ما أقبح المؤمن أن تكون له رغبة تُذلُّه

| |عدد القراءات : 2245
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

ما أقبح المؤمن أن تكون له رغبة تُذلُّه[1]

عرضت في حديث سابق فكرة مهمة وهي توجيه الشباب إلى بناء مستقبلهم المعنوي وأحب الآن أن أستمر في بيانها، وقلنا أن من وسائل ذلك التعرف على الأطر العامة والقواعد التي تحدّد كيفية إعمار هذا المستقبل المعنوي، وهي تؤخذ من القرآن الكريم وأحاديث المعصومين (عليهم السلام) وما رشح من كلمات حكيمة عن العلماء العارفين.

هذا كله ذكرته سابقاً، واليوم أود التعرض لقاعدة أخرى من تلك الأطر والمحددات، وهي كلمة للإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قال (ما أقبح المؤمن أن يكون له رغبة تُذّله)[2]، فالكلام مع المؤمن لأنه عزيز بعزة الله تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون/8)، ولا يحق للمؤمن أن يفرط بعزته وكرامته ويمتهنها، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) (إنّ الله تبارك وتعالى فوّض إلى المؤمن كل شيء إلا إذلال نفسه)[3]، أما غير المؤمن فيكفيه ذلة: أنغماسه في المعاصي وانسياقه وراء شهوات النفس وطاعة الشيطان.

والحديث الشريف لم ينكر على الإنسان أن تكون له رغبة، لأن الرغبات من النوازع النفسية التي أودعها الله تبارك وتعالى لدى الإنسان –كالخوف- لتدفعه إلى ما ينفعه ويُصلح شأنه ويحميه من الخطر والضرر ولتحفزّه على طلب الكمال، مضافاً إلى ما يأمر به العقل، وكأن القناعة التي تحصل من النظر العقلي غير كافية لدفع الإنسان ما لم تتحرك النفس بذلك الإتجاه فانضمت إليه الرغبة، وهذا ما يوحي به معناها الأصلي فإن (أصل الرغبة: السعة في الشيء، يقال: رَغُبَ الشيء: اتسع، والرغبة والرغب: السعة في الإرادة)[4] قال تعالى (وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً) (الأنبياء/ 90)

فالمشكلة ليست إذن في أن تكون لك رغبات، وإنما المشكلة في أن تكون للمؤمن رغبة تُذله وتحط من كرامته وتعيق سعيه نحو الكمال، وليس المقصود الرغبة في المعاصي والمحرمات فهذه خارجة عن نطاق الحديث الشريف لأنها غير متصورة في المؤمن، وإنما الكلام في الرغبات المباحة التي تأسر صاحبها وتضغط عليه وتشوش عليه فكره حتى ينهار تحت إلحاحها وضغطها فيرتكب ما لا يليق به.

كالشخص الذي يحب أن تكون له حياة مرفهة كالآخرين من دار مزخرفة وسيارة بأحدث موديل ومصالح مالية ونحوها، فيكرّس تفكيره في الحصول عليها بغضّ النظر عن مشروعية الوسيلة المتخذة لتحقيقها، فيقع في المحرّمات الشرعية والمخالفات القانونية ويتعرض لخسارة الدنيا والآخرة والعار الاجتماعي، كهذا الفساد الذي فاحت رائحته التي تزكم الأنوف من بعض المتصدّين لإدارة أمور العباد والبلاد.

ولذا نزلت الآية الكريمة في وقت مبكر لتحذّّر من هذه الرغبات، قال تعالى (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه/ 131) فالآية الشريفة تشير إلى أن التوسع في طلب الدنيا يكون على حساب الفوز في الآخرة ويكون ثمنه النصب والتعب في الدنيا من أجل أمور زائلة.

من غرر كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) (الرغبة مفتاح النصب) وقال (عليه السلام) (الرغبة في الدنيا توجب المقت) وقال (عليه السلام) (الراغب: دعته إلى الدنيا نفسه فأجابها، وأمرته بإيثارها فأطاعها، فدنّس بها عرضه، ووضع لها شرفه وضيَّع لها آخرته) وقال (عليه السلام) (إن النفس التي تطلب الرغائب الفانية لتهلك في طلبها وتشقى في منقلبها) وقال (عليه السلام) (أكرم نفسك عن كل دنيّة وإن ساقتك إلى الرغائب فإنك لن تعتاض عما تبذل من نفسك عوضاً) وقال (عليه السلام) (إن الدنيا كالشبكة تلتف على من رغب فيها).[5]

إن الكثير من الوقائع والحوادث تشهد على نتيجة مفادها أنّ من ينساق وراء رغباته بدون تعقل وحكمة وحساب للعواقب يخسر ويسقط في النهاية كبعض الطامحين بالشهرة الذين يقومون بمغامرات الصعود إلى هملايا أو مصارعة الحيوانات الهائجة أو قيادة السيارات بجنون، أو القفز من ارتفاع شاهق ونحوها فيُقتلون دونها، وكالكثير من المصابين بجنون العظمة الذي يريدون أن يتسيدوا على الناس ويتسلطوا فيهلكون الحرث والنسل ويهلكون أنفسهم من أجل هذه النزوات الحمقاء.

ما الذي دفع بأولئك المتمردين على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى منعوه من كتابة وصيته في رزية يوم الخميس ثم انقلبوا على أعقابهم بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفتحوا باب الفتنة والشقاق والخلاف والتقاتل إلى قيام يوم الساعة فحملوا على ظهورهم كل هذه الأوزار: انه الانسياق وراء الرغبات المذلّة المهينة رغم مخالفتها لشريعة الله تبارك وتعالى.

وإذا أردتُ أن أذكر مثالاً على هذا الحديث الشريف فهم بعض المبتلين بالعادة المشهورة التي تحولّت إلى ظاهرة تسعى كل الدول إلى تحجيمها والتحذير منها وهي التدخين، يروي بعض أفاضل الخطباء والكتّاب انه في موسم من مواسم الحج المباركة حدّثه أحد المؤمنين الذين كانوا قد عانوا آلام السجون ومحنة التعذيب، أن مؤمناً كان ثابتاً على موقفه، وواجه جلاّديه بشجاعة نادرة أذهلت الجميع، ولما تعب أحد الجلاّدين من تعذيب هذا المؤمن، راح يترجم حنقه على هذا المعذب بشرب سيكارة، وإذا بالمعذَّب ينهار لرؤية الدخان، فناداه متوسلاً، سيدي ناولني سيكارة!! فدهش الجلّاد وقال: على أن تتكلم بما تعرف! فقال: أجل وما هي إلا لحظات حتى اعترف ذلك الرجل على خمسين مؤمناً جاء بهم إلى ساحات التعذيب وأثكل عوائلهم وسبب الألم واليتم لأطفالهم.

فعلينا –أيها الأحبة- أن نعرض رغباتنا على ما يريده الله تبارك وتعالى فننفذ منها ما يرضيه عز وجل ونعرض عمّا يسخطه أو يبعدنا عنه ويعرقل سيرنا نحو تبارك وتعالى، فالرغبة في الشيء بقدر الأعراض عن نقيضه، قال أمير المؤمنين (أصل الزهد حسن الرغبة فيما عند الله) وقال (عليه السلام) (إن الزهد في الجهل بقدر الرغبة في العقل).[6]

وهذه الرغائب الحقيقية يمكن نيلها بالتقوى والصبر والعمل الدؤوب والمعرفة، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) (إن تقوى الله.. بها تنال الرغائب) وقال (عليه السلام) (بالصبر تدرك الرغائب) وقال (عليه السلام) (توكّلوا على الله عند ركعتي الفجر بعد فراغكم منها ففيها تعطى الرغائب).[7]

وتحتاج أيضاً إلى إرادة للسيطرة على جموح الرغبات، يروى أن أحد العلماء أصيب بمرض صدري فأمره الطبيب بالإقلاع عن التدخين، فقال العالم: لا أستطيع ذلك، فاستغرب الطبيب منه، وقال أنتم تطالبون شارب الخمر بتركها وقد أدمن عليها وأصبحت جزءاً من بدنه، وتطالبون معاقري اللهو والمجون والليالي الحمراء بتركها وهو يجد لذته وأنسه فيها وأنت تقول: لا استطيع، فاستحيا العالم وأصر على ترك التدخين، ومن الله تعالى نستمد العون والتسديد والتوفيق.



[1] من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع تجمع المهندسين الإسلامي فرع البصرة يوم الجمعة 1/ع2/1433 الموافق 24/2/2012.

[2] تحقق العقول: 363.

[3] ميزان الحكمة للريشهري: 3/ 441.

[4] المفردات للراغب؛ 358 مادة (رغب).

[5] غرر الحكم: 25، 48، 86، 132، 179، 191.

[6] غرر الحكم: 160، 174.

[7] غرر الحكم: 186، 322، 345.