خطاب المرحلة (75)...الصدق في الدعوة إلـى الوحدة والمؤاخاة

| |عدد القراءات : 1790
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

الصدق في الدعوة إلـى الوحدة والمؤاخاة([1])

 بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله كما يستحقه وكما هو أهله وصلى الله على سيد خلقه وحبيبه محمد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين.

أبارك لكم انعقاد هذا الشمل الميمون الذي اكتسب هيبته وجلاله وأهميته من زمان انعقاده المرتبط بصاحب الذكرى الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن مكان انعقاده وهي ارض الجمهورية الإسلامية المباركة في إيران، ومن الحاضرين الذين يمثلون قادة الأمة وأهل الحل والعقد فيها، ومن الظروف التي تعيشها الأمة بكل تحدياتها ومخاطرها ومشاكلها وتعقيداتها ومن الهدف الذي يتمحور حوله المؤتمر وهو تحقيق الوحدة بين طوائف المسلمين ومذاهبهم.

أيها الأحبّة:

لقد حثنا الله تبارك وتعالى على التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال عظمت آلاؤه [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] وهذا التأسّي لا يقتصر على حياته الشخصية الشريفة وإن كان في ذلك غنى وكفاية، وإنما تدعو الآية الشريفة إلى الاستفادة من طريقة معالجته لقضايا الأمة وحلّ مشاكلها ووضع الخطط الكفيلة لإصلاحها وقيادتها نحو سعادة الدارين وكمالها المنشود وتنظيم علاقة أمته ودولته داخل كيانها ومع الأمم والدول الأخرى، وحينئذ سنجد في حياته الشريفة كل ما نحتاج.

أليس هو صنو القرآن بل هو القرآن الناطق؟! فكلُّ ما وصف القرآن نفسه من خصائص شريفة فهي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنها قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] ومنها قوله تعالى [مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ]، فسيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) في أقواله وأفعاله سفر خالد فيه تبيان لكل شيء ولكن حقائقه الواقعية كحقائق القرآن الكريم [فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ] الذين طهرت قلوبهم من الرين وصفت أنفسهم من التعلق إلا بالله تبارك وتعالى [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهل الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً]، وبمقدار طهارة قلب الإنسان وصفاء نفسه يستحق من الفيوضات الإلهية ونور المعرفة بالله تبارك وتعالى [أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا].

ومما نستفيده من حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) كقائد حكيم وباني حضارة خالدة ومؤسس أمة ومنقذها من الضلال والضياع والتشتت والجاهلية، انه (صلى الله عليه وآله وسلم) أول ما فعل قبل أن يؤسس دولته المباركة حينما وطأت قدماه مدينته المنورة، إنه آخى بين المهاجرين والأنصار ودعا كل واحد من الأنصار إلى أن يؤاخي واحداً من المهاجرين ويقاسمه كل شيء حتى أن أحدهم إذا كانت له زوجتان وليس للمهاجر زوجة طلق إحداهما وزوجها الآخر، وعلى هذا الأساس الرصين انطلق ليفتح العالم كله ولو لم يكن وراءه مجتمع موحد لانشغل بمشاكله الداخلية وما يستتبعها من تداعيات التناحر والتقاطع والتباعد وعجز عن تنفيذ مشروعه الرسالي العظيم.

من هنا كانت المساعي المباركة لتوحيد الأمة وتآخيها ركناً أساسياً في إعادة هيبة الأمة الإسلامية وقوتها وممارستها لدورها الحضاري الرائد.

ومؤتمركم الميمون هذا خطوة على هذا الطريق اللاحب الطويل، ولكنه رغم معاناته لذيذ يفيض على القلب بالسعادة وعلى الروح بالسمو.

والذي أريد أن أثيره في هذا اللقاء المبارك هو تقييم نتائج هذه المؤتمرات التي تواصلت عقوداً من الزمان وهل إنها حققت نتائجها المنشودة؟ يؤسفني أن أقول لا على الأقل من الزاوية التي انظر إليها وأعيش همومها وقضاياها.

وحينئذ يتحتم علينا كنخبة واعية هادفة نتعامل مع الأمور بجدية، ولا مكان للهو والعبث وإزجاء الوقت في فراغ، أن نقيّم هذا المشروع الإصلاحي العظيم واعني به تحقيق وحدة الأمة ومؤاخاة أبنائها، وأن نحدّد أسباب التلكؤ والتعثر ومعوقات العمل، فنحن لا نريد أن نخدع أنفسنا وننظر إلى الأمور بعين واحدة وهي عين الرضا عن النفس فإنها من المهلكات [لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] وأعيذ نفسي وأخواني أن نكون من أهل هذه الآية وأخواتها المباركات.

فقد كنا من المبادرين لإعلان الأيام المتخللة بين الثاني عشر والسابع عشر من ربيع الأول المتشرفة بذكرى ولادة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أسبوعا للمؤاخاة تأسياً بسيرته الشريفة (صلى الله عليه وآله وسلم)،  ولكنكم تسمعون وتشاهدون الجرائم الفظيعة التي ترتكب في حق أتباع أهل البيت (عليهم السلام) في الحلة والموصل وبغداد واللطيفية والمدائن والحصوة واليوسفية وحديثة، وانتهكت حرمات أهل البيت (عليهم السلام) في النجف وكربلاء والكاظمية وراح ضحيتها الأبرياء من نساء وأطفال وشيوخ وشباب لا ذنب لهم إلا أنهم التزموا بقوله تعالى [قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى].

وهؤلاء المجرمون لا يمثلون أنفسهم، وإنما وراءهم أمة من الناس تؤويهم وتقدّم لهم الدعم والخدمات وتخفيهم عند الاضطرار وتحتفظ برهائنهم ومخطوفيهم، وتقدّم لهم المعلومات الاستخباراتية الدقيقة عن ضحاياهم، كما أن وراءهم من يبرر أفعالهم من علماء السوء ويعطيهم المشروعية ويبارك لهم سفك الدم الحرام في البلد الحرام في الشهر الحرام، ويجعلها من أقرب الطاعات لله تبارك وتعالى وأقصر الطرق إلى الجنة؟

فهي إذن منظومة كاملة تعبئ للجريمة وتدفع إليها وتحتضنها وتدعمها وتشترك فيها وتتقاسم غنائمها من السحت الذي يغلي في بطون آكليه ناراً وسيصلون سعيراً، ولو لم يكونوا شركاء في الجريمة فلماذا لم تحصل مثل هذه الشبكات المنظمة للفساد في الأرض في المدن الملتزمة بتعاليم أهل البيت (عليهم السلام) وتتبع مرجعيتها الرشيدة؟

هذا كله ما يجري في المناطق التي يكثر فيها المنتسبون إلى أهل السنة والجماعة وهم برءاء منهم إلا أنهم يخافون سطوتهم، ويتبجحون بهذه الأفعال ويفخرون بها ويسمونه (مثلث الموت) هل سألوا أنفسهم لمن هذا الموت؟ إن من يقتل من المحتلين لا تعدو نسبته واحد بالمئة فالموت إذن للأبرياء والإخوان في الدين والوطن الذين لهم رب واحد ودين واحد وكتاب واحد ونبي واحد وقبلة واحدة ويتربص بهم عدو واحد لا يفرق بين سني وشيعي ولم يستهدف السني لسنيته ولا الشيعي لشيعيته وإنما استهدفهما معاً لإسلامهما !

هل من المصادفة أن يتعرض الشهيد السيد محمد باقر الحكيم في النجف الأشرف والشهيد الشيخ أحمد ياسين في فلسطين المحتلة لحادثي اغتيال في أسبوع واحد([2])فاستشهد الأول ونجا الثاني ثم استشهد في محاولة أخرى؟ وهل من المصادفة أن تنتهك المقدسات في القدس الشريف والنجف وكربلاء المقدستين في آن واحد؟ إلا يكفي هذا رادعاً لإخواننا لكي يكفوا عن الغدر والطعن من الخلف ولا يكونوا إلباً لأعدائهم على إخوانهم.

إن كلمات الاستنكار الخجولة التي تصدر لذر الرماد في العيون لم تعد تنطلي على أحد ولا قيمة لها ما دام تسميم الأجواء مستمراً والتعبئة والتثقيف نحو الجريمة يوظف كل وسيلة إعلامية من الفضائيات إلى الإذاعات والصحف والمجلات ومنابر الجمعة والجماعة غير الجلسات الخاصة وما دام التضليل ودفع الهمج الرعاع والمتحجرين والقساة الذين قست قلوبهم [فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أو أَشَدُّ قَسْوَةً].

لقد حذر الله تبارك وتعالى من المكر السيئ فقال عز من قائل [وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً]؛ ولذا حذّرت في عدة بيانات الإخوة الذين يغذون الفساد في الأرض من داخل العراق وخارجه، أن عاقبة البغي وخيمة و(من سل سيف البغي قتل به) وانه (لو بغى جبل على جبل لتدكدك)، فهذا الفساد في الأرض الذي يفتون به ويدعمونه لإهلاك الحرث والنسل في هذا البلد الكريم سيعود عليهم قريباً جرياً مع سنة الله تبارك وتعالى التي لا تقبل التحويل والتبديل وسينوؤن بثقله وسيكتوون بنار الفساد، أو ما يسمونه بالإرهاب الذي صنعوه بأيديهم بغياً على شعب العراق المسلم الأبي.

لماذا يكون الفعل الواحد جريمة تندى لها الإنسانية إذا وقع في بلادهم ضد العدو الذي يتحكم في سياستهم واقتصادهم وثقافتهم ويكون (مقاومة) و(جهاداً) إذا وقع ضد المدنيين الأبرياء في أرض العراق؟ إن أهداف هؤلاء المستندة إلى عصبية جاهلية ومصالح أنانية ونظرة ضيقة لم تعد خافية على احد.

إن رفض الاحتلال وكل أشكال التبعية والتحرر منه والعبودية الخالصة لله تبارك وتعالى واجب إنساني لا يناقش فيه أحد، وهو حق للعراقيين قبل غيرهم وهم من أوائل الشعوب التي سعت إلى الحرية وضحت من أجل نيلها.

وهذا الرفض له آلياته وأشكاله وظروفه وللمقاومة ثقافة ولها أخلاق فنقرأ في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان كلما بعث سرية أو جيشاً حملهم مع السلاح توجيهات ونصائح وأخلاق بأن لا يقتلوا امرأة ولا طفلاً ولا شيخاً ولا يقطعوا شجرة وأن يقبلوا إسلام من أعلن الشهادتين وأن لا يجهزوا على جريح ونحوها مما حوته جوامع الحديث، ولما ارتكب أحد أمراء جيشه خطأ تبرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من فعله  وأرسل علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى المتضررين فوداهم حتى ميلغة الكلب ثم فرق فيهم مالاً إضافياً احتياطاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي سُرَّ بما قام به علي (عليه السلام) فأين أدعياء المقاومة من هذه الأخلاق النبوية الشريفة؟!

أيها السادة المحترمون:

علينا أن نكون صادقين مع الله تبارك وتعالى ومع أنفسنا فإننا حينما تحملّنا العلم ووضعنا أنفسنا في هذا الموقع المقدس، رضينا بأن نحمل الأمانة التي عرضها الله تبارك وتعالى [عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً] إذا لم يؤدِّها ولم يكن أمينا عليها والعلماء أمناء الرسل وورثتهم ليس فقط في الامتيازات والجاه والتقديس والحقوق وإنما ورثتهم في تحمل مسؤولية الرسالة من جميع جوانبها وقد قال تبارك وتعالى عن أنبيائه الكرام [وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً، لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً] ثم أمر عباده باتباع الرسل والكون معهم على خطهم ونهجهم فقال عظمت آلاؤه [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ].

فإن كنا حقاً علماء وقادة للأمة فلنكن صادقين في الدعوة إلى الوحدة والتآخي بخلق ثقافة المحبة والأخوة واحترام الرأي الآخر والشراكة معه، ولا تتحقق هذه الثقافة إلا بقيام صناع الرأي في الأمة من علماء ومفكرين وكتاب وخطباء وأدباء وصحفيين وإعلاميين في إشاعة هذه الأجواء الايجابية وحينئذ ستتوجه الأمة كلها بهذا الاتجاه، أما أن تكون اللغة السائدة هي التكفير والإلغاء والاتهام والحقد فلا معنى للحديث عن الوحدة والمؤاخاة، ويكون مثل هذا الحديث لغواً بل نفاقاً وقد حذركم الله نفسه والله بصير بالعباد ويقول لكم [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ].

أيها الأحبة:

أرجو أن تقبلوا هذه الشقشقة التي هي نصيحة وتذكار وتحذير من اللعب بالنار التي لا تبقي ولا تذر [وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] وإنما شكوت إليكم بثي وحزني فلأنكم إخواني في الله ومن شكا إلى أخيه المؤمن فقد شكى إلى الله عز وجل.

أسأل الله أن يمدكم بنصره ويأخذ بأيديكم لما فيه صلاح الأمة ورضا الله تبارك وتعالى [وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أكبر ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ] ويغفر الله لي ولكم وهو أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

النجف الأشرف – محمد اليعقوبي

13 ربيع الأول 1426

الموافق 22/4/2005



([1]) نص الكلمة التي وجهها سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) إلى مؤتمر الوحدة الإسلامية الذي عقد في طهران برعاية المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية للفترة 15-17 ربيع الأول 1426 المصادف 26/4/2005، وقد قرأ سماحة الشيخ التسخيري رئيس المؤتمر ورئيس المجمع مقاطع منها في الجلسة الأخيرة.

([2])  استهدفت سيارة مفخخة موكب السيد الحكيم يوم الجمعة 1 رجب 1424 المصادف 29/8/2003 واستهدفت غارة إسرائيلية منزل الشيخ أحمد ياسين والقيادي في حركة حماس إسماعيل هنية يوم 9 رجب فجرح الأول ونجا الثاني.