بعد المعرفة، ولا يحب الإنسان شيئاً يجهله؛ ويكرر القرآن الكريم كثيراً الأمر بالتدبر والتأمل والتفكر في آيات الله للوصول إلى المعرفة، قال تعالى: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] (فصلت:53).

          وتفاوت الناس في حبهم لله تبارك وتعالى بمقدار تفاوتهم في هاتين المقدمتين، وتبعاً لذلك تتفاوت درجاتهم عند الله تبارك وتعالى.

 

آثار حب الإنسان لله تعالى وعلاماته:

          إذا كان الحب صادقاً فإن آثاره ستظهر على سلوك الإنسان وعلاقته بالآخرين، فهذه الآثار تكون علامات على صدق الحب، ومن دون تحققها يكون ادعاء الحب وهماً:-

1-    طاعة المحبوب والقيام بكل ما يقربه من محبوبه ويطبّق ما يكسبه رضاه ويجتنب ما يسخطه، ففي الحديث: (قال رجل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله علّمني شيئاً إذا أنا فعلته أحبني الله من السماء وأحبني الناس من الأرض، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) له: ارغب فيما عند الله عز وجل يحبّك الله، وازهد فيما عند الناس يحبّك الناس)([7]) قال الله تبارك وتعالى: [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] (آل عمران:31)، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (ما أحب اللهَ عز وجل من عصاه، ثم تمثّل فقال:

    تعصي الإله وأنت تُظهرُ حبّهُ              هذا لعمري في الفعال بديعُ

    لو كان حبّـك صادقاً لأطـعتَه               إن المحب لمن أحبَّ مطيعُ ([8])

                    ولا يجتنب المحرمات فقط بل يترك المكروهات لأن الله تعالى لا يحبها.

2-    إدامة ذكر الله تبارك وتعالى، فإن المحب لا يغفل عن ذكر حبيبه ومن أحب شيئاً أكثر ذكره بلسانه أو بقلبه وعقله وأحبّ ذكر الله تعالى، عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (علامة حب الله تعالى حب ذكر الله، وعلامة بغض الله تعالى بغض ذكر الله تعالى)([9])، ودوام ذكر الله تعالى حصن الإنسان من الوقوع فيما يسخط الله تعالى ويبعد منه ومفتاح الارتقاء في الكمالات وسبب لذكر الله تعالى إياه [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ] (البقرة: 152).

3-    إيثار محبة الله على ما يحبه العبد، فإذا خُيِّر بين أمرين اختار أرضاهما لله تبارك وتعالى وإن كان على خلاف هواه وما تشتهيه نفسه، لأن المحب يؤثر رضا محبوبه على رضا نفسه ففي البحار عن الإمام الصادق (عليه السلام): (دليل الحب، إيثار المحبوب على من سواه).

4-    إنه سيحب كل ما يرتبط بمحبوبه فيحب الأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم أجمعين) لأنهم مبعوثون من الله تبارك وتعالى، ويحب الأئمة والأوصياء (عليهم السلام) لأنهم منتجبون من الله تبارك وتعالى، ويحب القرآن لأنه رسالة ربه إلى عباده، عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للناس وهم مجتمعون عنده: أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة وأحبوني لله عز وجل وأحبوا قرابتي لي)([10]) ويحب العلماء والفقهاء لأنهم يهدونه إلى الله تبارك وتعالى، ويحب الشعائر والمشاعر المقدسة لأنها تذكّره بالله تعالى، ويحب المؤمنين لأنهم أهل طاعة الله تعالى، عن الإمام الباقر (عليه السلام): (إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً فانظر إلى قلبك فإن كان يحب أهل طاعة الله عز وجل ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحب).

5-    وإذا أحبَّ العبدُ ربَّه نشطت الأعضاء للعبادة ولم يستثقلها واستزاد منها فلم يقتصر على الواجبات، بل يكثر من المستحبات لأنها محبوبه عند الله تعالى، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (كان فيما ناجى الله عز وجل به موسى بن عمران (عليه السلام) أن قال: يا بن عمران كذب من زعم أنه يحبني فإذا جنه الليل نام، أليس كل محب يحب خلوة حبيبه، هذا أنا ذا يا بن عمران مطلع على أحبائي إذا جنّهم الليل حوّلت أبصارهم من قلوبهم ومثلت عقوبتي بين أعينهم، يخاطبوني عن المشاهدة، ويكلموني عن الحضور، يا بن عمران هب لي من قلبك الخشوع ومن بدنك الخضوع ومن عينيك الدموع في ظلم الليل وادعني فإنك تجدني قريباً مجيباً)([11]).

6-    ومن علامات حب الله تعالى أن العبد لا يكره الموت قال تعالى: [قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] (الجمعة:6) في الرد على زعمهم [وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ](المائدة:18)، وكيف يكرهه وبه ينتقل الإنسان من سجن الدنيا إلى حظيرة القدس ولقاء ربه وأوليائه ((وإذا علم أنه لا وصول إلى هذا اللقاء إلا بالارتحال عن الدنيا بالموت، فينبغي أن يكون محباً للموت غير فارٍ منه، فالمحب لا يثقل عليه السفر عن وطنه إلى مستقر محبوبه ليتنعم بمشاهدته. والموت مفتاح اللقاء وباب الدخول إلى المشاهدة قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) ))([12]).

            نعم قد يحب الإنسان البقاء في الدنيا للاستزادة من طاعة الله تبارك وتعالى ونيل رضاه وهذا لا ينافي الحب ((وفي الخبر المشهور أن إبراهيم (عليه السلام) قال لملك الموت إذ جاءه لقبض روحه: هل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فأوحى الله تعالى إليه: هل رأيت محباً يكره لقاء حبيبه، فقال: يا ملك الموت الآن فاقبض))([13]).

[بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ * وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ*]

7-    ومن علامات حب الله تعالى وآثاره أنه يسعى للاتصاف بصفاته الحسنى، فالمحب يتمثل في حياته كل حركات وسكنات بل رغبات محبوبه، كما نجد من يحب عالماً أو بطلاً فيقلّده في ملبسه ومشيته ومطعمه وحركاته ونحوها، فالعبد إذا أحب ربه اتصف بصفاته الحسنى.

8-    ومن علامات حبّ الله تعالى حبّ عباده ومخلوقاته والرحمة بهم والشفقة عليهم لأنهم من صنع ربه وإبداعه ولأنهم رعاياه فيسعى لإسعادهم وقضاء حوائجهم وتفريج كربهم ورفع الظلم عنهم. فالذي يقابل حاجة الناس ومعاناتهم بقسوة قلب وعدم اكتراث لا يحلّ في قلبه حبّ الله تعالى.

9-    ومن علامات حب الله تعالى الرضا بقضائه والتسليم لأمره روي (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّ بقومٍ فقال لهم: ما أنتم؟ فقالوا: مؤمنون. فقال: ما علامة إيمانكم؟ قالوا: نصبر على البلاء ونشكر عند الرخاء ونرضى بمواقع القضاء، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): مؤمنون برب الكعبة)([14]) وقال أيضاً: (إذا كان يوم القيامة أنبت الله لطائفة من أمتي أجنحة فيطيرون من قبورهم إلى الجنان يسرحون فيها ويتنعمون كيف شاؤوا فتقول لهم الملائكة: هل رأيتم حساباً؟ فيقولون: ما رأينا حساباً، فيقولون: هل جزتم على الصراط؟ فيقولون: ما رأينا صراطاً، فيقولون لهم: هل رأيتم جهنم؟ فيقولون: ما رأينا شيئاً، فتقول الملائكة: من أمة من أنتم؟ فيقولون: من أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيقولون: نشدناكم الله حدثونا ما كانت أعمالكم في الدنيا فيقولون: خصلتان كانتا فينا فبلّغنا الله هذه المنزلة بفضله ورحمته، فيقولون: وما هما؟ فيقولون: كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه ونرضى باليسير مما قسم لنا، فتقول الملائكة: يحق لكم هذا)([15]).

10-       وأن يكون الحب ممزوجاً بالخوف من الإعراض أو الإبعاد أو أن يستبدل به غيره، يروى أن الإمام (عليه السلام) إذا أحرم ولبى وقال: (لبيك اللهم لبيك) كانت ترتعد فرائصه ويقول: أخشى أن يجيبني الله تبارك وتعالى: لا لبيك. وقد يكون الخوف من التوقف وعدم التوفيق لمزيد القرب من الله تعالى فيكون من أهل الحديث: (من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان يومه شراً من أمسه فهو ملعون)([16]).

                               

جزاء من يحب الله تبارك وتعالى:

1-    إذا أحب العبد ربه أحبه وقرّبه منه وأدخله جنته قال تعالى: [يُحِبَّهُم وَيُحِبُّونَهُ]، عن الإمام الصادق (عليه السلام): (من أحب أن يعلم ماله عند الله فلينظر ما لله عنده)([17]) ويشرح الحديث الآخر كيفية معرفة ذلك عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (من أراد منكم أن يعلم كيف منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله منه عند الذنوب كذلك منزلته عند الله تبارك وتعالى)، وفي حديث آخر عن علي (عليه السلام) قال: (من أحب أن يعلم كيف منزلته عند الله فلينظر كيف منزلته عنده فإن كل من خيِّر له أمران أمر الدنيا وأمر الآخرة فاختار أمر الآخرة على الدنيا فذلك الذي يحب الله ومن اختار الدنيا فذلك الذي لا منزلة لله عنده)([18]).

           وروي في أخبار داود (عليه السلام) (يا داود أبلغ أهل أرضي أني حبيب من أحبني، ما أحبني أحد أعلم ذلك يقيناً من قلبه إلا قبلته لنفسي وأحببته حباً لا يتقدمه أحد من خلقي، من طلبني بالحق وجدني ومن طلب غيري لم يجدني، فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي ومؤانستي وآنسوني أؤانسكم وأسارع إلى محبتكم)([19])،  

2-    وإذا أحب الله عبده: وفقه لطاعته وجنّبه معصيته، روي أن موسى (عليه السلام) قال: (يا رب أخبرني عن آية رضاك عن عبدك فأوحى الله تعالى إليه: إذا رأيتني أهيئ عبدي لطاعتي وأصرفه عن معصيتي فذلك آية رضاي)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا أحب الله عبداً ألهمه طاعته). وفي حديث آخر (إذا أحبّ الله عبداً جعل له واعظاً من نفسه وزاجراً من قلبه يأمره وينهاه).

3-    وإذا أحب الله عبده: تولى أمره وتدبير شؤونه، ونصره على أعدائه، وأولهم نفسه التي بين جنبيه فلا يخذله ولا يكله إلى نفسه وشهواته، وفي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (عن جبرئيل قال: قال الله تبارك وتعالى: وإن من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفّه عنه لئلا يدخله عجب فيفسده، وإن من عبادي المؤمنين لمن لم يصلح إيمانه إلا بالفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك)([20]) إلى آخر الحديث.

4-    وإذا أحب الله عبده: كان دليله وسدد خطاه وأنار بصيرته وما أحوجنا إلى دليل يسدّدنا ويميّز بين الحقّ والباطل ويبصّرنا بحقائق الأمور، في الحديث النبوي المتقدم: قال الله تبارك وتعالى: (وما يتقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يبتهل إليّ حتى أحبه، ومن أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً وموئلاً إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته)([21]).

5-    وإذا أحبّ الله عبداً حشره مع من أحب، جاء إعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ماذا أعددت لها؟ فقال: ما أعددت كثير صلاة ولا صيام إلا أنّي أحب الله ورسوله، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): المرء مع من أحب. قال: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك)([22]).

 

ما يحببكم إلى الله تعالى:

          من خلال استقراء الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تحصل على قائمة طويلة بما يحببك إلى الله تعالى، قال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ] (البقرة: 222) وقال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ] (الصف:4).

          ومن الأحاديث الشريفة([23]) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (ثلاثة يحبها الله سبحانه: القيام بحقه، والتواضع لخلقه والإحسان لعباده) وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (ثلاثة يحبها الله: قلة الكلام، وقلة المنام، وقلة الطعام، ثلاثة يبغضها ا لله: كثرة الكلام، وكثرة المنام، وكثرة الطعام) وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (يقول الله تعالى: إنّ أحبَّ العباد إلي المتحابون بحلالي المتعلقة قلوبهم بالمساجد المستغفرون بالأسحار، أولئك إذا أردت بأهل الأرض عقوبة ذكرتهم فصرفت العقوبة عنهم).

          وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أحب العباد إلى الله عز وجل رجل صدوق في حديثه محافظ على صلواته وما افترض الله عليه مع أدائه للأمانة) وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (أحب المؤمنين إلى الله من نصب نفسه في طاعة الله ونصح لأمة نبيه وتفكّر في عيوبه وأبصر وعقل وعمل) وعن الإمام الباقر (عليه السلام): (ما عبد الله بشيء أحب إلى الله عز وجل من إدخال السرور على المؤمن) وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (ألا وإن أحب المؤمنين إلى الله من أعان المؤمن الفقير من الفقر في دنياه ومعاشه ومن أعان ونفع ودفع المكروه عن المؤمنين)، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (ما بني بناء في الإسلام أحب إلى الله عز وجل من التزويج)([24]).

 

أيها الأحبة:

          إن الله تبارك وتعالى يحبُّكم لأنه خالقكم وصانعكم وأبدع في صنعكم وجعلكم في أحسن تقويم وكرّمكم وفضلكم على كثير ممن خلق وسخّر لكم ما في الأرض جميعاً ويباهي بكم ويتحدى بكم من اتخذوهم أرباباً من دونه وأنداداً له [هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ] (لقمان:11) يروى أن أبا تمام الشاعر المشهور يقول إن كل بيت من شعري عندي كابني، أقول: هذا وهو بيت من الشعر مهما كان بديعاً، فما هو محل هذا الكائن العجيب عند خالقه ومبدعه.

أتحسب أنّك جرمٌ صغير           وفيك انطوى العالم الأكبر

 

فأحبوا الله تبارك وتعالى وحببوه إلى عباده وأحبوا عباد الله ومخلوقاته، واجعلوا دليلكم في من تحبون ومن تبغضون حب الله لهم وبغضه إياهم، في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (مِن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله وتعطي في الله وتمنع في الله)([25]) وفي المحاسن عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع له فهو ممن كمل إيمانه).

 

 



(*) خطبة سماحة آية الله الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في صلاة عيد الأضحى سنة 1430 التي أقيمت بتأريخ 28/11/2009.

([1]) مجمع الزوائد للهيثمي: 1/126.

([2]) بحار الأنوار: 13/351.

([3]) بحار الأنوار: 14/38.

([4]) بحار الأنوار: 20/69.

([5]) هذا الحديث والذي يليه تجده في مجموعة ورّام (تنبيه الخواطر ونزهة النواظر): 1/223.

([6]) المحجة البيضاء، كتاب مقامات القلب: 114.

([7]) بحار الأنوار: 70/5 عن ثواب الأعمال والخصال.

([8]) بحار الأنوار: 70/15 عن أمالي الصدوق.

([9]) ميزان الحكمة: 1/510.

([10]) بحار الأنوار: 70/16 عن علل الشرائع والأمالي للصدوق.

([11]) بحار الأنوار: 70/14 عن أمالي الصدوق.

([12]) المحجة البيضاء للفيض الكاشاني، كتاب مقامات القلب.

([13]) مجموعة ورام: 1/223.

([14]) مجموعة ورام: 1/229.

([15]) مجموعة ورام: 1/230.

([16]) معاني الأخبار للصدوق: 242.

([17]) الحديث وما بعده في بحار الأنوار: 70/18 عن معاني الأخبار والخصال.

([18]) بحار الأنوار: 70/26.

([19]) الحديث والذي يليه في بحار الأنوار: 70/26.

([20]) علل الشرائع: 12 الباب 9، ح7.

([21]) وفي المحاسن: (كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها) (بحار الأنوار: 70/22).

([22]) مجموعة ورام: 1/223.

([23]) هذه الأحاديث نقلت من بحار الأنوار ومجموعة ورام.

([24]) وسائل الشيعة: كتاب النكاح، باب استحبابه، ح4.

([25]) الحديث والذي يليه في بحار الأنوار: 69/238-239.