خطاب المرحلة (48)...صور من معاناة الشعب العراقي

| |عدد القراءات : 1481
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

صور من معاناة الشعب العراقي(1)

 بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين...

لقد وقع عدد من أبناء المجتمع بين الإفراط أو التفريط في تحديد الموقف من قانون إدارة العراق للمرحلة الانتقالية، فبعضهم لم يكترث لصدور هذا القانون ولا يرى فيه أي مشكلة، بل لم يكلف نفسه الاطلاع عليه أو السؤال عنه، رغم أنه يؤسس لمستقبله ويحدد الخارطة السياسية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية والاقتصادية لهذا البلد إلى زمن طويل، فليس من المعقول أن يقابل باللامبالاة بل لا بد من تثقيف الأمة عليه وإلفات نظرهم إلى تفاصيله، وإدامة هذا الوعي ونشره حتى يتكون لديهم وعي سياسي عميق يحصنهم من تمرير المخططات المعادية لهم.

والبعض الآخر بالغ في الاعتراض عليه وطالب بإلغائه، وإلغاؤه يعني العودة إلى نقطة الصفر والرجوع إلى حالة الفوضى واللا قانون وهو ما لا يرضى به أي غيور مخلص يحب هذا الوطن ويريد لأهله الخير.

والموقف المبني على الإنصاف والتوازن هو الاعتراف بأن وضع هذا القانون يمثّل خطوة على الطريق الصحيح، وهو بناء العراق الجديد الخالي من الظلم والإجحاف وغمط الحقوق والتسلط والاستعباد وهدر الثروات.

إلا أننا نريد لهذه الخطوة أن تكون صحيحة وناضجة ومتكاملة، وندعوا إلى التعاون والحوار والتنسيق لمعالجة الثغرات التي حصلت والتي يمكن أن تكون مفتاحاً للظلم والفتنة والشر وتمزيق وحدة الصف، وما هذه التجمعات التي تعقد والمطالبات المستمرة بهذا التعديل إلا أشكالاً من التعبير عن هذا الحق الذي يجب أن يستمر حتى يعود الحق إلى مستقره، ولا يشعر أحد بالغبن والإجحاف التزاماً بقوله تعالى [وَلا تَبخَسُوا النَاسَ أشيَاءَهُم] (الأعراف:85).

وقد حددنا مطالبنا بست نقاط تُليت في خطبة صلاة الجمعة الأولى في ساحة الفردوس وهي متوازنة ومنصفة وفيها محافظة على حقوق الجميع، وقد تحقق بعضها ولا زال الحوار مستمراً لمعالجة الباقي، إذ أن الفرصة لم تفت فيوجد ملحق للقانون سيصدره مجلس الحكم لشرح فقرات القانون الأصلي وإيضاحها وتقييد بعضها، وهذه الأمة إنما تستمر بمطالبتها لكي يتداول الأخوة الأعضاء في مجلس الحكم هذه الأمور في الملحق، ونحن لا نريد لكرامتهم أن تُمسَّ بسوء([1]) أو تحدث حالة الانفصال وعدم الثقة بينهم وبين الشعب، فإنها خسارة عظيمة لنا ولهم، وهو عين ما خطط له الأعداء الذين يحاولون باستمرار إسقاط رموز الشعب السياسية والدينية، فعلى الجميع أن ينتبهوا لهذه المؤامرة ولا يمكِّنوا الأعداء من أنفسهم، وأن يحفظوا لكل إنسان جهده وجهاده في تحقيق الخير والسعادة لمستقبل هذا الشعب.

إن الاعتراض على هذا القانون صوَّر وكأنه خلاف بين الشيعة والأكراد، وأن الأغلبية لا تريد توفير حقوق الأقلية، وأن هذه الأقلية تريد ضمانات من الأكثرية، وهو تفكير غير سليم وغير واقعي ومحاولة خبيثة للتفريق بين هاتين الطائفتين المظلومتين اللتين وقفتا في خندق واحد ضد الطاغوت، وتحملتا بسبب ذلك افجع المآسي وأفظع الكوارث، ومن غير المعقول أن تفترقا الآن بعد زوال السلطة الجائرة حيث حان وقت العمل المشترك البناء من أجل مستقبل زاهر لهما ولجميع العراقيين الشرفاء.

إن المرجعية الدينية حينما اعترضت على الفقرة (جـ) من المادة الحادية والستين فلأنها ترى في هذه الفقرة تعويقاً لكتابة أي دستور دائم، وأنها ستجعل البلد غير مستقر ويدور في حلقة مفرغة، وهو ما لا يرضى به حتى الإخوة الأكراد أنفسهم وإذا كانوا يبررونها بأنها ضمانات لهم فإن الضمانات ليست كلمات تكتب فقد كان في زمن صدام دستور مكتوب فهل استطاع أن يحدَّ من جرائم صدام وأفعاله الهمجية أم كان حبراً على ورق فقط.

إن الضمانات الحقيقية هي في التآلف والمحبة والتسامح والإيثار وحكمة القيادة، وقد أثبتت المرجعية الدينية خلال الفترة الماضية أنها تتصف بدرجة عالية من النزاهة والإنصاف والرحمة وسعة الصدر والعدالة وحب الخير لجميع الناس مما جعلها صمام أمان وحدة الشعب وسلامة مسيرته، ولولا وجود هذه المرجعية وامتلاكها زمام الأمور وانقياد الناس لها لأصاب العراق بلاء شديد، وهو يمر في هذه الظروف الصعبة وقد تخلّى عنه كل إخوته بل عملوا على إيذائه من أجل مصالح زائفة وأنانيات مقيتة.

وما تأجيل مؤتمر القمة العربية الأخير(1)  إلا طعنة جديدة في قلب هذا الشعب المظلوم، فإذا كان القادة العرب لا يجتمعون في مثل هذه الأخطار العظيمة حيث العراق يرزح تحت الاحتلال ويشق طريقه بصعوبة والكيان الصهيوني يمعن في اضطهاد الشعب الفلسطيني ويقتل الشيخ المجاهد أحمد ياسين في باب المسجد بعد أن أتم صلاة الصبح، والولايات المتحدة تطرح مشروع الشرق الأوسط الكبير وتطالب بإصلاح وضع الأنظمة العربية، والشعوب العربية تعاني من الجهل والتخلف والتمزّق والضياع والفقر، فإذا كان كل ذلك لا يمثل دافعاً لقادة العرب كي يجتمعوا فمتى يجتمعون ؟ إننا وإن لم نكن نعوّل كثيراً على مثل هذه المؤتمرات إلا أنها تمثّل الحد الأدنى من العمل العربي المشترك وصورة ظاهرية للوحدة العربية. فهذا التأجيل هو هروب من تحمل المسؤولية أمام شعوبهم وأمام العالم وإذا كانوا غير قادرين على الإصلاح والتكيف وفق متطلبات المرحلة الراهنة فليتركوا شعوبهم تقرّر مصائرها بأنفسها وتختار من يقودها.

إن الشعب العراقي يستقرئ من هذا التأجيل ظلماً آخر وهو عدم إعطاء الفرصة لرئيس مجلس الحكم الحالي فضيلة السيد محمد بحر العلوم لحضور المؤتمر ظلماً وعتوّاً ومبالغة في إقصاء هذه الطائفة التي تمثل أكثرية الشعب العراقي، فأبت أنفسهم الأمارة بالسوء أن يُمَثَّل العراقيون بمن يرتدي هذا الزي الروحاني المقدس؛ لذلك تجدهم ما أن أجلوا المؤتمر حتى بدأوا يتنافسون على عقده بأسرع وقت فما حدا مما بدا، وما ذلك إلا لكي تنتهي فترة رئاسة السيد بحر العلوم نهاية آذار ويعقدون المؤتمر.

هذه بعض الصور من ظلم الأخوة وما خفي أعظم مما يضاعف علينا المسؤولية ويدفعنا نحو المزيد من التعاون والحوار وسعة الصدر والتجرد عن الأنانية والتصرفات الارتجالية، لكي نبني ذاتنا رغم كل هذه المعوقات، وعلى أعضاء مجلس الحكم الذين تحمّلوا عبئاً ثقيلاً في هذه المرحلة العصيبة أن يمدّوا جسور الثقة مع الشعب، الذي يتوقع الكثير من التعويض عن الحرمان الذي عاشه وأن يتفاعلوا مع قضاياه ويستمعوا لمطالبه، وأن يبثّوا العيون المخلصة في كل مكان لكي تنقل لهم بصدق وأمانة كل مظلمة لأحد في شرق الأرض وغربها حتى يتمكنوا من رفع الظلم والحيف عن الناس تأسياً بأمير المؤمنين (عليه السلام) الذي يقول : (أأقنع من نفسي أن يقال لي أمير المؤمنين ولا أشاركهم في جشوبة العيش ولعل في الحجاز أو في اليمامة من لا عهد له بالشبع ولا طمع له بالقرص).

وها هي عوائل مئات الآلاف من الشهداء الذين أعدمهم صدام لأنهم لم ينحنوا له وبقوا شامخين أعزاء لا يطرق بابهم أحد ولا يرعاهم أحد، بينما يخصَّص راتب شهري لعبد الرحمن عارف الذي سلَّم العراق بكل ذلة إلى حكومة حزب البعث عام 1968 والكثير من أزلام النظام يقبضون رواتبهم الضخمة وهم آمنون مطمئنون في بيوتهم.

وها هم الآلاف من السجناء في أبي غريب ومعتقلات الاحتلال الأخرى وغيرها من السنّة والشيعة يرزحون تحت ظروف سيئة بلا ذنب اقترفوه وإنما اعتقلوا لتُهم وافتراءات رفعها عليهم منافقون ومرتزقة وذوو مصالح شخصية، وفيهم الكثير من النساء اللواتي يُعتدى على شرفهن من قبل الكفار وتغتصب عفتهن وان بعضهن حوامل من هؤلاء العتاة المردة ولا تتحرك غيرة أحد لإنقاذهن.

وها هم مئات الآلاف من حملة الشهادات وذوي التخصصات عاطلون عن العمل لا يلتفت إليهم أحد، ولا يكترث بأمرهم أحد، ولا يطالب بحقهم أحد من أجل توظيفهم وإيجاد فرص العمل لهم رغم حاجة البلد إلى جهودهم وهمتهم وحماسهم في العمل.

هذه بعض صور معاناة هذا الشعب التي لا ترتفع إلا بالعمل المضني المخلص، وما دامت موجودة فإن التشدق بالكلمات عن الانجازات التي تحققت لا تقنع هؤلاء المحرومين لأنهم لم يروا تغييراً حقيقياً في حياتهم رغم مرور سنة على زوال صدام اللعين.

إن الوجود في مواقع المسؤولية من أعلاها كالعضوية في مجلس الحكم إلى أدناها فرصة كبيرة لطاعة الله تبارك وتعالى ونيل رضاه لأنه يمكِّن من قضاء مثل هذه الحاجات الكبيرة من خلال إدخال السرور على المؤمنين وتفريج همهم وكربهم وإنصافهم في الحقوق ورد الظلم عنهم فمن الخسران المبين أن تضيع من الإنسان هذه الفرص الكبيرة.

[وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ].

 

محمد اليعقوبي

10 صفر 1425 الموافق 1/4/2004



(1) خطبة صلاة الجمعة يوم 11 صفر 1425 المصادف 2 / 4 / 2004، التي أمر سماحة الشيخ (دام ظله) أن تكون موحدة للاستمرار في توعية الأمة إزاء قانون إدارة العاق في المرحلة الانتقالية.

(2) تعرضت شخصيات مجلس الحكم لكلمات الشجب والرفض والأوصاف السيئة الشائنة من بعض التيارات المندفعة وخرجت المظاهرات في النجف الأشرف ضد عددٍ منهم بسبب توقيعهم على قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية رغم تحفظ المرجعية على عدة فقرات منه.

(3) كان من المقرر عقد مؤتمر القمة العربي في تونس في أواخر آذار 2004 وقد فوجئ الجميع بتأجيله بعد انتهاء اجتماع وزراء الخارجية العرب يوم 6 صفر 1425 الموافق 28/3/2004 للإعداد لمؤتمر القمة وكان وفد العراق برئاسة السيد محمد بحر العلوم رئيس مجلس الحكم العراقي حينئذ.