خطاب المرحلة (61)...الفريضة المعطلة بيان في الوجوب التعييني لصلاة الجمعة المباركة

| |عدد القراءات : 2337
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

الفريضة المعطلة

 (بيان في الوجوب التعييني لصلاة الجمعة المباركة)

 الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.

يوم الجمعة يوم شريف عظمه الله تبارك وتعالى وجعله فرصة كبيرة لنيل رضاه بما بارك فيه لفاعل الحسنات، وعن أبي بصير قال: (سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: ما طلعت الشمس بيوم أفضل من يوم الجمعة) وعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) إن يوم الجمعة سيد الأيام يضاعف الله فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئات، ويرفع فيه الدرجات، ويستجيب فيه الدعوات، وتكشف فيه الكربات، وتقضى فيه الحوائج العظام، وهو يوم المزيد لله فيه عتقاً وطلقاً من النار، ما دعا به أحدٌ من الناس وعرف حقه وحرمته إلا كان حقاً لله عز وجل أن يجعله من عتقائه وطلقائه من النار، فإن مات في يومه أو ليلته مات شهيداً وبُعث آمناً، وما استخف أحد بحرمته وضيع حقه إلا كان حقاً على الله عز وجل ان يصليه نار جهنم إلا أن يتوب).

وروى الصدوق أن أمير المؤمنين (عليه السلام) خطب في الجمعة فقال: الحمد لله الولي الحميد ... (إلى أن قال) ... ألا إن هذا اليوم يوم جعله الله لكم عيداً وهو سيد أيامكم وأفضل أعيادكم، وقد أمركم الله في كتابه بالسعي فيه إلى ذكره، فلتعظم رغبتكم فيه، ولتخلص نيتكم فيه، وأكثروا فيه التضرع والدعاء ومسألة الرحمة والمغفرة، فإن الله عز وجل يستجيب لكل من دعاه، ويورد النار من عصاه وكل مستكبر عن عبادته، قال الله عز وجل: [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ] (غافر: 60) وفيه ساعة مباركة لا يسأل الله عبدٌ مؤمن فيها شيئاً إلا أعطاه).

وقد فسرت بعض الروايات الساعة بأنها وقت النداء لصلاة الجمعة، فعن الإمام الباقر (عليه السلام): (أول وقت الجمعة ساعة نزول الشمس إلى أن تمضي ساعة فحافظ عليها فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا يسأل الله عبد فيها خيراً إلا أعطاه) وفي رواية إنها هي وآخر ساعة من يوم الجمعة.

ومن أجل أن يعيش المسلم هذه الأجواء الإلهية المباركة يوم الجمعة، وضع الأئمة (عليهم السلام) لشيعتهم برنامج عمل يهذبون به أنفسهم ويطهرون أجسادهم ويذهبون درن أسبوع ماضٍ ويتزودون إمداداً لأسبوع قادم، وقد حفلت كتب الأدعية والسنن والمستحبات بالكثير منها.

وتاج تلك الأعمال صلاة الجمعة المباركة بدعائها وركعتيها، وجماعتها وخطبتيها، وأحاطوا هذه الشعيرة المقدسة بعناية خاصة فأبانوا فضلها وثواب من يؤديها وحذروا من تركها فعن الصادق (عليه السلام): (ما من قدمٍ سعت إلى الجمعة إلا حرم الله جسدها على النار) وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من أتى الجمعة إيماناً واحتساباً استأنف العمل) أي غفر له ما مضى من ذنوبه وقيل له ابدأ العمل بصفحة بيضاء من جديد.

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أما يوم الجمعة فيوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين فما من مؤمن مشى فيه إلى الجمعة إلا خفف الله عليه أهوال يوم القيامة ثم يأمر به إلى الجنة) وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): (من ترك الجمعة ثلاثاً متواليات بغير علة طبع الله على قلبه) وجاء إعرابي يشكو إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عدم الاستطاعة إلى الحج فقال له (صلى الله عليه وآله وسلم) (عليك بالجمعة فإنها حج المساكين).

ومن هنا أوصى الأئمة (عليهم السلام) شيعتهم بان لا يضيعوا وقتهم في هذا اليوم بغير ما يقربهم إلى الله زلفى، فعن الباقر (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى [فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ] (الجمعة: 9) قال (عليه السلام) اعملوا وعجلوا فانه يوم مضيق على المسلمين فيه وثواب أعمال المسلمين فيه على قدر ما ضيق عليهم، والحسنة والسيئة تضاعف فيه، قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): والله لقد بلغني أن أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يتجهزون للجمعة يوم الخميس لأنه يوم مضيق على المسلمين).

ونقل الشهيد الثاني في (رسالة الجمعة) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من خطبة له: (إن الله تعالى فرض عليكم الجمعة فمن تركها في حياتي أو بعد موتي استخفافاً بها أو جحوداً لها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره، ألا لا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حج له، ألا ولا صوم له، ألا ولا برَّ له حتى يتوب).

وكان أبو جعفر الباقر (عليه السلام) يبكر إلى المسجد يوم الجمعة حين تكون الشمس قدر رمح، فإذا كان شهر رمضان يكون قبل ذلك وكان يقول: إن لجمع شهر رمضان على جمع سائر الشهور فضلاً كفضل شهر رمضان على سائر الشهور)، وفي هذا السياق قال الإمام الصادق (عليه السلام): (فضل الله يوم الجمعة على غيرها من الأيام، وإن الجنان لتزخرف وتزين يوم الجمعة لمن أتاها، وإنكم تتسابقون إلى الجنة على قدر سبقكم إلى الجمعة، وإن أبواب السماء لتفتح لصعود أعمال العباد) وكانوا ينهون شيعتهم عن اللغو واللهو ومضيعة الوقت يوم الجمعة أكثر من غيره فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا رأيتم الشيخ يحدّث يوم الجمعة بأحاديث الجاهلية فارموا رأسه ولو بالحصى).

هذه الفريضة الإلهية العظيمة حُرِم منها أجيال من شيعة أهل البيت (عليهم السلام) على مدى قرون، حينما أقصي أئمتهم (عليهم السلام) عن قيادة الأمة، وتقمَّصها من ليس أهلاً لها، وكانت صلاة الجمعة من وظائف الأمير التي لا يمكن مزاحمته فيها وإلا عُدَّ خروجاً وتمرداً على الدولة، وقد ولَّد طول الإقصاء شعوراً بعدم وجوبها وإمكانية اختيار صلاة الظهر بدلاً عنها، وهذا الشعور يمكن قبوله مع وجود المحذور المتقدم، أما بعد انحسار أسم الخلافة وفصل الدين عن الدولة، بحيث أصبحت السلطات لا ترى من واجباتها القيام بالوظائف الدينية ولا ترى من يؤديها مزاحماً لها في سلطانها فلماذا التقصير في إقامتها وحرمان الأمة من بركاتها؟ بل حتى في عصور الخلافة لا يوجد محذور في إقامتها في القرى والمدن الصغيرة التي ليس من شأن الولاة تعيين أئمة جمعة لها، وبالتالي فلا تُعدُّ إقامتها فيها خروجاً على الدولة، ولذا سنسمع في بعض الروايات عتب الإمام الصادق (عليه السلام) على أصحابه أن لا يقيموها في مدنهم متذرعين بعدم إقامة الإمام (عليه السلام)، لها لكن وضع الإمام في المدينة المنورة –حيث يقيم بنفسه أو من ينصبه جمعتها- يختلف عن مدنهم.

لكن هذا الاتجاه ترسّخ في أذهان الأجيال اللاحقة حتى اتفقوا على عدم وجوبها التعييني، أي انحصار الفرض في ظهر يوم الجمعة بها دون صلاة الظهر في مقابل من قال بالتخيير بينهما أو قال بعدم مشروعية صلاة الجمعة في عصر الغيبة وانحصار الفرض بالظهر، هذا مع إجماعهم بل يُعدُ من ضروريات الدين وجوبها التعييني في زمن الحضور وتمامية الأدلة على وجوبها، إلا أنهم فهموا عدم إقامة الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم لها تغييراً في نحو الوجوب، وقصوراً في اقتضاء الأدلة للوجوب التعييني، أما نحن -وهذه نقطة الفرق الجوهرية- فلا نرى قصوراً في المقتضي، وإنما لم يقمها الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم لوجود المانع الذي زال في العصور الأخيرة فيكون وجوبها تعيينياً وليس تخييرياً.

وقد سرنا في رحلة من البحث الاستدلالي المعمق في القرآن الكريم والسنة الشريفة وناقشنا أقوال الفقهاء (قدس الله أسرار الماضين وحفظ الباقين)، وكانت نتيجة الرحلة المباركة في رحاب القرآن الكريم والسنة الشريفة وفرة الأدلة على وجوب صلاة الجمعة على الأمة إلى يوم القيامة، ولو أن جزءاً يسيراً من هذه الأدلة تعلّق بموضوع آخر لما تردد الفقهاء في القول بوجوبه، لكنهم ترددوا هنا مع اعترافهم بتمامية الأدلة على هذا الوجوب -أعني الوجوب التعييني لصلاة الجمعة-  لما رأوه من عدم إقامتها من قبل الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم العارفين بنهجهم.

ونحن متفقون معهم في عدم جريان سيرة الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم على إقامة صلاة الجمعة بشكل خاص بهم، إلا أنهم -أي الفقهاء- فسروا ذلك بالوجوب التخييري أي قصور الأدلة عن إفادة الوجوب التعييني، ونحن نرى أن السبب ليس قصور المقتضي وإنما هو وجود المانع؛ لأن إقامة الجمعة كان من شؤون الدولة ومختصات الوالي ومن يزاحمه فيها يكون متمرداً على السلطة وخارجاً عليها فيستحق العقاب الأليم، منها وفي الأعصار المتأخرة لما تخلت السلطات عن الشؤون الدينية زال المانع وتوفرت فرصة العودة لإقامة صلاة الجمعة التي هي الواجب المتعين وما صلاة الظهر إلا بديلاً طولياً عنها عند تعذر إقامتها، وليست بديلاً عرضياً بحيث يختار المكلف أيهما شاء.

فقد تحصل من الروايات الصريحة الصحيحة الوجوب التعييني لصلاة الجمعة إذا اجتمع سبعة من المؤمنين وفيهم إمام قادر على أداء خطبتي الصلاة بحدودها الشرعية إذا لم يكن مانع ويجب على غيرهم ممن يبعد فرسخين فأقل عن مكان إقامتها أن يحضروا فيها لقول الإمام في صحيحة زرارة (والاجتماع إليها فريضة مع الإمام، فإن ترك رجل من غير علة ثلاث جمع فقد ترك ثلاث فرائض ولا يدع ثلاث فرائض من غير علة إلا منافق) وصحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم عن الإمام الصادق (عليه السلام) (إن الله عز وجل فرض في كل سبعة أيام خمساً وثلاثين صلاة منها صلاة واجبة على كل مسلم أن يشهدها) والشهود بمعنى الحضور فيها مضافاً إلى دلالة الآية الشريفة بناءً على فهم أن النداء شرط لوجوب إقامتها وحضورها، والروايات التي أوجبت الحضور على من كان على رأس فرسخين وهذا يعني أنها مقامة فعلاً ولها مكان محدد تقاس المسافة بالنسبة إليه عدا ما استثني من العناوين كالمسافر والمرأة فقد رُخصّ لهم وكذا رُخِّص بعدم إقامتها في بعض الموارد كنزول المطر.

أما إذا وجد المانع من إقامتها كالخوف من السلطات سواء كان شخصياً أي على خصوص هذه الجمعة المنعقدة أو نوعياً أي إنها كصلاة جزئية لا تثير قلق السلطة إلا أن انتشارها كظاهرة اجتماعية عامة يثير قلقها ويدفعها إلى البطش بهم ومن الموانع خوف الفتنة والشقاق بسبب التزاحم والتشاح على إمامتها أو وجود جمعة أخرى مقامة ضمن المسافة التي هي فرسخ واحد (خمسة كيلو مترات ونصف) فحينئذٍ يُرخَّص في عدم إقامتها ولهم أن يصلّوا الظهر ولو جماعة، وإذا لم يجتمع العدد المعتبر لكنه كان موجوداً فهل يجب عليهم أن يجتمعوا لإقامتها إذا وُجد فيهم إمام مستجمع للشروط ؟ الأحوط وجوباً ذلك.

فما تعارف عليه شيعة أهل البيت (عليهم السلام) من تعطيل صلاة الجمعة رغم عدم المانع منها وإمكان تحقيق شرائطها لوجود العدد والإمام مجازفة، ومثار لامتعاض أئمتهم (عليهم السلام) لعدم وجود محذور في إقامتها في أغلب الحالات. وهذا الوجود للعدد والإمام غير كافٍ لوجوب اجتماعهم وإقامتها، فكيف وهم يجتمعون فعلاً في المساجد يوم الجمعة لأداء صلاة الظهر جماعة وفيهم إمام يستطيع أداء الخطبتين، فلماذا هذا التعطيل لهذه الفريضة الإلهية؟ حتى على القول المشهور بالتخيير فهم يقولون أنها أفضل الفردين فلماذا لا يؤدّون الأفضل؟

أسأل الله تعالى أن يجمع كلمة عباده على طاعته ويؤلف بين قلوبهم ويهديهم سبيل الرشاد.



(1) مستل من كتاب بنفس العنوان وتجد البحث مفصلاً في كتاب فقه الخلاف.