خطاب المرحلة (70)...ماذا بعد الانتخابات

| |عدد القراءات : 1650
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

ماذا بعد الانتخابات(1)

 بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله والحمد حقه كما يستحقه حمداً كثيراً وأعوذ به من شر نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي.

يتصارع على ارض العراق معسكران:

الأول: قوى الاحتلال التي جاءت لتحقق مصالح ستراتيجية لها حسبتها وفق المعلومات الاستخباراتية التي وصلتها وأعدت لذلك مشروعاً ذا حلقات ومراحل يولد السابق منها اللاحق ويبقى الأصل واحداً، فبعد سقوط النظام نصّبوا حاكماً عسكرياً ثم مدنياً ثم اختاروا مجلساً للحكم يرشح لجنة لكتابة الدستور ويختاروا حكومة مؤقتة تنظم انتخابات وفق الدستور الذي قننوه هم فلا تكون النتائج إلا على طبق ما وضعوا من برامج فهذا المشروع الذي أرادوه.

الثاني: خليط غير متجانس آيدلوجياً ضم الصداميين والمنتفعين من وجودهم الذين يحلمون بالعودة إلى التسلط واستعباد الشعب والاستئثار بثرواته وسوقه إلى الحروب والمقابر الجماعية والمعتقلات والتخلف والجهل، وضم التكفيريين والطائفيين الذين غاظهم وأشعل نار حقدهم ارتفاع صوت الحق على أرض المقدسات وهم الذين حاولوا كبته وخنقه قروناً ويخافون ظهوره لأنه يهدد كياناتهم المبنية على الخداع والتضليل والتشويه.

وتحمس لدعم هؤلاء عدد من الدول الإقليمية الشقيقة للعراق في الدين والعروبة خافوا انبعاث الشعب العراقي وانطلاقته نحو الحرية مما سيدفع شعوبهم إلى التأسي به فسعت إلى إفشال حركته، أو انهم ارادوا حماية بلدانهم وشعوبهم من جرائم الإرهابيين فزينوا لهم (الجهاد) على ارض الرافدين رغم امتلاء بلدانهم بالقوات الأمريكية، أو أنهم أرادوا أن يصنعوا من أشلاء أطفال العراق ونسائه الأبرياء وحلاً يعرقل العجلة الأمريكية عن الوصول إليهم، فاجتمع كل هؤلاء على الاستخفاف بدماء العراقيين وحقوقهم الإنسانية في الحياة الآمنة المستقرة.

في هذه الحرب الظالمة كان تكليف الشعب العراقي شرعاً وعقلاً هو الاحتفاظ بقوتهم البشرية والمادية وعدم زجها في هذه المحرقة، واستثمار أجواء هذه المواجهة وتداعياتها لنشر الوعي وتوسيع مساحة العمل الإسلامي المبارك ومداواة جراح العراقيين وإعادة بناء البلد وإصلاح بنيته الفكرية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية ومعالجة الفساد الضارب بأطنابه.

وهو الموقف الذي نبهنا الأمة إليه قبل أن تطأ اقدام المحتل ارض العراق، حينما تصاعدت حمى التهديدات بغزو العراق وانقسمت القيادات العراقية بين من يدعو إلى  مقاومة المحتل الكافر وان كان في ذلك نصرة لصدام المجرم وإطالة لعمره، وبين من يدعو إلى التعاون مع المحتل الكافر الذي أعلنها حرباً صليبية على الإسلام من باب دفع الأفسد بالفاسد.

ونبهنا إلى خطأ كلا الموقفين رغم أن مثل هذا الحياد الايجابي كان يكلفنا حياتنا في ظل النظام الجائر الذي أعلن (لا حياد في الحرب فمن لم يكن معنا فهو ضدنا)، والكل يعرف ما هو تصرف جلاوزة صدام فيمن يحسبونه ضدهم، لكننا اتخذنا ذلك الموقف واعلناه حماية للمؤمنين وحرصاً عليهم، وهم الثلة المؤمنة خلاصة جهاد وجهود ودماء وتضحيات علمائنا الأبرار وشبابنا الرسالي، لذلك ما أسرع ما تهاوى الطاغوت بالشكل المذل المهين الذي فاجأ العالم.

وهذا الموقف مأخوذ من سيرة أئمتنا الطاهرين وعلمائنا الصالحين، فقد مر مثله في عهد الإمام الصادق (عليه السلام) خلال الصراع بين العباسيين والأمويين، وفي عهد الإمام الرضا (عليه السلام) حين تنازع الأخوان المأمون والأمين على الملك، وفي عهد الفيلسوف الفقيه الخواجة نصير الدين الطوسي والمحقق الحلي حين اسقط المغول الخلافة العباسية المتهرئة.

وظل ذلك هو الموقف من مواجهة هذين المعسكرين التي امتدت بصيغ جديدة وأعطت لنفسها صيغاً من المشروعية لإيهام السذج ودفعهم وقوداً للمعركة، ولكن الحرب هي هي لم تتغير أهدافها وان اختلفت آلياتها، فأصبحت سيارات مفخخة تستهدف المساجد والشعائر الحسينية وتجمعات الأطفال، وحزاماً ناسفاً يتفجر وسط طابور الناخبين الذين اصطفوا ليصوتوا للحرية والانعتاق من عبودية الطواغيت، واغتيالات طالت علماء الدين ورموز الفكر والأساتذة الجامعيين والإدارات الكفوءة، ويسمون كل ذلك (مقاومة) تتبجح بها وسائل الإعلام المأجورة والحاقدة.

وبقيت المرجعية الرشيدة على موقفها الحكيم ففي الوقت الذي استمرت فيه بمطالبتها باحترام إرادة الشعب العراقي وإعادة سيادته إليه وتمكينه من ممارسته لحقوقه المشروعة عبر الآليات المتنوعة، لم تنجَّر إلى المحرقة التي يريد أن يؤججها المعسكر المقابل الذي لا يقل جريمة ووحشية وغدراً عن قوات الاحتلال.

وتوج هذا العمل المبارك بهزيمة المعسكرين، حيث انصاع المعسكر الأول لمطلب المرجعية في إجراء انتخابات عامة حرة نزيهة يتمكن فيها الشعب من اختيار ممثليه الذين يعبرون عن ارادته بالرغم من مماطلة هذا المعسكر وتسويفه تحت ذرائع أمنية وتقنية؛ لأنه  كان يريد للعراق أن يخضع لمشروعه الذي جاء به، أما الانتخابات فإنها ستظهر انتماء هذا الشعب للإسلام وللمرجعية الرشيدة، وسيحول العلاقة من تبعية مذلة إلى علاقة ندية تقوم على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، بعد أن اثبت الشعب وعيه وقدرته على التكيف على احدث التجارب السياسية وأنضجها وأبداها بالشكل الذي أذهل العالم.

وهزم المعسكر الثاني حيث كشف زيف مقاومته المزعومة، وظهر انه عدو الشعب وانه لا يريد الخير له مما جعل أركانه يتبرأون علناً من هذه المقاومة المزيفة، ويطالبون بإشراكهم بالعملية السياسية التي لم يمنعهم منها أحد بل حرموا أنفسهم عتواً ومكابرة. وثبت أن هؤلاء (المقاومين) بجهلهم وسوء تصرفهم يديمون الاحتلال ويطيلون عمره، لأنهم يخلقون المبررات لوجوده بسوء الأوضاع الأمنية ونحوها، كما كان يفعل صدام المجرم حينما وفّر فرصة لم تكن تهتدي إليها قوى الاستكبار بالتواجد في المنطقة، بخلقه الأزمات والحروب والعدوان على الدول الجارة وتهديد امن واستقرار المنطقة.

بعكس المقاومة السلمية الحكيمة للمرجعية الرشيدة والحضور الفاعل المستمر للجماهير الواعية في الساحة، فإنها سحبت كل المبررات لتسلط القوى الأجنبية.

هذا التلاحم العتيد بين المرجعية والأمة الرسالية هو الذي حقق ذلك الانتصار وبقيت نشوته حتى أيام عاشوراء([2]) حين عززته الجماهير بنصر آخر لا يقل عنه عظمةً وزهواً بتلك المشاركة المنقطعة النظير في الشعائر الحسينية في كربلاء وسائر المدن العراقية، حيث بدا للعالم الانتماء الحقيقي لهذا الشعب من خلال تلك السيول العارمة التي انطلقت في موكب النصرة (عزاء طويريج) مهرولة لتلبي صرخة أبي عبد الله الحسين (هل من ناصر) المدوية منذ أربعة عشر قرناً، وستبقى ما بقيت امة جده محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد خرج للإصلاح فيها وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويسير بسيرة جده وأبيه صلوات الله عليهما فأهدافه (عليه السلام) باقية وحركته مستمرة ما دام موضوعها قائماً.

وكان أكثر المشاركين من الشباب الذين راهن الغرب على انسياقهم في أطروحاته البعيدة عن الإسلام، فوجدهم في طليعة المتبنين للمشروع الإسلامي المبارك والمتحمسين للدفاع عنه، وتفاجأ الأعداء أكثر حين رأوا تلك المشاركة المهيبة لطلاب وطالبات جامعات بغداد والمستنصرية في مواكب الوعي الطلابي التحضيرية التي نظمت في بغداد قبل الفعالية العامة في كربلاء، حيث ازدهت بجلالهم شوارع بغداد عاصمة الحضارة الإسلامية.

أيها العراقيون الأحبة: لقد شاء قدركم أن تكونوا مؤسسي الحضارة وصناع التأريخ الذي بدأ على أرضكم منذ آلاف السنين، وفي ثرى هذه التربة الطيبة يرقد الأنبياء والأئمة والعلماء الذين يلهمون الأجيال ويمدونهم بدفق الحياة الحرة الكريمة، وعلى هذه الأرض سطر الإمام الحسين (عليه السلام) ملحمته الخالدة حتى فاقت في شرفها ارض الكعبة كما نطقت به الروايات([3]) وعلى هذه الأرض الكريمة سيقيم الإمام المنتظر دولته المباركة وينطلق منها لنشر العدل في ربوع العالم.

وها أنتم هذا الجيل اختاركم الله تعالى لتؤسسوا نموذجاً حضارياً جديداً تتطلع إليه كل شعوب المنطقة، لا مكانة فيه للاستبداد ولا للاستئثار ولا للتسلط وللاستعباد ولا للظلم والعدوان، فلا يثنين عزمكم هذه الحفنة من الإرهابيين الأراذل الذين يريدون أن يعيقوا حركتكم المباركة، وثقوا بان من ساندوهم على البغي والعدوان سيذوقون عاقبة بغيهم عاجلاً [وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ] (فاطر: 43) [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ](الأنفال: 30) وقد أكدت الأحاديث الشريفة ان عاقبة البغي وخيمة (لو بغى جبل على جبل لتدكدك)،  (من سل سيف البغي قتل به).

وقد وعظت وقدمت النصائح في البيان (69) إلى كل ذوي العلاقة بالقضية العراقية، وبينت لهم الدروس والعبر المستفادة من ملحمة الانتخابات والاستحقاقات المترتبة عليها، وخصصت بالخطاب: السادة المنتخبين للجمعية الوطنية الانتقالية، والقوات الأجنبية المتواجدة على أرض العراق، والدول الجارة للعراق التي تدعم الإرهاب وتغذيه مادياً ومعنوياً، وأرجو أن ينتفعوا بالنصائح قبل فوات الأوان.

والآن أتوجه بكلامي إليكم أيها الأحبة أن تحافظوا على عناصر قوتكم ومكاسبكم التي حققتموها بالحضور الفاعل المستمر على الساحة، والالتفاف الواعي حول المرجعية الرشيدة والارتباط الوثيق بالله تبارك وتعالى وشريعته العظيمة، وزيادة وعيكم وثقافتكم حتى تكونوا أهلاً لنصرة الحق [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إلى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ](الصف: 14) ولا تفتر عزائمكم وجددوا في أساليب عملكم فإن ذلك كله بعين الله تبارك وتعالى [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى](آل عمران: 195).

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على حبيبه محمد وآله الطيبين الطاهرين.

محمد اليعقوبي

12 محرم 1426هـ المصادف 21/2/2005م



([1]) كلمة أعدت لإلقائها في الحفل الذي يقيمه فرع حزب الفضيلة الإسلامي في البصرة يوم الخميس 15 محرم 1426 – 24/2/2005 بمناسبة مرور عام على افتتاحه، وقد  اكتسح حزب الفضيلة الإسلامي الأحزاب الأخرى في الانتخابات في البصرة وغيرها مما أذهل المراقبين بفضل الله تبارك وتعالى.

([2])  صادف زيارة عاشوراء والمشاركة المليونية فيها يوم 19/2/2005، أي بعد إجراء الانتخابات بعشرين يوماً.

([3]) تهذيب الأحكام: الجزء السادس، كتاب المزار، الباب الثاني والعشرون (حد حرم الحسين (عليه السلام)، الحديث السادس، ص1059.   مؤسسة الأعلمي بيروت – لبنان، الطبعة الأولى.