خطاب المرحلة (80)...توسيع مؤسسات المجتمع المدني ضرورة حضارية

| |عدد القراءات : 1322
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

توسيع مؤسسات المجتمع المدني ضرورة حضارية([1]) 

 بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

حينما يجري الحديث عن هيكلية الدولة فإنهم يقسمونها إلى سلطات ثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية ويتكفل الدستور والقوانين المنبثقة عنه بيان صلاحيات كل منها ومسؤولياتها ونظامها الداخلي حيث تنتظم حياة الأمة بتكامل عمل هذه السلطات فيما بينها.

وبعد تنامي قوة الإعلام وتأثيره في حياة المجتمع البشري بوسائله المتقدمة وذات التقنيات العالية والمتنوعة سمي السلطة الرابعة أي مكملاً لدور تلك السلطات الثلاث في توجيه الأمة نحو الأهداف المرسومة لها.

لكن البشرية اكتشفت أن هذه السلطات الثلاث يمكن أن تنحرف بعيداً عن إرادتها بل تصبح معادية لها حيث تتعامل مع عامة الناس بالتسلط والاستئثار والتكبّر والاستبداد وعدم المبالاة والظلم والعدوان والفساد، وأن السلطة الرابعة يمكن أن تبيع ضميرها وقلمها وإرادتها لمن يشتريها بعيداً عن الإنصاف والموضوعية والمصداقية، فتتجه إلى التضليل والتشويه والتزوير والكذب والتهويل والتسقيط والدجل و…

ومن هنا توجهت الأمم إلى إنشاء مؤسسات ومنظمات تمثل إرادتها ورؤاها وتتحرك وفق مصالحها وتساهم جدياً في تحقيق الرفاه والسعادة للمجتمع، وتعمل على استنقاذ حقوقها وتوجيهها نحو ما ينفعها لتتخذ قراراتها بشجاعة ووعي، وهي بالتالي تعمل على بناء مجتمع متحضر يقوم على أساس حق الإنسان في حياة حرة كريمة وقد سميت (مؤسسات المجتمع المدني).

إن دور هذه المؤسسات في حياة الأمة يتلخص في أمور:

1- توجيه رأي الأمة نحو ما ينفعها ويصلح حالها ومساعدتها في اتخاذ القرار الصائب في مختلف القضايا.

2- استنقاذ حقوق الأمة والمطالبة بها.

3- مساعدتها في معالجة المشاكل والأزمات وتجاوز المحن والصعوبات ومد يد العون لها والتخفيف من آلامها.

4- تطوير حالها وتأهيل أبناء الأمة لممارسة دورهم الحضاري والارتقاء بحالها إلى مستوى الدول المتحضرة.

5- مراقبة السلطات الرسمية وتقييم أدائها وتشخيص مواطن الضعف والخلل والفساد والضغط عليها لتجاوزها.

6- قيادة الفعاليات الجماهيرية وتنظيمها بعد إقناع الأمة بمبرراتها.

وبمقدار التزام مؤسسات المجتمع المدني بهذه الأدوار المهمة والواسعة بموضوعية واتزان وإنصاف وحيادية في حياة الأمة فإنها تحظى بثقتها ودعمها واستجابة الجماهير لها، وبالتالي تظهر قدرتها على صناعة قرار الأمة والتأثير فيه وإن مما يزيد ثقة الأمة بهذه المؤسسات جملة أمور:

1- استقلاليتها وعدم انزلاقها في الصراعات المحتدمة على السلطة والمهاترات الجارية بين الأجنحة المتنافسة.

2- إخلاصها في عملها وتفانيها في خدمة المصلحة العامة.

3- وعيها وقدرتها على تشخيص العلل ومكامن الضعف في حركة الأمة وحكمتها في وضع الخطط والبرامج الناجحة لإنهاض الأمة وتحريكها نحو صلاحها وعزّتها وكرامتها.

4- نزاهتها وعدم تورطها في منافع شخصية وفئوية.

إن الثقافة الإسلامية التي صنعها القرآن الكريم والسنة الشريفة عززت في الأمة هذه التوجهات ودفعتها إلى تحمل هذه المسؤولية، قال تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] (البقرة: 143)، فأبناء الأمة كلهم - وليس فقط الموجودون في السلطة - مسؤولون عن ضبط مسيرة الأمة بالاتجاه الصحيح والحديث الشريف المشهور: (كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته) واضح في ترسيخ هذه الثقافة.

وتزخر المصادر الإسلامية بهذه الشواهد، ولعل أعظم ما وردنا في هذا المجال، عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى الصحابي الجليل مالك الأشتر لما ولاّه مصر، ومما جاء فيه كأول وثيقة تؤسس الفصل بين السلطات: (واجعل لرأس كل أمر من أمورك - أي السلطات المتعددة - رأساً منهم - أي الصالحين - لا يقهره كبيرها ولا يتشتت عليه كثيرها)، ويدعو إلى تأسيس مشاريع الخير والصلاح للأمة فيقول (عليه السلام): (ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثنّ سنة تضرُّ بشيءٍ من ماضي تلك السنن فيكون الأجر لمن سنّها، والوزر عليك بما نقضت منها، وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس قبلك) وهو (عليه السلام) يدعو إلى أن تتبنى الدولة لا الحكومة رعاية المؤسسات المنبثقة من عامة الشعب والمعبّرة عن إرادته وتحكيم رأيها في عمل مؤسسات الحكومة فقال (عليه السلام): (وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضا الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة، وان سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة، وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء واقل معونة في البلاء وأكره للإنصاف وأسأل بالإلحاف، وأقلّ شكراً عند الإعطاء وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة، وإنما عمود الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة فليكن صفوك لهم وميلك معهم)([2]) .

ولرسوخ هذه الثقافة الحضارية الراقية في أذهان شعبنا المسلم الواعي استطاع بسرعة بعد زوال الطاغوت أن يتكيف مع متطلبات الرقي والكمال، ولم يحتج إلى تأهيل واستطاع أن يخطف الأضواء ويثير إعجاب العالم بتصرفاته الحكيمة ومشاريعه الرائدة ونجح في الالتحاق بركب الحضارة العالمية، رغم العقود الطويلة التي عاشها في ظل القهر والحرمان والتجهيل والاستبداد، وانتشرت مؤسسات المجتمع المدني لتملأ كل أنشطة الحياة الثقافية والإنسانية والاقتصادية والعلمية والدينية والاجتماعية والأخلاقية، وكانت المرأة سبّاقة في هذه الحركة رغم أنها الأكثر حرماناً واضطهاداً وإقصاءً، وأنشأت على أرض الواقع مؤسسات تثير بنشاطاتها الواسعة الفخر والاعتزاز ولم تثنِ من عزائمهم جرائم المتحجرين والجهلة والمستبدين وأعداء الشعب والإنسانية.

أفبعد هذا يأتي أعداء الإسلام ويجعلون مصطلح المجتمع المدني مقابل المجتمع الديني، ويقارنون بينهما ثم يعملون الاستبيانات لمعرفة آراء الناس في اختيار أيهما وكأنهما ضدان لا يجتمعان؟ وهل عرفت البشرية الحضارة والسمو والرقي والمدنية إلاّ في قيادة الدين ويكفي مراجعة النقلة العظيمة التي أحدثها الإسلام في حياة العرب حين نقلهم من حياة الجاهلية والبداوة والضياع والتشتت وممارسة الموبقات وكل ما يدمر الإنسانية إلى أمة كريمة حرة صنعت أعظم حضارة في التأريخ.

إننا نجد اليوم أن من ضرورات التلاقح الحضاري الذي يخوضه الإسلام ولتفعيل مبدأ (الإسلام محتاج إلى جميع أبنائه) أن نسعى إلى ملأ كل جوانب الحياة بمؤسسات المجتمع المدني، ضمن خطة مركزية تضعها المرجعية الرشيدة ويملؤها الأمل والتفاؤل في قدرة الأمة على إنجاح هذه الحركة من خلال انجازاتها العظيمة خلال السنتين الماضيتين التي تحتاج إلى ملأ كتاب كامل لشرح تفاصيلها لكنني أشير إلى مثالين منها:

أولهما: معهد التطوير الاجتماعي الذي تأسس في بغداد لتطوير مهارات شبابنا في العمل الاجتماعي والسياسي وما تفرع عنه من مركز الشهيد مؤيد الكعبي للإحصاء الذي قدّم عدة تحليلات لبيانات تتعلق بقضايا مهمة، والشبكة الوطنية للمنظمات العراقية (شموع) التي ضمّت أكثر من ثمانين كياناً من مؤسسات المجتمع المدني وساهمت في مراقبة الانتخابات حيث نشرت أكثر من ثلاثة آلاف مراقب على مراكز الانتخابات في عدة محافظات وصادقت المفوضية العليا للانتخابات على اعتماد نتائجها، وأخذت مكانها إلى جنب الشبكات الدولية في هذا المجال، رغم أن عمرها لم يتجاوز شهراً واحداً وبإمكانات تكاد تقرب من العدم وتقوم بنشر الثقافة السياسية وتدعم مؤسسات المجتمع المدني في محافظات القطر كافة.

ثانيهما: رابطة بنات المصطفى التي أسستها ثلة من المؤمنات الرساليات وانتشرت فروعها وازدهرت ومن نشاطاتها مركز اليتيم الذي يتكفل برعاية مئات الأيتام كما أنها ترعى الأرامل وتؤهل النساء لحياة كريمة وتثقفهنّ وتعلمهنّ.

 

محمد اليعقوبي

23 ج1 1426

الموافق 30/6/2005



([1]) من حديث سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع وفد من أبناء الفضيلة في محافظة بابل يوم 23 ج1 1426 المصادف 30/6/2005.

([2]) راجع كتاب (الراعي والرعية) للمرحوم القانوني توفيق الفكيكي.