خطاب المرحلة (21)... كيف نستفيد من حياة الإمام السجاد (عليه السلام) في مواجهة التحديات الراهنة

| |عدد القراءات : 22640
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

كيف نستفيد من حياة الإمام السجاد (عليه السلام)

في مواجهة التحديات الراهنة([1])

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله وصلى الله على نبيه محمد وآله الطاهرين

وصف الله تبارك وتعالى القرآن بأنه (تبيان لكل شيء) وقال عز من قائل عنه [مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ] (الأنعام:38) وما على الإنسان إلا أن يستثير كوامنه ويستخرج درره وجواهره بالوسائل التي تؤهله لهذا الحرث (فمن يرد حرث الآخرة نزد له في حرثه) وأولها الإخلاص  لله تبارك وتعالى وتطهير القلب من الرذائل والنفس من الأهواء وثانيها طلب العلم والمعرفة على يد المؤهلين الصادقين (فلينظر الإنسان إلى طعامه).

وقد دلّت الأحاديث الشريفة بل الآيات المباركة على أن أهل البيت (عليهم السلام) هم عدل الكتاب وصنوه كما في حديث الثقلين المشهور، وإنهما لن يفترقا فحيثما تجد القرآن تجد أهل البيت (عليهم السلام) وكل ما تريد أن تعرفه من الكتاب تجده في صدور أهل البيت (عليهم السلام) مجسداً في سلوكهم لذا لما قيل لإحدى أمهات المؤمنين صفي لنا  رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت: كان خلقه القرآن، فلو حولّت القرآن إلى سيرة عملية لكانوا هم (عليهم السلام)، ولو دوّنت سيرتهم (عليهم السلام) في كتاب لكان هو القرآن فهم (عليهم السلام) كتاب الله الناطق قال  تعالى [فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرُونَ] (الواقعة:78،79) أي أن حقائق هذا القرآن ومعارفه في اللوح المحفوظ المكنون ولا يصل إلى هذه الحقائق ويطلّع عليها إلا المطهرون الذين أذهب الله عنهم الرجس وهم أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنص القرآن الكريم [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً] (الأحزاب:33)([2]).

ومحل الشاهد من هذه المقدمة العميقة أن سيرة أهل البيت (عليهم السلام) كتاب مفتوح تجد فيه العلاج الناجح لكل مشاكلنا وأمراضنا والجواب الشافي لكل هواجسنا وتساؤلاتنا؛ لأن في سيرتهم تبياناً لكل شيء وما علينا إلا أن نفهمها  فـهما صحيحاً ومعمقاً وجديدا بعد أن نـقرأ الواقع الخارجي بدّقة، ونشخص مواطن العلة وما أحوجنا نحن المسلمين اليوم إلى أن نستلهم من تلك السيرة المباركة ما نواجه به التحديات المتكثرة والمتنوعة وأريد أن اتخذ من حياة الإمام السجاد زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) في ذكرى مولده مضماراً للشواهد على ذلك.

فنحن على أبواب انفتاح واسع على ثقافات العالم من خلال وسائل الاتصال المتطورة، كالبريد الالكتروني والستلايت مما يهّدد هوية المسلم في عقيدته وأخلاقه وسلوكه بالتمييع والانحراف والإعراض بعد أن تأخذه حالة الانبهار بتلك الثقافات، وهو غير متسلح بما يحمي عقيدته ويحفظ له توازنه والإنسان مجبول على الإعجاب بكل جديد، والتهديد الآخر الذي تواجهه الأمة هو الرخاء المادي الذي يمكن أن يحصل في البلد وفق الوضع الاقتصادي الذي بدأت معالمه تتضح، ونحن نعلم أن حياة الدعة والترف تؤدي إلى التوسع في الماديات، والإخلاد إلى الأرض والابتعاد عن القيم الروحية والأخلاقية فيزداد اللهاث وراء الدنيا ولا يقف طمع الإنسان وحرصه على حد.

ومن جهة أخرى فإن حملة موجهة لإفساد الأخلاق وإشاعة الفاحشة والانحلال من خلال الصحف والمجلات والأقراص ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة وهي حملة قوية بما تمتلك من مقدرة ساحرة على التأثير ومدعومة بتقنيات هائلة إضافة إلى موافقتها لشهوات النفس الأمّارة بالسوء والميّالة للهوى.

مثل هذه الأخطار واجهتها الأمة في فترة إمامة زين العابدين حيث اتسعت رقعة البلاد التي شملتها الفتوحات الإسلامية في عهد عبد الملك بن مروان وإخوته وبنيه من تخوم الصين شرقا إلى المحيط الأطلسي غرباً، وقد كانت ثقافة المسلمين وإيمانهم دون المستوى الذي يؤهلهم لاستيعاب هذه الأقوام التي خضعت للمسلمين بثقافاتهم ودياناتهم وأخلاقهم وتذويبهم في الإسلام، بل على العكس فإن عقائد المسلمين تزعزعت وسرى الشك إلى قلوبهم وانتشرت الفاحشة في بلاد المسلمين وشجّع على ذلك ملوك بني أمية الذين كانوا يرون في الإسلام الحقيقي عدوّهم الوحيد، لذلك رحّبوا بهذا الانحراف وعملوا على تكريسه بحيث وصل الأمر إلى أن يصبح الفاسق عمر بن أبي ربيعة المخزومي أشهر رجل في مكة المكرمة، فيتسكع سكراناً في شوارعها وحوله الفاجرات من أمثاله ينشدهن الشعر وهنَّ يغنينه، هذا ولم يمر قرن من الزمان على وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزول الوحي ولازال ثلة من الصحابة على قيد الحياة، فإذا كان هذا هو حال الحرمين المقدسين فما هو حال بقية مدن وحواضر الإسلام ما دام ملك المسلمين يشرب الخمر على منبرهم ويتقيأها في محرابهم ويرمي المصحف الشريف بالسهام مهدّداً إياه.

وقد رافق كل ذلك توسع وترهّل في الحياة الاقتصادية لغزارة واردات الدولة من تلك الفتوحات، ولم ينل المسلمون القسط الكافي من التربية الروحية بسبب عزل قادته الحقيقيين والهداة إلى الله تبارك وتعالى وإبادتهم والتنكيل بهم.

فكيف واجه الإمام السجاد (عليه السلام) هذه الأخطار، واجهها بالإعداد الروحي والأخلاقي وتزويد الأمة بعقيدتها الصحيحة من خلال الدعاء الذي يعتبر وسيلة لا تثير قلق الحكام باعتباره لا يهدّد مصالحهم ولكنه (عليه السلام) كان من خلال الأدعية يعبّئ المسلم ويثير في عقله وقلبه ما يعينه على مواجهة تلك الهجمة الشرسة ونوازع النفس ونزغات الشيطان.

وفي روضة الكافي أنّ الإمام السجاد (عليه السلام) كان يعظ الناس في مسجد جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كل جمعة([3]) وكان يعقد حلقات الدرس في مختلف العلوم والمعارف حتى تخرج على يديه فقهاء وعلماء كثيرون انتشروا في الأمصار، واعترف له بذلك حتى أعداؤه فقد قال له عبد الملك بن مروان (ولقد أوتيت من العلم والدين والورع ما لم يؤتَه أحد مثلك قبلك إلا من مضى من سلفك)([4]).

وهذا الإعداد الروحي وإثارة قوى الإيمان عند المسلم هي ما نحتاجه اليوم فعلى خطبائنا ومثقفينا ومفكرينا استغلال كل مناسبة لهذه التربية الروحية، خصوصاً في هذه الأشهر المباركة رجب وشعبان ورمضان التي تمتاز بألطاف ونفحات إلهية خاصة يـــتكامل بها الإنسان أضعاف ما يحصل له في غيرها من الشهور، فإذا فشلت لا سامح الله في استغلالها فسوف تكون خسارة عظيمة ولا تتوقع تعويضها في غيرها من الشهور، وإذا كان الإمام المعصوم يقول لولا أننا نزداد في كل ليلة جمعة لنفد ما عندنا فكم نحتاج نحن من هذه الشحنات المتدفقة علماً وإيماناً وحياة للقلب.

إننا لا نحتاج إلى مؤونة كبيرة في معرفة الزاد فإن كلمات المعصومين فيها الكثير مما يحيي القلوب ويهذّب النفوس والصحيفة السجادية حافلة بالمعاني السامية التي تصف العلاقة بالله تبارك وتعالى فله (عليه السلام) دعاء في الحمد والثناء على الله تبارك وتعالى، وآخر في اللجوء إليه، وآخر في الرضا بقضائه، وآخر في الشكر وآخر في التذلل له سبحانه وآخر في طلب الستر والوقاية وآخر في الإلحاح وآخر في الاستعاذة ثم يصلي على النبي وآله والملائكة وحملة العرش والأنبياء والرسل.

ولا يترك مناسبة إلا أحياها فله (عليه السلام) دعاء في الفطر والأضحى  وعرفة ويوم الجمعة وأيام الأسبوع واستقبال شهر رمضان ووداعه، بل في كل صباح ومساء ليكون العبد على ذكر دائم واتصال مستمر بربه وخالقه ومدبّره ومولاه (واجعل أوقاتي من الليل والنهار بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة) وهذا الذكر المتواصل وعدم الغفلة هو صمام الأمان للإنسان من الوقوع في الخطأ والانحراف فليس من المعقول أن يرتكب الذاكر لله تعالى معصية.

وضمت الصحيفة أيضاً دروساً في الأخلاق وتنظيم العلاقات مع الآخرين وبيان حقوقهم فله (عليه السلام) دعاء لأبويه وآخر لولده وآخر لجيرانه وأوليائه، ودعاء طويل في طلب مكارم الأخلاق وتعليمها بهذا الأسلوب أي الدعاء فمن ذلك قوله (عليه السلام) (وأجرِ للناس على يدي الخير ولا تمحقه بالمنّ وهب لي معالي الأخلاق واعصمني من الفخر) ويقول (عليه السلام) (ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلةً باطنة عند نـفسي بــقدرها اللهم لا تدع خــصلةً تعابُ مني إلا أصلحتها ولا عائبة أؤنب بها إلا حسنّتها، ولا أكرومةً فيَّ ناقصة إلا أتممتها) (اللهم صل على محمد وآله وسدّدني لأن أعارض من غشني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبر، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافئ من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر، وأن أشكر الحسنة وأغضي عن السيئة اللهم صلِ على محمد وآل محمد وحلَّني بحلية الصالحين وألبسني زينة المتقين في بسط العدل وكظم الغيظ... والقول بالحق وإن عزّ واستقلال الخير وإن كثرُ من قولي وفعلي واستكثار الشر وإن قلَّ من قولي وفعلي).

ومما نستفيده من حياة الأمام السجاد (عليه السلام) في مرحلتنا الراهنة تخطيطه للاستقلال النقدي للدولة الإسلامية عن الروم، حينما حاول ملك الروم إذلال المسلمين وإخضاعهم لمطاليبه وإلا سكّ الدنانير الرومية التي كانت هي العملة المتداولة في الدولة الإسلامية بسب نبي الإسلام، فاضطرب عبد الملك بن مروان وقال: أحسب أنني أشأم مولود في الإسلام ولم يجد حلاً لهذه المشكلة فاستنجد بالإمام السجاد (عليه السلام) الذي أرسل له ولده الباقر (عليه السلام) وشرح له كيفية صّب عملة جديدة وإلغاء التعامل بالعملة الرومية ونفذ عبد الملك ذلك، وفرج الله تبارك وتعالى عنه وعن دولة الإسلام ببركة الإمام
(عليه السلام) الذي أنقذ الدولة وحفظ لها استقلالها وأرادتها.

ونحن نواجه اليوم خططاً محبوكة ومبرمجة لربط الاقتصاد العراقي بالنظام العالمي الجديد الذي وضعه الغرب ليجعل العالم يدور في فلك مصالحه وسلب قدرته على التخطيط لنفسه، فيحيطونه بشراك من الديون والفوائد والقوانين الصارمة بحيث لا يستطيع الخلاص منها ولا يملك إلا الاستسلام لإملاءاتهم والخضوع لمطاليبهم، فتفقد الدول استقلالها السياسي بسبب خضوعها الاقتصادي فلنتعلم من الإمام السجاد (عليه السلام) كيفية الاستقلال الاقتصادي وحرية اتخاذ القرار.

ومما نجده في حياة الإمام السجاد (عليه السلام) عمله الدؤوب على محاربة الأعراف والتقاليد المنحرفة فقد كانت سياسة الأمويين عنصرية ترفع من شأن العرب وتحط من قدر غيرهم وهم الموالي ويعيرون من يتزوج من أمة مملوكة خصوصاً إذا كان سيداً قرشياً، لكن الإمام السجاد (عليه السلام) وهو من اشرف الناس نسباً يتزوج أمة مملوكة مما عرّضه إلى انتقاد شديد من قبل ملوك الأمويين وكان يجيبهم بأجوبة مسكتة في مراسلات متبادلة تجد نماذج منها في المجلد الرابع عشر من وسائل الشيعة وقد ولدت الأمة لهُ زيداً الشهيد.

وذات مرة استدعى هشام بن عبد الملك زيداً وقال له موبخاً: أتطمح نفسك للخلافة وأنت ابن أمَة فقال زيد (رضي الله عنه): إن النبوة خير من الخلافة وقد كان إسماعيل الذبيح نبياً وهو ابن أمة، فأفحمه. وكان الإمام (عليه السلام) يشتري العبيد فيثقفهم ويعلمهم حتى إذا أتقنوا العلوم الإسلامية أعتقهم لينتشروا في الأمصار ويعلموا الناس الإسلام الصحيح حتى كان جلّ فقهاء الأمصار نهاية القرن الأول الهجري من الموالي.

ومما حفلت به سيرته استخدام مختلف الأساليب لتعرية الظالمين وكشف زيفهم وتحريض الجماهير عليهم، فحينما جاءه وفد الكوفة يسألونه عن مشروعية المشاركة في ثورة المختار الثقفي لاستئصال قتلة الحسين (عليه السلام) قال سبحان الله لو كان عبداً حبشياً لوجبت نصرته وكان يقول ما اكتحلت هاشمية حتى بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد وعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وحرملة.

وكان يحشد الأمة ضد بني أمية بإثارة عواطفهم وإلفات نظرهم إلى مظلومية أهل البيت (عليهم السلام) فقد بكى أباه الحسين (عليه السلام) أربعة وثلاثين عاماً وكان يمزج طعامه وشرابه بدموع عينيه ولا يترك مناسبة إلا واستغلها في هذا المجال، يمر في سوق القصابين فيسمع جزاراً يقول لغلامه: هل سقيت الكبش ماءً فيلتفت الإمام (عليه السلام) إلى الجزار ويقول له: أنتم معاشر القصابين لا تذبحون الكبش حتى تسقوه الماء قال: نعم سيدي يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لكن أبي الحسين (عليه السلام) ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذبحوه عطشاناً إلى جنب الفرات، هذه الإثارة الواعية للأمة ضد الظلم أتت ثمارها بعد فترة قصيرة بانهيار ملك بني أمية.

          أسأل الله تعالى أن يعرّفنا حق أهل البيت (عليهم السلام) ويأخذ بأيدينا على مناهجهم وهديهم ولا يفرّق بيننا وبينهم إنه نعم المولى ونعم النصير،

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.



([1]) محاضرة ألقيت بمناسبة ذكرى ميلاد الإمام السجاد (عليه السلام) 4/شعبان/1424 المصادف 1/10/2003.

([2]) راجع كتاب شكوى القرآن في الكتاب الأول (خطاب المرحلة: 1/83).

([3]) الكافي: 8/72 حديث 29.

([4]) بحار الأنوار:46/57.