المرحلة (39)... رسالة مفتوحة إلـى مسؤول الإدارة المدنية لقوات الاحتلال في العراق

| |عدد القراءات : 3454
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

رسالة مفتوحة إلـى مسؤول الإدارة المدنية لقوات الاحتلال في العراق([1])

 بسم الله الرحمن الرحيم

 تناقلت الأنباء تصريحات لمسؤول الإدارة المدنية لقوات الاحتلال (بول بريمر) يقول فيها انه سيستعمل حق النقض ضد إقرار الإسلام كمصدر أساسي للتشريع في الدستور العراقي المؤقت أو الدائمي.

وتصريحه هذا يذكرني بالحديث الشريف (رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه حتى لا يوردها موارد الهلكة) فيبدو أنه لم يعرف حدود اللياقة في الحديث فأقحم نفسه في ما ليس له حق فيه، وقد بين الحديث الشريف عاقبة من يفعل ذلك، لذا الفت نظره إلى عدة نقاط:

1- إنه من أعطاه حق النقض حتى يتحدث عن استعماله وان القوانين الدولية تحدد صلاحيات المحتل ومسؤولياته وليس منها هذا التدخل السافر في خصوصيات أهل البلد المحتل التي يقررونها بأنفسهم كما هو شأن كل الشعوب والأمم.

2- إن مثل هذه الكلمات تكشف عن نواياهم الحقيقية من حربهم على العراق واحتلاله وتزيّف ادعاءاتهم بأنهم جاءوا للتحرير، فمن جهة يقولون إن الدستور يجب أن تكتبه أيدي عراقية لأنه شأن عراقي، ومن جهة أخرى يتحدث عن معارضته لتدوين فقرات تعبر عن إرادة الشعب واختياره، وهذا يعني أن أحد أهدافهم هو تغيير ثقافة هذا الشعب وطريقة حياته ونمط سلوكه وشكل النظام الذي يحكمه وهذا ما يأباه الشعب العراقي الأبي الغيور الملتزم.

3- إن من حق كل شعب أن يثبّت في دستوره معالم حضارته وثقافته وتأريخه وتوجهاته في الحاضر والمستقبل، وتجد ذلك واضحاً في دساتير كل الأمم فإنها ترسخ كل تلك القيم والمبادئ والمعالم، والإسلام هو منبع ثقافة هذه الأمة وأساس حضارتها والصورة المشرقة لتأريخها، فلماذا تمنع هذه الأمة دون غيرها من الأمم من ممارسة هذا الحق المشروع؟ عجباً عجباً.

4- إن الذي يخيف بريمر والغرب ليس كل الإسلام، فإنهم يعلمون أن هذه الشريعة الإلهية هي نظام حضاري للحياة وفيه مقومات التجدد والإبداع والتكيّف ومواكبة المستجدات والانسجام مع تطورات الحياة ونموها وهو يلتقي مع المبادئ الإنسانية التي يتفق جميع البشر على أحقيّتها بل إليه ترجع ومنه تصدر، فهو يحترم حرية المعتقد [لا إكْرَاهَ في الدِينِ] (البقرة:255) ولا يطلب من الآخرين إلا الاستماع إليه، ثم هم أحرار في الاقتناع وعدمه، وهو يكفل لهم أمنهم على كلا التقديرين [وَإِنْ أحد مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ](التوبة:6)، وهو منفتح على الحوار مع الآخرين [قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ] (آل عمران:64)، ويقيم الحق [وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ] (الإسراء: 35)، ويدعو إلى المساواة [أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى] (آل عمران:195)، ويحكم بالعدل والإنصاف [إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ] (النحل:90)، ويرفض الظلم [وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ] (الأعراف:85) وغيرها كثير، فماذا يريدون أفضل من هذه المبادئ لتسود النظام الإنساني؟

نعم، هم يخافون من الإسلام قدرته على تقديم مشروع حضاري بديل عنهم، ورفضه لأي حكم لا يستند إلى شرعية من دين الله تبارك وتعالى، ومقاومة الظلم والاستكبار والتسلط بغير حق، ومن دون ذلك فهم لا يمانعون من تسليم زمام الحكم للأحزاب الإسلامية، مع إظهار رفضهم لشيئين رئيسيين في الإسلام: وهما نظام الحكم فيه المبتني على ولاية الفقيه، وقانون العقوبات وهذا ناشئ من عدم فهمهم العميق للإسلام، فإن نظام العقوبات لا يكون ناجحاً وفعالاً إلا إذا كانت الجوانب الأخرى للنظام الإسلامي مطبقة، أي أن الاقتصاد إسلامي والمجتمع إسلامي والقضاء إسلامي ونمط السلوك والبيئة الاجتماعية إسلامية، وإلا فلا تقطع يد السارق إذا دفعه إلى ذلك الحرمان والعوز وسوء توزيع الثروة وعدم وجود فرصة العمل، أما إذا كان وضعه الاقتصادي مؤمناً ورزقه مكفولاً ومع ذلك يسرق عناداً أو تمرداً فإن قطع يده يكون مبرراً ومفهوماً.

5- إن المطلعين على طبيعة الشعب العراقي وتوجهاته وانتمائه العقيدي وتأريخ حركته يعلمون أن هذا الشعب قد يسكت على هضم حقوقه وهدر ثرواته لا ضعفاً وجبناً وإنما انتظاراً وتربصاً، لكنه لا يسكت إذا مس عقيدته ودينه شيء، وهو لم يرفض نظام صدام ويقف في وجهه متحملاً بطشه وقسوته ووحشيته الدموية إلا لأنه حارب شعائر الإسلام وهتك حرماته وقتل علمائه ومنع هذا المجتمع المؤمن من التعبير عما تقتضيه عقيدته؛ لذا من المحتمل أن ينتفض الشعب ويرفض الظلم والاستبداد ومصادرة الحريات من دون الرجوع إلى أحد أو استئذانه، حتى المرجعية الدينية باعتبار أنه تعلّم ذلك من القرآن الكريم ومن سيرة أهل بيت النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم) قال تعالى: [وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ] (هود:113) [وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ] (البقرة:217) والفتنة هي الإبعاد عن الدين بالإكراه أو بالتضليل أو الإفساد، كما فعلت الجماهير في الانتفاضة الشعبانية المباركة عام 1991 ولم تستأذن أحداً من مراجع الدين فيها.

ويبدو أن المدة التي قضاها بريمر في العراق والمعلومات التي حصل عليها غير كافية لمعرفة هذه الحقائق والالتفات إليها، بل إنه أساء حتى في اختيار الزمن إذ الأمة مقبلة على شهر محرم الحرام الذي تفور فيه شرايين الأمة بدماء التضحية والفداء وتمتلئ القلوب بحب الشهادة في سبيل الله تعالى متأسين بأبي الأحرار الحسين بن علي (عليهما السلام)  الذي جاد بكل شيء في سبيل الله وللفوز بكرامته ولم يترك عذراً لكل أحرار العالم في السكوت على الظلم والقهر والحرمان والاعتداء على الإسلام العظيم.

لذا أحببت تسجيل عدد من الحقائق في هذه الرسالة المفتوحة إعذاراً وإبراءً للذمة أمام الله تعالى [إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد:7).

 

محمد اليعقوبي

28 ذ.ح 1424 الموافق 20/2/2004



(1) أُلقيت على المئات من أبناء مدينة بغداد الذين وفدوا لتهنئة سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على سلامة الوصول بعد أداء مناسك الحج لموسم 1424 وكان ذلك في الأول من محرم عام 1425 المصادف 22/2/2004.