خطاب المرحلة (93)... ثقافة دستورية الحلقة الثانية

| |عدد القراءات : 1273
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

ثقافة دستورية

الحلقة الثانية  

 بسم الله الرحمن الرحيم

 

سماحة المرجع الديني آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف)

طالما عودتنا المرجعية الشريفة على أن تكون الكهف الحصين الذي تأوي إليه الأمة في ملماتها، واليوم إذ يمر عراقنا الجريح الحبيب بمنعطف تأريخي يؤسس لحياة الأجيال القادمة نرجو من سماحتكم التفضّل علينا ببيان رأي المرجعية الرسالية الشريفة حول بعض النقاط التي كثُر الكلام والحديث عنها في المحافل السياسية والإعلامية، فنرجو أن تضعوا النقاط على الحروف حول المواضيع التالية:

السؤال الأول: طُرحت مسألة الفيدرالية فما هو رأيكم الشريف فيها؟

بسمه تعالى: أرى من مصلحة الشعب العراقي الآن أن يسير وفق نظام الإدارة اللامركزية للمحافظات مع تحديد السلطات الحصرية والمشتركة للحكومة المركزية والحكومات المحلية في المحافظات، أما الفدرالية فتُثبَّتْ كحق لمحافظة أو أكثر متى شاءت ووجدت في نفسها القدرة على تشكيل إقليم وإدارته؛ لأن الفدرالية يمكن أن تكون حلاً لبعض المشاكل التي يمكن أن تحصل في الحكومة المركزية وهي غير حاصلة الآن، كما أن الشعب العراقي في محافظات الوسط والجنوب عليه أن يستغل هذه المدة لتأهيل نفسه على مستوى إدارة الأقاليم، وقد أخِذ بهذه الأفكار في الصياغة المعتمدة من الدستور.

السؤال الثاني: (الإسلام هو مصدر أساسي من مصادر التشريع) هل هذه العبارة كافية ليصوّت عليها الشعب بالقبول؟

بسمه تعالى: لما كان الدستور ينظّم الحياة المدنية للمجتمع ويوزّع المسؤوليات ويحدد الحقوق والواجبات للسلطة والشعب فهو يقع ضمن مساحة المباحات والتشريعات الموكولة للأمة كي تقنّن لنفسها ما يصلحها، وهذا الإيكال أشارتْ إليه الآية الشريفة [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَينَهُمْ] فضمير (هم) يعني اختصاص الشورى بالأمور الراجعة إليهم، وضمن هذه المساحة يكون من المفيد الاطلاع على تجارب البشرية المتعددة والمتكاملة عبر التأريخ؛ لأن إدارة المجتمعات المدنية جهد إنساني وحضاري تشترك فيه جميع البشرية ولا يمكن الاستغناء عن تجارب الآخرين.

فالإسلام مصدر للتشريع في المساحة التي وضع الشارع المقدس لها أحكاما إلزامية،أما (منطقة الفراغ) التي تركها الشارع المقدس للأمة كي تقرّر ما يناسب حالها وظروفها فهي منطقة فراغ بمعنى خلوّ الشريعة فيها من الأحكام الإلزامية، ولا تعني ترك الشريعة لها من دون حكم غير إلزامي لأنه خلاف ما نعتقده من أنه (ما من واقعة إلا ولله فيها حكم).

وهذه المساحة تشمل أيضا منطقة العناوين الثانوية كالضرر والعسر والحرج والإخلال بالنظام الاجتماعي العام، فإن هذه العناوين الثانوية التي تطرأ على الموضوع تسقط الأحكام الأولية الأصلية حتى لو كانت إلزامية، فترتفع حرمة أكل الميتة عند الاضطرار ويسقط وجوب الوضوء عند العسر ووجوب الصوم عند الضرر.

ومثل هذه المناطق (منطقة الفراغ والعناوين الثانوية) هي التي يوضع الدستور والقوانين المنبثقة عنه لملئها  وفي هذه المنطقة التي يغطيها الدستور لا مانع من أن يجتمع أعضاء منتخبون من قبل الشعب ليقرر الأصلح بالاستفادة من تجارب وتشريعات الأمم الأخرى، وانطلاقاً من ثوابتهم الأخلاقية والاجتماعية والثقافية والظروف المحيطة بهم، ولكن يشترط في هذه التشريعات أن لا تخالف الشريعة الإسلامية وهذا بالضبط ما أقرّه الدستور حيث أعلنت كبيرة النساء العلمانيات أننا أُصبنا بخيبة أمل كبيرة من الدستور، وانتقد  العلمانيون الولايات المتحدة بأنها عبرت المحيطات وقدّمت آلاف القتلى ومليارات الدولارات لتقيم حكماً إسلامياً في العراق فلله الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

السؤال الثالث: مسألة ازدواج الجنسية ورأي المرجعية فيها؟

بسمه تعالى:أن مسألة ازدواج الجنسية تُلحظ باتجاهين، فتارة ننظر إليها بلحاظ العراقي الذي يحصل على جنسية دولة أخرى بعد أن تنطبق عليه قوانين منح الجنسية لتلك الدولة، وتارة ننظر إليها بلحاظ الأجنبي الذي يراد منحه الجنسية العراقية.

أما الحالة الأولى فلا اعتراض عليها خصوصاً بالنسبة للإخوة الذين هجّرهم صدام المدحور قسراً أو هجروا الوطن بعد أن ضاقت عليهم السبل وبقي الولاء للعراق أرضاً وشعباً يسري في عروقهم، أما الحالة الثانية فلابد من وضع قيود شديدة لها ليست كتلك المعمول بها في الدول الغربية؛ لأن الجنسية العراقية تعني خصائص دينية واجتماعية وثقافية وحضارية لا تحصل للشخص بإقامته في العراق خمس سنين أو بولادته في بلاد الغرب من أم عراقية وأب أجنبي، فلا تكون مثل هذه الضوابط كافية لمنحه الجنسية العراقية، على أن نسيج مجتمعنا العراقي من التماسك والتقارب مما يصعب معه إدخال عناصر غريبة عنه ولا يحتاج إليها، وبنفس الوقت لا نستطيع أن نحرم غير العراقي من ولد من أب غير عراقي  وعاش وتزوج وأنجب في العراق حتى أصبح عراقياً على نحو الحقيقة من جميع الجهات.

لذا وضعنا ضوابط لمنح الجنسية العراقية لمثل هؤلاء في الحلقة الأولى من (ثقافة دستورية)  وتعليقاتنا على الدستور مما يجب أن يلحظه الإخوة المشرعون عند وضعهم لقوانين الجنسية بإذن الله تعالى.

السؤال الرابع: ما هو رأيكم فيما يُثار من الخوف على عروبة العراق في الدستور الجديد؟

بسمه تعالى: إذا كان المقصود بالعروبة الأخلاق الفاضلة التي تأصلت لدى العرب كالغيرة والكرم والشجاعة والإباء والتي ذكّر بها الإمام الحسين (عليه السلام) أهل الكوفة وقال لهم (إن كنتم لا تخافون الله ولا ترجون يوم المعاد فارجعوا إلى أحسابكم وأنسابكم إن كنتم عُرُباً كما تزعمون) هذه التي كانت موجودة منذ الجاهلية إلا أنها كانت ناقصة ومخلوطة بأخلاق رديئة أخرى فجاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليهذب أخلاقهم ويطهّر نفوسهم وقلوبهم ويزيل عنهم إصر الجاهلية وأغلالها فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) (إنما بُعِثتُ لأتمم مكارم الأخلاق) ونظمها جدي اليعقوبي (رحمه الله) في قصيدته:

ومكارم الأخلاق كانت تشتكي          نقصاً فتمّ بأحمد النقصانُ

فهذه الأخلاق وهذه الأصالة لا خوف عليها لأنها من صميم الإسلام الذي نتمسك به، وقد توالت على العراق قرون من سلطة غير العرب كالعثمانيين والصفويين ولم تؤثّر فيها بل بقي هو رائد العروبة لأنها متلازمة مع الإسلام واللغة العربية لغة القرآن والأحاديث الشريفة فالاعتناء بها جزء من الاعتناء بهما، حتى أن العصر الذي يسمّونه (الفترة المظلمة) من عصور الأدب العربي كان هو من أكثر العصور ازدهاراً في مدرسة النجف الأشرف والحلّة الفيحاء وشهد مفاخر الشعر عبر التأريخ ولسنا بصدد بيان التفاصيل، فهذا الوجه الناصع الرائع للعروبة أصله ومعدنه وديمومته والحفاظ عليه في العراق ولا خشية عليه.

ولكن هؤلاء المرجفين لا يقصدونه لأنهم لا مبادئ لهم ولا أصالة ولا يهتمون به ولا يفكرون فيه، وإنما يقصدون بالعروبة الشعارات القومية التي ضحكوا بها على الشعوب العربية وساقوهم من خلال التهريج بها إلى المجازر والحروب العبثية وبددوا ثرواتهم على النزوات والشهوات وقتلوا بها الإسلام وعلماءه وشبابه الرسالي الواعي، فهذا نحن بريئون منه ونعمل على إسقاطه ونبذه ولا نقبل بعودة عقارب الساعة إلى الوراء بعد أن نجّانا الله تبارك وتعالى منها بلطفه وببركة دماء الشهداء البررة.

السؤال الخامس: ما هو تقييمكم لمسودّة الدستور المقدّمة إلى الجمعية الوطنية؟

بسمه تعالى: أثمّـن الجهود التي بذلها الإخوة في لجنة كتابة الدستور وأعلم أنهم حاولوا الخروج بصيغة تتوافق عليها مكوّنات الشعب العراقي وشهدت العملية تجاذبات كثيرة تصرف البعض فيها انطلاقاً من أنانيته ومصالحه الشخصية الضيّقة، وأراد آخرون فرض مطالبهم بأي شكل.

وقد مارس ممثلو الائتلاف دور الأبوية والرعاية تلبية لتوجيهات المرجعية الرشيدة حتى خرج الدستور بهذه الصيغة التي حظيت بموافقة الأغلبية، وإن كنت أسعى لتعديل بعض الموارد ليكون أكثر قبولاً.

لكن الخطوة الأهم هي في الالتزام بمواد الدستور وحسن تطبيقها فإن مجرد تسطيرها لا يكفي، فهذه الأنظمة الظالمة والطاغوتية كلها وضعت دساتير إلا أنها لا تلتزم بشيء إلا بمقدار ما يوافق مصالحها، فلا بد من الحزم والمصداقية والجدّية في التطبيق وثقيف الناس على الالتزام به بعد أن ألِفوا حياة الدكتاتورية والاستبداد.

 

محمد اليعقوبي

النـجـف الأشــرف

27 رجب الأصب 1426

2/9/2005