خطاب المرحلة (95)... دعاء الندبة والعيد

| |عدد القراءات : 1717
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

دعاء الندبة والعيد([1])

 بسم الله الرحمن الرحيم

 من الأعمال المستحبة يوم العيد قراءة دعاء الندبة وهو دعاء جليل شريف يتضمن معاني عالية ودروس قيّمة ينبغي للمؤمن الواعي الرسالي أن يستفيد منها، ويمكن فهم وجود الدعاء ضمن الأعمال التي ورد استحبابها لهذا اليوم الشريف الأول من شوّال المكرم على أنه جزء من برنامج أعدّه الأئمة المعصومون (عليهم السلام) لشيعتهم لكي يعيشوا الأجواء الواقعية لهذا اليوم، ولا ينخرطوا في الحالة التي تدعوا لها النفس الأمّارة بالسوء من اللهو والعبث وممارسة الأفعال التي لا تخلو من المعاصي في أيام العيد، التي ينظر إليها أغلب الناس على أنها مناسبة اجتماعية وفرصة للاستجابة لمشتهيات النفس وتعويضها عما حرمت منه في شهر رمضان-كما تظن-.

بينما هذا اليوم في الحقيقة مناسبة دينية شريفة لأنه كأيّ يوم توزَّع نتائج الامتحانات والمسابقات فيه-يكون يوم ترقب وتوجّس وانتظار، ينظر المؤمن فيه تارة إلى رحمة الله تعالى وكرمه وعظيم مِننه فيتفاءل وينتعش الأمل في أن يحظى بالدرجات الرفيعة في جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار ورضوانٌ من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم، ويلتفت تارة أخرى إلى عيوب نفسه وقصوره وتقصيره وظلمه في هذا الشهر المبارك وغيره فيتضاءل عنده الأمل بالنجاة.

وفي ظل هذه الموازنة يمضي الإنسان في حياته مندفعاً في الاتجاه الإيجابي الذي تقتضيه، ولا يوجد فيها مكان للعبث واللهو والانحدار في أفعال غير مرضية، لذا حفلت هذه الأيام بالأدعية والصلوات والأذكار التي تنسجم مع واقع هذا اليوم الشريف ومنها دعاء الندبة.

كما أن هذه الأعمال تؤدي وظيفة أخرى وهي تذكير الأمة بأن العيد الحقيقي لا يتحقق بثوب جديد أو موقع كبير أو مال جزيل، وإنما العيد الحقيقي أن تحيى في ظل طاعة الله تعالى وإدامة ذكره وعدم الغفلة عنه والارتباط المتواصل به، بحيث لا تندفع إلا إلى ما أمر به وحثّ عليه، ولا تنزجر إلا عمّا نهى عنه لذا ورد في الحديث الشريف (كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد)، فلا عيد لهؤلاء الذين يمضون ساعاته في الفسق والفجور والمجون كذلك الذي يقول:

رمضان ولّى هاتها يا ساقي                   مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ

فإن أمثال هؤلاء تعساء وأشقياء لكنهم غافلون عن صورتهم الحقيقية، وعميت أبصارهم عن الالتفات إلى واقعهم المؤلم حتى إذا ماتوا فوجئوا بما صنعوا وبما قدّموا لأنفسهم [وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ، وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ، لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] (قّ:19-22) وفي الحديث الشريف (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا).

وإضافة إلى هذه المعاني العامة فإن لدعاء الندبة خصوصيات ترتبط بيوم العيد الشريف:

منها: أن أفراحكم لا تنسيكم مصائب أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم ومواليهم وكل العاملين الرساليين التي لا زالت تقع عليهم من كل حدب وصوب، يقول الإمام السجاد (عليه السلام) في يوم عيد بعد استشهاد أبيه الحسين (عليه السلام) وأصحابه البررة وهو كئيب حزين:

يفرح هذا الورى بعيدهم                  ونــــحن أعيـــادنا مــــآتمنا

وقد أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل بيته والسائرين على دربه بذلك فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (أنتم المستضعفون بعدي) فيذكرُنا الدعاء بعدد من تلك المصائب والنكبات (فعلى الأطايب من أهل بيت محمد وعلي صلى الله عليهما وآلهما فليبك الباكون، وإياهم فليندب النادبون ولمثلهم فلتذرفَ الدموع وليصرخ الصارخون ويضجّ الضاجّون ويعجَّ العاجّون، أين الحسن أين الحسين؟ أين أبناء الحسين؟ صالحٌ بعد صالح وصادقٌ بعد صادق).

وحينما يحث الشارع على استثارة الحزن فليس ذلك لأنه يريد أن نعيش حياة التشاؤم والألم والانزواء، بل لأن الحزن والعاطفة عموماً خير محفّز للعمل ويزيل قسوة القلب التي يُستعاذ بها في الدعاء (من جمود العين وقسوة القلب) والواقع شاهد على ذلك) والمعنى مأخوذ من قصار كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة.

ومنها: أن يوم العيد وان كان له دور كبير في توحيد الأمة وزيادة أواصر المحبة وصفاء القلوب بما يتضمن من زيارات وتبادل التهاني والتبريكات، وهي أعمال رغّب فيها الشارع المقدس وأشارت الأحاديث والأدعية الشريفة إليها، ففي دعاء الإمام السجّاد (عليه السلام) في وداع شهر رمضان (اللهم إنا نتوب إليك في يوم فطرنا الذي جعلته للمؤمنين عيداً وسروراً، ولأهل ملّتك مجمعاً ومحتشداً).

إلا أن دعاء الندبة يوجهنا إلى ركن آخر مهم ترتكز عليها وحدة الأمة، وهو التفاتها والتفافها حول قيادتها الحقيقية المتمثلة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) التي انتهت إلى بقية الله الأعظم (أرواحنا له الفداء)، وفي أثناء غيبته تتمثل بالفقهاء العدول المخلصين الواعين القادرين على سياسة الأمة ورعاية شؤونها والدفاع عن حقوقها، فإذا تفرقت الأمة عن مثل هذه القيادة ضاعت وتشتتت ولا تنفع المجاملات في يوم العيد ولا في غيره لجمعها وتوحيدها قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذ كُنْتُمْ أعداء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فأنقَذَكُمْ مِنْهَا] (آل عمران:103) وحبل الله هو القرآن والناطقون الحقيقيون به هم من ذكَرنا.

وقد نبّهت الصِدِّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء إلى هذا المعنى في خطبتها في مسجد أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) (وجعل إمامتنا نظاماً للملة)، ودعاء الندبة حافل بالإشارات إلى الأئمة الحقيقيين للأمة وبتسلسل دقيق إلى أن قال (فلما انقضت أيامه (صلى الله عليه وآله وسلم) أقام وليّه علي بن أبي طالب صلواتك عليهما وآلهما هادياً إذ كان هو المنذر ولكل قوم هاد فقال والملأ أمامه: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) من كنت أنا نبيّه فعليٌّ أميره).

ثم يشير إلى حال الأمة في التفرق عنهم (عليهم السلام) (ولما قضى نحبه وقتله أشقى الآخِرين يتبع أشقى الأولين لم يُمتَثَل أمر رسول الله صلى الله عليه وآله في الهادين بعد الهادين والأمةُ مجتمعةٌ على قطيعة رحمه وإقصاء وُلْدِه إلا القليلَ ممن وفى لرعاية الحق فيهم).

ومنها: أن نفس الإنسان تطمح إلى الدنيا والتوسع فيها خصوصاً في مثل أيام العيد، فيريد الدعاء أن يكبح جماح هذه الرغبة ويزهّده في الدنيا باستعراض تقلبها بأهلها وجورها على أولياء الله تعالى ولو كان لها قيمة عند الله تعالى لاختصّ الله بها أولياءه كما في الحديث (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).

ويلفت الدعاء نظرنا إلى فكرة مهمة وهي أن من رغب في نيل الدرجات الرفيعة عند الله تعالى فإن شرط الله تعالى هو الزهد في هذه الدنيا وعدم الالتفات إليها والأخذ منها إلا بمقدار الحاجة وأول من استجاب لهذا الشرط ووفى به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل بيته والأنبياء والرسل الكرام، يقول الدعاء (اللهم لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك الذين استخلصتهم لنفسك ودينك إذ اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنيّة وزخرفها وزبرجها فشرطوا لك ذلك وعلمت منهم الوفاء به فقبلتهم وقرّبتهم وقدّمت لهم الذكر العليَّ والثناء الجليّ وأهبطتَ عليهم ملائكتك وكرّمتهم بوحيك ورفدتهم بعلمك وجعلتهم الذريعة إليك والوسيلة إلى رضوانك).

ووجه الاشتراط واضح لأن القلب المملوء بالتعلق بالدنيا لا يصلح بيتاً للرحمن ففي الحديث القدسي (لم يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن) ثم قال تعالى: [وَطَهِّرْ بَيْتِيَ] (الحج: 26) لذا أدّبَ اللهُ تبارك وتعالى نبيه [وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى] (طـه:131).

والدعاء إضافة إلى ذلك كله مليء بالتلهف والشوق لِلِقاء إمام العصر والتأسّف على الحرمان من النظر إلى طلعته المباركة، فيقول الدعاء (هل إليك يا ابن أحمد سبيلٌ فتُـلقى هل يتصل يومنا يومنا منك بغده فنحظى، متى نرِدُ مناهلك الرويّة فنروى، متى ننتقع من عذب مائك فقد طال الصدى، متى نغاديك ونراوحك فتقرُّ عيوننا، متى ترانا ونراك وقد نشرتَ لواء النصر تُرى أترانا نحفُّ بك وأنت تؤمُّ الملأ وقد ملأت الأرض عدلاً وأذقتَ أعداءك هواناً وعقاباً وأبَرْتَ العتاةَ وجَحَدةَ الحق وقطعتَ دابر المتكبرين واجتثثتَ أصول الظالمين ونحن نقول الحمد لله رب العالمين..) وصلى الله على رسوله والأئمة الميامين من آله وسلّم تسليماً كثيراً.



([1]) خطبة صلاة عيد الفطر المبارك التي ألقاها سماحة الشيخ دام ظله في جموع المصلين الذين حضروها صباح يوم الجمعة الأول من شوال 1426 المصادف 4/11/2005.