الخطبة الأولى إنما بلغ علي (عليه السلام) منزلته بالصدق وأداء الأمانة

| |عدد القراءات : 2248
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى

إنما بلغ علي (عليه السلام) منزلته بالصدق وأداء الأمانة(*)

 

          الحمد لله  والحمد حقه كما يستحقه حمداً كثيراً، وأعوذ به من شر نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي.

          والصلاة والسلام على أشرف خلق الله تبارك وتعالى وأحبِّهم إليه وأكرمهم عليه أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.

          لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) منزلة عند الله تبارك وتعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يعرفها إلا الله تعالى ورسوله، كما ورد في الحديث الشريف: (يا علي لا يعرفك إلا الله وأنا)، ونختصرها بأنه نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنص القرآن الكريم في آية المباهلة: [وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ] (آل عمران: 61)، فبمَ بلغ علي (عليه السلام) هذه المنزلة؟ وأي طالب للكمال لا يريد أن يعرف كيف أصبح علي (عليه السلام) بهذه المنزلة ليتأسى به ويقتفي آثاره.

          لا يحق لنا أن نجيب لأننا لا نعرف علياً (عليه السلام) حق معرفته، ولولا أن الجواب جاءنا عن أهل بيت العصمة (سلام الله عليهم) لما أجبنا، فقد روى الكليني (رضوان الله عليه) بسنده عن أبي كهمس (الهيثم بن عبد الله الشيباني) قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): عبد الله بن أبي يعفور يقرأك السلام، قال: وعليك وعليه السلام، إذا أتيت عبد الله فاقرأه السلام وقل له: إن جعفر بن محمد يقول لك: انظر ما بلغ به علي عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فالزمه، فإن علياً (عليه السلام) إنما بلغ ما بلغ عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بصدق الحديث وأداء الأمانة)([1]).

          وهذا جزء من برنامج عملي ومنهج للتكامل وضعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لتربية أمير المؤمنين (عليه السلام) وصناعته [ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَينِي] (طه: 39) ومن أهل البيت (عليهم السلام) تؤخذ وسائل التكامل وليس من أدعياء السلوك والمعرفة الذين يبتدعون مناهج وبرامج لا وجود لها في سنة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وهذه الوصفة الإلهية التي قدّمها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) رويت بسند صحيح في أصول الشيعة كالكافي ومن لا يحضره الفقيه والتهذيب وكتاب المحاسن للبرقي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها، ثم قال: اللهم أعنه، أما الأولى: فالصدق لا يخرجن من فيك كذبة أبداً، والثانية الورع لا تجترين على خيانة أبداً، والثالثة الخوف من الله كأنك تراه، والرابعة كثرة البكاء من خشية الله عز وجل يبنى لك بكل دمعة بيت في الجنة، والخامسة بذل مالك ودمك دون دينك، والسادسة الأخذ بسنتي في صلاتي وصيامي وصدقتي، أما الصلاة فالخمسون ركعة، وأما الصوم فثلاثة أيام في كل شهر خميس في أوله، وأربعاء في وسطه، وخميس في آخره، وأما الصدقة فجهدك حتى يقال: أسرفت ولم تسرف، وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الزوال، وعليك بقراءة القرآن على كل حال، وعليك برفع يديك في الصلاة، وتقليبهما، وعليك بالسواك عند كل وضوء وصلاة، وعليك بمحاسن الأخلاق فاركبها، وعليك بمساوئ الأخلاق فاجتنبها، فإن لم تفعل فلا تلومنّ إلا نفسك)([2]).

          ونعود إلى الحديث الذي بدأنا به وأن علياً (عليه السلام) بلغ ما بلغ بالصدق وأداء الأمانة، وحينئذٍ قد يقال بأن هاتين الخصلتين مما يتيسر الاتصاف بهما مع أن منزلة علي مما لا يبلغها أحد من بعده كما قال (عليه السلام): (ألا وأنكم لا تقدرون على أن تصيروا مثلي) لذا فإن الأمر يحتاج إلى شيء من الإيضاح والتفصيل، وسنتحدث هنا عن أداء الأمانة، حيث ينصرف الذهن إلى قضية وضع أموال الناس وممتلكاتهم عند بعضهم واستردادهم عند مطالبة أصحابها، فأداء الأمانة يعني رد الحقوق وإيصالها إلى أهلها.

          وبهذا المعنى يتساوى كثيرون مع علي بن أبي طالب، لكن الأمانة لها معنى أوسع من هذا بكثير وأداء الأمانة يقتضي مسؤوليات كبرى.

          وأول أمانة وأعظمها هي تلك التي عرضها الله تبارك وتعالى على جميع المخلوقات فاعتذرت عن تحملها وحملها الإنسان قال تعالى: [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً] (الأحزاب:72) وهي أمانة العهد والميثاق الذي أخذه الله تبارك وتعالى على عباده ليمنحهم بمقتضاه خلافة الله تعالى في الأرض بأن يكون الإنسان مخلوقاً عاقلاً رشيداً ويُسخَّر له الكون كله على أن يكون موحداً لله تبارك وتعالى ومن ثم تعريضه للجزاء والحساب ليثاب على إحسانه بجنة عرضها السماوات والأرض ويحاسب على سيئاته، قال تعالى: [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ] (الأعراف:172).

          ويعيد الإنسان التأكيد على هذا الميثاق عندما يصافح الحجر الأسود فيقول: (اللهم أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة).

          تلك الخلافة التي تعني أن يكون الإنسان مظهراً للصفات الإلهية والأسماء الحسنى فيجعل الله تعالى المثل الأعلى الذي يبذل وسعه للاتصاف بصفاته [وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى] (النحل: 60) وورد في الحديث الشريف (تخلقوا بأخلاق الله) وهي لا تقتصر على الأسماء الحسنى كالرحيم والكريم والغفار والعليم، بل تشمل كل الصفات الإلهية التي نطق بها القرآن الكريم والأدعية الشريفة والروايات المأثورة كقوله (عليه السلام) في دعاء الافتتاح: (فلم أرَ مولىَ كريماً أصبرَ على عبدٍ لئيمٍ منك عليّ يا ربِّ إنك تدعوني فأولّي عنك، وتتحبب إليّ فأتبغّضُّ إليك، وتتودد إلي فلا أقبل منك، كأن لي التطول عليك، فلم يمنعك ذلك من الرحمة لي والإحسان إلي، والتفضل علي بجودك وكرمك)، فهذه صفة لله تبارك وتعالى علينا أن نسعى للتخلق بها وهكذا غيرها.

          وباداء هذه الأمانة أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) من خطبة له: (ثم أداء الأمانة، فقد خاب من ليس من أهلها، إنها عُرضت على السماوات المبنية والأرضين المدحوة، والجبال ذات الطول المنصوبة، فلا أطول ولا أعرض ولا أعلى ولا أعظم منها. ولو امتنع شيء بطول أو عرض أو قوة أو عز لامتنعن، ولكن أشفقن من العقوبة، وعقلن ما جهل من هو أضعف منهن، وهو الإنسان [إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً])([3]).

          وقد تمثلت في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) كل الصفات الحسنى المتاحة للمخلوقات فقد ورد في الحديث أن أهل البيت (عليهم السلام) حازوا اثنين وسبعين حرفاً من الاسم الأعظم ذي الثلاثة والسبعين حرفاً وبقي حرف واحد اختص تبارك وتعالى به لنفسه وكانوا مظهراً لكل الصفات الإلهية المتاحة لهما كمخلوقات ، فأدى أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الأمانة خير أداء.

          ويعني أداء هذه الأمانة الإيمان والالتزام بكل العقائد الحقة التي أشهد الله تبارك وتعالى عباده عليها [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ] (الأعراف:172) والأحكام الشرعية التي حدها لعباده والشهادة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرسالة والنبوة ولأمير المؤمنين (عليه السلام) بالولاية ولأهل بيته بالمودة والإتباع، ولذا ورد في الكافي تفسير الآية أن (الأمانة هي ولاية أمير المؤمنين).

          ومن مصاديق الأمانة نفسك التي بين جنبيك، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (عباد الله، الله الله في أعز الأنفس عليكم، وأحبها إليكم: فإن الله قد أوضح لكم سبيل الحق وأنار طرقه، فشقوةٌ لازمة، أو سعادة دائمة! فتزودوا في أيام الفناء لأيام البقاء، قد دُللتم على الزاد وأمرتم بالظعن وحُثثتم على المسير)([4]) فهي أعز أمانة استودعك الله إياها أو ائتمنك عليها لتهذبها وتحميها من إتباع الهوى ونزغات الشيطان وأن لا تسلس القياد لها فتوردك موارد الهلكة فإن إعطاءها ما تريد –وهي الأمارة بالسوء- يقود إلى الهلاك. في دعاء الصباح لأمير المؤمنين (عليه السلام): (فبئس المطية التي امتطت نفسي من هواها، فواهاً لها لما سولت لها ظنونها ومناها).

          وهي قد تبدو مفارقة أن تكون رعاية النفس والإحسان إليها بمنعها مما تشتهيه وكبح جماحها، وعدم إطلاق العنان لها في اللهو واللعب كالذين قضوا ساعات شهر رمضان المباركة –التي جعلها الله تبارك وتعالى ميداناً لأوليائه يتسابقون فيها إلى رضوانه- يقضونها بمتابعة المسلسلات الماجنة ولعبة المحيبس وأمثالها، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في المناجاة الشعبانية: (إلهي قد جُرتُ على نفسي في النظر لها، فلها الويل إن لم تغفر لها) ويقول (عليه السلام): (وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبُت على جوانب المزلق)([5])، وقال (عليه السلام): (وأيمُ الله –يميناً أستثني فيها بمشيئة الله- لأرُوضَنَّ نفسي رياضةً تَهِشُّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً)([6]) وفي ذلك يوصي الإمام الصادق (عليه السلام) شيعته خصوصاً الذين يسوّفون التوبة والندم والاستغفار والذين يتلفون أنفسهم فيما يسمونه (جهاداً) أو (ثورة) أو (مقاومة) ونحوها دون الرجوع إلى البصير بأمور الشريعة وما يصلح الأمة، قال (عليه السلام): (عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم، فوالله إن الرجل لَيكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها، والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرب بها، ثم كانت الأخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة، فأنتم أحقّ أن تختاروا لأنفسكم، إن أتاكم آتٍ منّا فانظروا على أي شيء تخرجون) (فنحن نشهدكم أنا لسنا نرضى به وهو يعصينا اليوم وليس معه أحد، وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا يسمع منا)([7]).

          ومن مصاديق الأمانة: جسدك الذي ائتمنك الله تبارك وتعالى وصنعه لك بأحسن تقويم لتتخذه وسيلة للكمال والوصول إلى الغاية وأمرك بالاعتناء به وحفظه وتوظيفه لهذا الهدف السامي وهو طاعة الله تبارك وتعالى وعبادته فهو وسيلة وليس غاية، ومما ورد في مناجاة الخائفين للإمام السجاد (عليه السلام): (إلهي هل تسوّدُ وجوهاً خرَّتْ ساجدة لعظمتك، أو تُخرسُ ألسنةً نطقت بالثناء على مجدك وجلالتك، أو تطبع على قلوبٍ انطوت على محبتك، أو تُصِمُّ أسماعاً تلذذت بسماع ذكرك في إرادتك، أو تغلّ أكفاً رفعتها الآمال إليكَ رجاء رأفتك، أو تعاقب أبداناً عملت بطاعتك حتى نحلت في مجاهدتك، أو تعذب أرجلاً سعت في عبادتك).

          فمن الخيانة توظيف الجسد في الحرام كاللواتي يتاجرن به أو الذين يستخدمون بعض جوارحهم في الحرام ومن الخيانة إيلام الجسد وإيذاؤه ولو بمثل التدخين الضار فضلاً عن المحرمات كشرب الخمر والزنا أو إيذاؤه تحت عناوين مبتدعة كبعض ما يأمر به أدعياء السلوك إلى الله تعالى والمعرفة ولو كان في ما يفعلونه خيراً لما توقف الأئمة المعصومون (عليهم السلام) عن بيانه وهم كجدهم (صلى الله عليه وآله وسلم) [بِالمُؤمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ] فلا يحبسون عنهم ما ينفعهم، ومن الإيذاء ما يفعله البعض باسم شعائر الحسين (عليه السلام) والتفجّع لمصابه وهي براءٌ منه [قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ] (يونس: 59).

          ومن الخيانة إغراق الجسد في الراحة والترف والاعتناء بمتع الجسد وكمالياته بعيداً عن الهدف، لأنه وسيلة وليس غاية، فلا يعقل إمضاء الوقت المقرر للسفر بالاعتناء بواسطة النقل وترتيبها وتجميلها حتى ينتهي الوقت المقرر لبلوغ الغاية. وهكذا عمر الإنسان المخصص للسفر إلى الملكوت فلا يقضيه في إمتاع الجسد وراحته، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أريحوا أجسادكم بالتعب ولا تتعبوها بالراحة)،وكان (عليه السلام) لا يعطي لجسده إلا ما يقويه على طاعة الله تبارك وتعالى لذلك كان جسده قوياً متيناً قادراً على الانسجام مع ما يقتضيه مقام أمير المؤمنين (عليه السلام) من الفناء في طاعة الله تبارك وتعالى والجهاد في سبيله حتى قال بعض المتخصصين عندما اطلع على نظام حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) وغذائه: ((لولا ضربة ابن ملجم لكان من الممكن أن يعيش علي (عليه السلام) إلى آخر الدهر)) ويجيب (عليه السلام) على من يستشكل عليه ويرى أن قوة الجسد في الترف والتنعم، قال (عليه السلام): (وكأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان، ألا وإن الشجرة البرّيّة أصلب عوداً والروائع الخضرة أرق جلوداً والنباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً)([8])، ويقول (عليه السلام): (فما خُلقتُ ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقمُّمها تكترش من أعلافها وتلهو عما يُراد بها، أو أترك سدى، أو أهملَ عابثاً، أو أجُرُّ حبل الضلالة أو أعتسف طريق المتاهة)([9]).

          وإذا انتقلنا إلى أداء الأمانة للآخرين؛ فمن مصاديقها الزوجة فإنها أمانة عند زوجها كما ورد في الدعاء المأثور عند إدخال الزوجة على زوجها: (اللهم على كتابك تزوجتها، وفي أمانتك أخذتها، وبكلماتك استحللت فرجها) إلخ، ولم تأتِ إلى بيت الزوج إلا بعقد وصفه الله تبارك وتعالى بأنه ميثاق غليظ قال تعالى: [وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً] (النساء: 21) وهو وصف ميثاقه تبارك وتعالى مع الأنبياء والرسل [وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً] (الأحزاب:7) وواجبه تجاه هذه الأمانة إكرامها ومعاشرتها بالمعروف ففي الحديث: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله) (ما أكرمهن إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم) فمن ظلم زوجته وقصّر في إكرامها فقد خان الأمانة.

          وعيالك أمانة عندك تنفق عليهم وتهذبهم وتحسن تربيتهم وتوجيههم إلى الأخلاق الفاضلة وفعل الخير.

          والزوج أمانة عند زوجته تحفظه في ماله ونفسها وتطيعه إذا أمرها.

          والعلم أمانة تعمل به وتبذله لمن يستحقه فإنّ بذل العلم لأهله صدقة وفي قصص بني إسرائيل أن جليساً لموسى (عليه السلام) وعى علماً كثيراً عذّبه الله تبارك وتعالى بمسخه قرداً في عنقه سلسلة فسأل موسى (عليه السلام) ربه عنه فأوحى إليه: (إني كنت حمّلته علماً فضيّعه وركن إلى غيره).

          والموقع السياسي والإداري والاجتماعي والعشائري هو أمانة يُسأل الإنسان عن أدائها والقيام بحقوقها وليس غنيمة يستأكل بها، وإن الله تبارك وتعالى مسائله عن حسن سيرته مع من ولاه عليهم، وهذا المعنى ركّز عليه أمير المؤمنين (عليه السلام) لرسوخ معنى الغنيمة و (تقاسم الكعكة) –بمصطلح الحكام والسلطات- ففي كتابه إلى عامله على آذربيجان أشعث بن قيس يقول (عليه السلام): (وإن عملك ليس لك بطعمةٍ ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعىً لمن فوقك. ليس لك أن تفتات في رعية، ولا تخاطرَ إلا بوثيقة، وفي يديك مالٌ من مال الله عز وجل، وأنت من خزانه حتى تسلمه إليّ، ولعلي ألا أكون شرّ ولاتك لك، والسلام)([10]).      

          ويعلّم (عليه السلام) مالك الأشتر أوصاف الذين يختارهم للولاية والإدارة والحكم: (ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً، ولا تولّهم محاباةً وأثَرة، فإنهم جِماعٌ من شعب الجور والخيانة، وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء)([11]).

          وكان يحاسب عماله أشدَّ المحاسبة إذا علم منهم تقصيراً أو خيانة، ولم ينقل التأريخ خيانة بعض عمال بعض عمال أمير المؤمنين (عليه السلام) إلا من خلال كشفه (عليه السلام) لهم، في حين أن الحكام الآخرين كانوا فاسدين لكنهم لم يحاسبهم من هو فوقهم، فقد كتب إلى زياد بن أبيه وهو خليفةُ عاملِه على البصرة وتوابعها كالأهواز وفارس وكرمان عبد الله بن عباس: (وإني أقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني أنك خُنتَ من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً لأشدَّنَّ عليك شدةً تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر ضئيل الأمر، والسلام)([12]).

          وكتب (عليه السلام) إلى المنذر بن الجارود العبدي، وقد خان في بعض ما ولاه من أعماله: (أما بعد، فإن صلاح أبيك غرني منك، وظننت أنك تتبع هديه وتسلك سبيله، فإذا أنت –فيما رُقِّيَ إليّ عنك - لا تَدَعُ لهواك انقياداً ولا تُبقي لآخرتك عتاداً، تعمر دنياك بخراب آخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك، ولئن كان ما بلغني عنك حقاً، لَجَمَلُ أهلك وشسع نعلك خير منك، ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يُسَدَّ به ثغر أو يُنفَذَ به أمر، أو يُعلى له قدر أو يُشركَ في أمانة، أو يؤمن على جباية، فأقبل إليَّ حين يصل إليك كتابي هذا، والسلام)([13]).

أيها الأحبة:

          هذا بعض ما يمكن أن نفهمه من معنى الأمانة التي أُمرنا بأدائها، قال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا] (النساء:58) والتي ورد في فضلها وأهميتها الكثير كقول الصادق (عليه السلام): (لا تغترّوا بكثرة صلاتهم ولا بصيامهم فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة)([14]).

          وبإزاء هذا المعنى الواسع للأمانة وأدائها يكون معنى الخيانة واسعاً فهي تشمل كل تفريط أو تقصير في أداء حق واجب على الإنسان، وهو ظاهر قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] (الأنفال:27) فعن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير الآية: (فخيانة الله والرسول معصيتهما، وأما خيانة الأمانة فكل إنسان مأمون على ما افترض الله عز وجل)([15]).

          وقد وردت في الروايات أمثلة لخيانة الأمانة تتجاوز المعنى المتعارف كقول الصادق (عليه السلام): (أيما رجل من أصحابنا استعان به رجل من إخوانه في حاجة فلم يبالغ بكل جهده فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)([16]) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (الخائن من شغل نفسه بغير نفسه وكان يومه شراً من أمسه)([17]).

          وأعظم الخيانة خيانة الأمة في أي موقع ديني أو اجتماعي أو سياسي أو مالي أو إداري.

          ومما كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى بعض عماله بعد أن بيّن له ما يجب فعله قال (عليه السلام): (وإلا تفعل فإنك من أكثر الناس خصوماً يوم القيامة، وبؤسىً لمن خصمه عند الله: الفقراء والمساكين والسائلون والمدفوعون والغارمون وابن السبيل.

          ومن استهان بالأمانة، ورتع في الخيانة ولم ينزه نفسه ودينه عنها؛ فقد أحل بنفسه الذل والخزي في الدنيا وهو في الآخرة أذلّ وأخزى، وإن أعظم الخيانة خيانة الأمة، وأفظع الغش غش الأئمة، والسلام)([18]).

         



(*) الخطبة الأولى لصلاة عيد الفطر السعيد عام 1430 المصادف 21/9/2009، وأصلها كلمة تحدث بها سماحته إلى حشد من الزوار ليلة استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) في 21/رمضان/1430.

([1]) وسائل الشيعة: كتاب الوديعة، باب 1، ح1.

([2]) وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 4، ح2.

([3]) نهج البلاغة من الخطبة (199).

([4]) المصدر، الخطبة (157).

([5]) نهج البلاغة، قسم الرسائل، العدد: 45.

([6]) المصدر السابق، نفس الموضع.

([7]) وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 13، ح1.

([8]) نهج البلاغة قسم الرسائل، العدد: 45.

([9]) نهج البلاغة، قسم الرسائل ، نفس الموضع.

([10]) المصدر، العدد: 5.

([11]) المصدر، العدد 53.

([12]) المصدر، العدد 20.

([13]) المصدر، العدد 71.

([14]) وسائل الشيعة: كتاب الوديعة، باب 1، ح2.

([15]) تفسير نور الثقلين:2/144.

([16]) بحار الأنوار: 72/177.

([17]) غرر الحكم للآمدي، الحديث 2013.

([18]) نهج البلاغة، قسم الرسائل، العدد 26.