التقية وتضييق دائرة الخطوط الحمراء في العمل الاسلامي

| |عدد القراءات : 5086
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

التقية وتضييق  دائرة الخطوط الحمراء في العمل الاسلامي([1])    

 

(التقية) مبدأ قرآني صرحت به الآية الشريفة التي نزلت في الحادثة المعروفة لعمار بن ياسر (رضوان الله تعالى عليه) عندما عذبته قريش وقتلت أباه وأمه قال تعالى: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ )(آل عمران/ 28).

وقد تواترت فيها الروايات([2]) عن أهل البيت(عليهم السلام) كقول الامام الباقر (عليه السلام) ( التقية من ديني ودين آبائي ولا إيمان لمن لا تقية له) وقول الامام الصادق(عليه السلام) ( من كانت له تقية رفعه الله ، من لم تكن له تقية وضعه الله). فلا قيمة بعد ذلك لمن يشنّع على الشيعة باعتقادهم بهذا المبدأ ويصفهم بما هم بريئون منه.

وفي ضوء ذلك فلا صحة لما قيل من أن السيد الشهيد الصدر الثاني(قده) خالف التقية ونسبوا إليه أنه قال: ولّى زمان التقية، فزمان التقية باقٍ والسيد الشهيد الصدر الثاني(قده) يعرف دين اجداده جيداً. وهو الذي كتب لي في الثمانينات ـ وقد اوردته في كتاب الشهيد الصدر كما اعرفه ـ اننا في زمان تقية أشد من زمان الامام الحسن(عليه السلام) الذي وقّع الهدنة مع معاوية. إذن ما الذي نسميه ما قام به بعد أكثر من عشر سنوات من حركة اصلاحية عبّأ لها مئات الالآف  وانتهت بشهادته؟

وهذا السؤال  لا يشمل حركة السيد الصدر (قده) بل حتى الائمة  المعصومين(سلام الله عليهم) فبعد أن كان الائمة المعصومون (عليهم السلام) يعيشون في تقية شديدة بحيث لا يستطيعون أن يسلموا على أحد ويسلّم عليهم أحد كما في الرواية في الكافي عن حماد بن واقد اللحام قال: (استقبلت أبا عبد الله(عليه السلام) في طريق فأعرضت عنه بوجهي  ومضيت، فدخلت عليه بعد ذلك، فقلت: جُعلت فداك إني لألقاك فأصرف وجهي كراهة أن أشقّ عليك فقال لي: رحمك الله ولكن رجلاً لقيني أمس في موضع كذا وكذا فقال: عليك السلام يا ابا عبد الله، ما أحسن ولا أجمل)([3])   تجد الامام الصادق(عليه السلام) نفسه يؤسس جامعة كبرى ويتخرج على يديه الاف العلماء في شتى حقول العلم والمعرفة فهل خالف الإمام التقية؟

الأمر ليس كذلك بالتاكيد ولكن الجواب باختصار أن من وظائف القائد العمل على خلق أجواء وظروف يضيّق بها دائرة التقية ويوسع بها دائرة العمل  الممكن وبتعبير آخر: يرجع الخطوط الحمراء التي كان يقف العمل عندها مراعاة للتقية.

ومن تلك الظروف التي صنعها الامام(عليه السلام) دعمه غير المعلن لثورات العلويين ضد الطغاة والمستكبرين والمستأثرين حتى روي عنه قوله(عليه السلام) ( لا أزال انا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد، ولوددت أن الخارجي  من آل محمد خرج وعليّ نفقة عياله)([4]) .

وقد استمرت تلك الثورات المسلحة مما أربك السلطة واقلقها وجعلها تغضّ الطرف عن الحركة العلمية والاجتماعية  للامام (عليه السلام) ورفعت عنها الخطوط الحمر حيث لم تعتبرها تهديداً مباشراً.

فالذي يفعله القادة والمصلحون هو توسيع دائرة العمل الاسلامي المبارك وتضييق دائرة الخطوط الحمراء التي تعترضهم، وقد عرضت فكرت تندرج على هذا السياق قبل أيام في ملتقى مرشدي قوافل الحجاج([5])  ، إذ حثثتهم على  اصطحاب أكبر عدد ممكن من الحجاج لأداء الوقوف الاضطراري في عرفة في اليوم الذي نعتقده أنه التاسع بحسابنا غير الوقوف الذي يؤدونه مع  الناس إذا حصل خلاف في أول الشهر، مع أننا نقول بإجزاء الوقوف مع عامة الناس مطلقاً حتى لو كان الفرق في الحساب كبيراً بمقتضى الدلة التي ذكرتها في محلها والمصلحة التي توخيناها هي إنشاء حالة خاضعة على السلطات في المملكة لتأخذ بنظر الاعتبار رأي علماء الشيعة في مسألة الهلال عسى ان يتوحد أول الشهر ويقف الجميع في اليوم التاسع الفعلي.

وهذه الوظيفة ـ اعني توسيع دائرة العمل الاسلامي وتضييق دائرة الخطوط الحمراء ـ تؤديها المرجعيات الرسالية الواعية وتدفع الثمن في النهاية دماً زكياً اسوة بالائمة المعصومين(سلام الله عليهم)، اما المرجعيات التقليدية فعلى العكس من ذلك فإنها لا تكتفي بعدم التقدم بل تتراجع وتفرّط بما مكّنها الله تبارك وتعالى  من إمكانيات وتضيّع هذا الرصيد الضخم فإنا لله وإنا إليه راجعون.

والعاملون الرساليون المخلصون لهم دورهم في هذه الحركة المباركة فلا يقصّروا فيه. وعليهم أن يحافظوا على التقدم الذي يحصلون عليه ويمسكون بما يتحقق لهم ويتقدمون أزيد، وإن تنوعت الآليات واشكال العمل بحسب ما يتاح لهم، وإننا لنفخر بالشباب الرسالي الذين استنشقوا نسيم الحرية مع السيد الشهيد الصدرالثاني (قده) وساهموا بحركته وتقدموا بها بعد استشهاده (قده) فلم يقفوا عند الفورة الإيمانية والحماس والوهج الذي أسّسه السيد الشهيد (قده) وإنما رسّخوه وعمّقوا معانيه وشيّدوا مضامينه وبنوا أمة الفكر والوعي والبناء تمهيداً لإقامة دولة العدل الإلهي.

ويجري نفس هذا المعنى على صعيد تهذيب النفس والجهاد الأكبر كما يجري في الجهاد الأصغر لأن (أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك) كما في الحديث وهي تضع بمساعدة الشيطان خطوطاً حمراء جراء على كل طاعة وتفتح السبل لكل معصية، فالمؤمن أول ما يفعل هو رفع الخطوط الحمراء عن كل طاعة ووضعها ازاء كل معصية، ثم يتحرك ليوسّع دائرة العمل بالطاعات الى كل ما يحبّه الله تبارك وتعالى وإن لم يكن واجباً، ويضيق دائرة المتروكات الى كل ما يبغضه الله تبارك وتعالى وإن لم يكن حراماً، فإذا حقق تقدماً في هذا الصراع كما لو لم يكن يؤدي صلاة الليل فشجعته اجواء شهر رمضان المعنوية لأداائها، أو كان لا يؤدي صلاة الصبح فوُفّق لأدائها، أو كان ينظر إلى الحرام فاستمد من ذكرى الحسين (عليه السلام) ما يعينه على تركه، أو كان سيئ الخلق مع أهله أو جيرانه أو قاطعاً للرحم فسمع موعظة أعانته على علاج هذه الحالات، فمثل هذا التقدم عليه أن يحافظ عليه ويستمر به ويعمل على تحقيق المزيد.

فالدعاء الشريف (ولا تردّنا في سوء استـنقذتنا منه أبداً) لا يختص بالمعاصي وسلب النعم التي أنقذه الله تعالى منها بل يعم الاستنقاذ من حالات الطاعة  المتدنية إلى حالات  الطاعة الأعلى منها.



([1]) من حديث سماحة الشيخ مع حشد من طلبة جامعة ميسان وبعض الروابط العاملة في مدينة العمارة وزوار آخرين يوم السبت 14/ذ.ق/1431 المصادف 23/10/2010.

([2]) روى الشيخ الكليني (قده) أكثر من عشرين منها في أصول الكافي، ج2، كتاب الايمان والكفر، باب : التقية.

([3]) اصول الكافي، الباب المتقدم/ ج9.

([4]) وسائل الشيعة، كتاب جهاد  العدو وما يناسبه، باب 13،ج12.

([5]) عقده سماحته في مكتبه يوم الخميس 5/ذ.ق/1431 المصادف 14/10/2010.