خطاب المرحلة (135)... أسباب البلاء الذي يحل بالعراقيين ونتائجه

| |عدد القراءات : 1690
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

 أسباب البلاء الذي يحل بالعراقيين ونتائجه([1])

 [أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ] (العنكبوت2)

يوم العيد من أيام الله تعالى التي جاء فيها قوله تعالى [وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ] (إبراهيم:5) وهي من أيام قادة الإسلام العظام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام)؛ لذا كان من أعمال الأعياد قراءة دعاء الندبة الذي يستذكر الأنبياء والرسل والأئمة ثم يكرّس الجزء الأكبر لإمام العصر بقية الله الأعظم (عجّل الله فرجه) ليذكرنا بأن العيد الحقيقي إنما هو حينما تملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً [وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ] (الروم:4-5).

وليذكرنا أيضاً أن لا فرح ولا سرور والمصائب تتوالى على أولياء الله تبارك وتعالى وأهل طاعته والمتمسكين بحبل الله المتين، وها نحن في العراق نعيش عنتاً وشدة وكوارث يندر أن يمر بها شعب آخر من قطع الرؤوس والتمثيل بالأجساد وقتل النساء والأطفال وتدمير دور العبادة والمدارس وتخريب البلاد وكل مظاهر الحياة المتحضرة.

لذا يحسن بالمؤمنين أن يستذكروا إمامهم المنتظر دوماً وخصوصاً بالعيد، ونتحدث اليوم عن واحدة من ألطافه ورعايته للأمة وهو دفع البلاء عنهم وتخفيف آلامهم وحمايتهم، روى أبو نصر الخادم قال: دخلت على صاحب الزمان وهو في المهد فقال: أتعرفني؟ قلت: نعم، أنت سيدي وابن سيدي. فقال: ليس عن هذا سألتك. فقلت: فسّر لي قال: أنا خاتم الأوصياء وبي يرفع الله البلاء عن أهلي وشيعتي([2] ).

وورد في رسالته الشريفة إلى الشيخ المفيد (قدس سره): (نحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين، حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنا نحيط علماً بأنبائكم ولا يعزب عنا شيء من أخباركم) (إنا غيرُ مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء)([3]).

السبب الأول للبلاء :

وحينما نتساءل عن سبب كل هذا البلاء الذي يحل بالشعب العراقي فسيكون بعضها عائداً إلى نفس الناس.

روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال (أما أنه ليس من عِرقٍ يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرضٍ إلا بذنب، وذلك قول الله عز وجل في كتابه [وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ] (الشورى:30) ثم قال: وما يعفو الله أكثر مما يأخذ به) وعن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: (نِعمَ الوجع الحمى يعطي كل عضو قسطه من البلاء ولا خير فيمن لا يبتلى)([4]).

 وقد يشاهد الناس صنوفاً من البلاءات لم يكن يعهدوها من قبل وهذا ما يشرحه الحديث المروي عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال (كلما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون، أحدث لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون)([5]).

وهذا الأمر يتطلب مراجعة مستمرة للذات ومراقبة للعمل وعرضاً متواصلاً للسلوك على الشريعة لتجنب الخطأ والزلل فنزيل أصل البلاء وسبب استحقاقه، وفي ذلك قال أمير المؤمنين (أن الله يبتلي عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات وحبس البركات وإغلاق خزائن الخيرات ليتوب تائب ويقلع مقلع ويتذكر متذكر ويزدجر مزدجر)

وليقدر الإنسان النعم الإلهية فيعرف قدرها حينما يفقدها ليحاول استغلالها في المستقبل فيما فيه رضا الله سبحانه، لكن الله يخبر عن غالب البشر أنهم حينما تعود إليهم حالة الرخاء والدعة فإنهم ينسون حالة الحاجة والاضطرار [فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ] (العنكبوت:65) وقال تعالى [وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ، فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ، أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ] (التوبة:75-78).

وحينئذٍ إذا كانت النعمة سبباً لشقاء الإنسان سيكون من المناسب بحال الإنسان الرضا بحياة البلاء والمشقة وبهذا نفسر كلام الإمام الصادق (عليه السلام) (لن تكونوا مؤمنين حتى تكونوا مؤتمنين وحتى تعدوا نعمة الرخاء مصيبة، وذلك أن الصبر على البلاء أفضل من الغفلة عند الرخاء)([6]) وورد ( إذا رأيت ربك يوالي عليك البلاء فاشكره) وورد (إذا رأيت الله يتابع عليك البلاء فقد أيقظك) لكن الأحاديث الشريفة دعتنا إلى عدم تمني البلاء وأن نسال الله العافية ففي الحديث (سلوا الله العافية من جهد البلاء، فإن في جهد البلاء ذهاب الدين)([7]).

ويلفت الإمام المهدي (عجل الله فرجه) نظرنا إلى بعض هذه الأسباب، ويعطينا الوصفات العلاجية الدقيقة في رسالته إلى الشيخ المفيد (قدس سره) ومما جاء فيها عن سبب الذل والهوان (ولا يعزب عنا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون) (ولو أن أشياعنا وفقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم).

ومن الحلول التي وردت في كلام الإمام (عليه السلام) (فاتقوا الله جل جلاله وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم) (اعتصموا بالتقية من شب نار الجاهلية) ولا تعني التقية الانزواء والانكماش وترك العمل، وإنما تعني العمل بالممكن حتى تنفتح فرص الأزيد (فليعمل كل امرئ منكم بما يقرُبُ به من محبتنا، ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإن أمرنا بغتة فجأة حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة) (إنه من اتقى ربه من إخوانك في الدين واخرج مما عليه إلى مستحقيه، كان آمناً من الفتنة المبطلة ومحنها المظلمة المضلة، ومن بخل منهم بما أعاده الله من نعمته على من أمره الله بصلته، فإنه يكون خاسراً بذلك لأولاه وآخرته).

ولولا لطف الإمام ورعايته لكانت المحنة اشد ولما بقيت لأتباع أهل البيت باقية قال (عليه السلام) (لأننا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب عن ملك الأرض والسماء، فليطمئن بذلك من أوليائنا القلوب، وليثقوا بالكفاية منه، وان راعتهم بهم الخطوب، والعاقبة بجميل صنع الله سبحانه تكون حميدة لهم ما اجتنبوا المنهي عنه من الذنوب)([8]).

 

السبب الثاني للبلاء:

وهذا الجواب ليس كافياً طبعاً لمثل المعصومين (عليهم السلام) لذا فهناك سبب آخر للبلاء، روي عن حمران بن أعين انه قال للإمام الباقر (عليه السلام) (جُعلتُ فداك، قول الله عز وجل [وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ] أرأيت ما أصاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وأهل بيته من المصائب بذنب؟ قال: يا حمران أصابهم ما أصابهم من غير ذنب، ولكن يطول عليهم بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب)([9]) وهذا النوع من البلاء يشمل شيعتهم أيضا روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله (بنا يبدأ البلاء ثم بكم وبنا يبدأ الرخاء ثم بكم)([10])  وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (ما أكرم الله رجلاً إلا زاد عليه البلاء)([11]).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال (سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من اشد الناس بلاءاً في الدنيا؟ فقال: النبيون ثم الأمثل فالأمثل، ويبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله فمن صحّ إيمانه وحسن عمله اشتد بلاؤه، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قل بلاؤه)([12]).

وهذا البلاء على أهل البيت سلام الله عليهم وشيعتهم منصبُّ عليهم منذ وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث جمع أهل بيته وقال لهم (أنتم المستضعفون بعدي) وازداد البلاء بعد استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام)، فتنقل كتب التاريخ أنه (اشتد البلاء في الأمصار كلها على شيعة علي وأهل بيته (عليهم السلام) وكان أشد الناس بلية أهل الكوفة لكثرة من بها من الشيعة، واستعمل (معاوية) عليهم زياداً الذي ألحقه بنسبه وضم إليه البصرة والكوفة وجميع العراقَين، وكان يتتبع الشيعة وهو بهم عالم لأنه كان منهم فقتلهم تحت كل كوكب وحجر ومدر، وأجلاهم وأخافهم وقطّع الأيدي والأرجل منهم وصلبهم على جذوع النخل وسمل أعينهم وطردهم وشردهم حتى انتزعوا عن العراق، فلم يبق بالعراق أحد مشهور إلا مقتول أو مطلوب أو طريد أو هارب، وكتب معاوية إلى قضاته وولاته في جميع الأرضين والأمصار: (أن لا تجيزا لأحد من شيعة علي بن أبي طالب ولا من أهل بيته ولا من أهل ولايته الذين يرون فضله ويتحدثون بمناقبه شهادةً)([13]).

ولما حبس المنصور بني الحسن (عليه السلام) وفيهم عبد الله المحض والد محمد النفس الزكية وإبراهيم الذين ثارا على المنصور العباسي في المدينة والعراق للضغط عليهم حتى يسلموهما حبسهم أبو جعفر في محبس ستين ليلة ما يدرون بالليل هم أم بالنهار ولا يعرفون وقت الصلاة إلا بتسبيح علي بن الحسن والد الحسين بن علي صاحب فخ، فضجر عبد الله ضجرةً فقال: يا علي ألا ترى ما نحن فيه من البلاء؟ ألا تطلب إلى ربك عز وجل أن يخرجنا من هذا الضيق والبلاء؟ فسكت عنه طويلاً ثم قال: يا عم إن لنا في الجنة درجة لم نكن لنبلغها إلا بهذه البلية أو بما هو أعظم منها، وإن لأبي جعفر (يقصد المنصور العباسي) في النار موضعاً لم يكن ليبلغه حتى ليبلغ منا مثل هذه البلية أو أعظم منها فإن تشأ أن تصبر فما أوشك فيما أصبنا أن نموت فنستريح من هذا الغم كأن لم يكن منه شيء وإن تشأ أن ندعوا ربنا عز وجل أن يخرجك من هذا الغم ويقصر بأبي جعفر غايته التي له في النار فعلنا؟ قال: لا بل أصبر)([14]).

أيها الأحبة:

إن ولاية أمير المؤمنين مرتبة شريفة لا تنال إلا بالجهد والبلاء وضبط النفس وتطهير القلب، قال رجل للإمام الباقر (عليه السلام): (والله إني لأحبكم أهل البيت. قال (عليه السلام): فاتخذ للبلاء جلباباً فوالله إنه لأسرع إلينا وإلى شيعتنا من السيل في الوادي)([15]). وشرحها بعضهم فقال: جلباباً من العمل الصالح والتقوى تكون لك جُنة من الفقر يوم القيامة وقال آخرون-في معنى فليتخذ للبلاء جلبابا-: فليرفض الدنيا وليزهد فيها وليصبر على الفقر، ويدل عليه قول أمير المؤمنين: ومالي لا أرى منهم سيماء الشيعة! فقيل: وما سيماء الشيعة يا أمير المؤمنين؟ قال: خُمصُ البطون من الطوى، يُبسُ الشفاه من الظمأ، عُمشُ العيون من البكا.

لأن شيعة علي عليه السلام أتقياء أنقياء بررة صالحون ولا بد من اختبارات لتنكشف معادنهم [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ] (العنكبوت:2-3) فإذا اجتازوا هذه الامتحانات بنجاح استحقوا ما أعد الله تعالى لهم في دار الكرامة من فضله التي أشار إليها الله تبارك وتعالى بقوله سبحانه [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ] (البينة:7-8) وروى جابر الأنصاري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (أن خير البرية هم علي وشيعته) بمعنى التشيع الذي نشير إليه وذكرته الآية في ذيلها.

قال رجل للحسن بن علي (عليه السلام) (إنني من شيعتكم، فقال الحسن بن علي (عليه السلام): يا عبد الله إن كنت لنا في أوامرنا وزواجرنا مطيعاً فقد صدقت، وإن كنت بخلاف ذلك فلا تزد في ذنوبك بدعواك مرتبة شريفة لست من أهلها، لا تقل أنا من شيعتكم ولكن قل أنا من مواليكم ومحبيكم ومعادي أعدائكم وأنت في خير والى خير)([16]).

وقال رجل للحسين بن علي (عليه السلام) : يا ابن رسول الله أنا من شيعتكم قال (عليه السلام): (اتقِ الله ولا تدّعيَنّ شيئاً يقول الله لك: كذبت وفجَرت في دعواك، إن شيعتنا من سلمت قلوبهم من كل غش ودغل، ولكن قل: أنا من مواليكم ومحبيكم)([17]).

وقد عرف أصحاب الأئمة (عليهم السلام) هذه المرتبة الشريفة لولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) فبذلوا جهدهم ليكونوا أهلاً لها وكانوا يبكون إذا نسبوا إلى التشيع خشية أن لا يكونوا من أهل هذا الشرف كما حصل لأبي كهمس وابن أبي يعفور وفضيل بن سكرة([18]).

قيل للصادق (عليه السلام): إن عمار الدهني([19]) شهد اليوم عند قاضي الكوفة بشهادة فقال له القاضي: قم يا عمار فقد عرفناك، لا تُقبل شهادتك لأنك رافضي، فقام عمار وقد ارتعدت فرائصه واستفرغه البكاء فقال ابن أبي ليلى (القاضي): أنت رجل من أهل العلم والحديث إن كان يسوؤك أن يقال لك رافضي فتبرأ من الرفض وأنت من إخواننا فقال له عمار: يا هذا ما ذهبت والله إلى حيث ذهبتَ، ولكني بكيت عليك وعليّ، أما بكائي على نفسي فنسبتني إلى رتبة شريفة لستُ من أهلها، زعمتَ أني رافضي، ويحك حدثني الصادق (عليه السلام)  أن أول من سمي الرافضة السحرة الذين لما شاهدوا آية موسى (عليه السلام) في عصاه آمنوا به واتبعوه ورفضوا أمر فرعون واستسلموا لكل ما نزل بهم فسماهم فرعون الرافضة لمـّا رفضوا دينه، فالرافضي من رفض كل ما كرهه الله وفعل كل ما أمره الله، وأين في الزمان مثل هذا، فإنما بكيت على نفسي خشية أن يطّلع الله على قلبي وقد تقبلت هذا الاسم الشريف على نفسي فيعاتبني ربي عز وجل ويقول: يا عمار أكنت رافضاً للأباطيل عاملاً للطاعات كما قال لك فيكون ذلك مقصرا بي في الدرجات إن سامحني، موجباً لشديد العقاب علي أن ناقشني إلا أن يتداركني مواليّ بشفاعتهم، وأما بكائي عليك فلعظم كذبك في تسميتي بغير اسمي وشفقتي الشديدة عليك من عذاب الله: أن صرفتَ خير الأسماء الحسان وجعلته من أرذلها)([20]).

وفي ضوء هذا كان أهل المعرفة بحقيقة ولاية أمير المؤمنين ليس فقط يصبرون على البلاء وإنما يعتبرونه نعمة تستحق الشكر وقد تقدم في الحديث الشريف: (لن تكونوا مؤمنين حتى تعدوا البلاء نعمة والرخاء مصيبة وذلك أن الصبر عند البلاء أفضل من الغفلة عند الرخاء).

وورد فيما أوحى الله تعالى إلى موسى بن عمران (عليه السلام) : (يا موسى ما خلقتُ خلقاً أحب إلي من عبدي المؤمن، وإني إنما أبتليه لما هو خير له، وأعافيه لما هو خير له، وأزوي عنه لما هو خير له، وأعطيه لما هو خير له، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي، فليصبر على بلائي وليشكر نعمائي، وليرض بقضائي، أكتبه في الصديقين عندي إذا عمل برضاي وأطاع أمري)([21]).

وروي أن عيسى (عليه السلام) مر برجل أعمى أبرص مقعد مضروب الجنبين بالفالج، وقد تناثر لحمه من الجذام وهو يقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً من خلقه، فقال له عيسى (عليه السلام): (يا هذا، وأي شيء من البلاء أراه مصروفاً عنك؟) فقال: يا روح الله، أنا خير ممن لم يجعل الله في قلبه من معرفته، فقال له (صدقت، هاتِ يدك) فناوله يده، فإذا هو أحسن الناس وجهاً، وأفضلهم هيئة، وقد أذهب الله عنه ما كان به، فصحب عيسى عليه السلام وتعبد معه([22]).

ومما نسب إلى الإمام الصادق (عليه السلام): فمن صبر كرهاً ولم يشكُ إلى الخلق أو لم يجزع بهتك ستره فهو من العام ونصيبه ما قال الله عز وجل (وبشّر الصابرين) أي بالجنة والمغفرة ومن استقبل البلاء بالرحب وصبر على سكينة ووقار فهو من الخاص ونصيبه قال الله تعالى: [إنَّ اللهَ مَعَ الصَابِرِينَ]([23]).

 

السبب الثالث للبلاء:

وهذا الذي ذكرناه عام لكن هناك مناشئ للبلاء خاصة بالشعب العراقي ومنها أن هذا البلد سيكون قاعدة انطلاق الإمام المهدي (عجل الله فرجه) في حركته العالمية لنشر الحق والعدل وان أهله الكنوز التي هي ليست من الذهب والفضة كما ورد في الحديث، وهم الطليعة الذين سيفتح بهم العالم وهذا الدور العظيم لا يتأهلون له إلا باجتياز عدد من الصعوبات والشدائد ونجاحهم فيها استعداد لأداء تلك الوظيفة الإلهية [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] (البقرة:214).

 

السبب الرابع للبلاء:

إن ما شهده العراق من تحولات وتغيرات بعد سقوط الصنم الصدامي والانطلاقة المباركة للشيعة في هذا البلد وعلو صوت أهل البيت (عليهم السلام) بعد أن خنقه الطغاة طيلة أربعة عشر قرناً دفع الحاسدين والحاقدين على هذا البيت الطاهر إلى محاولة إسكاته من جديد [أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً] (النساء:54) وهؤلاء الطغاة يدركون عناصر القوة في صوت الحق إذا انطلق من العراق ويخشون تساقط عروشهم الزائفة.

ومما زاد في تخوفهم حياة الحرية وممارسة الأمة لدورها للتعبير عن آرائها في قياداتها واختيار من تشاء لحكمها مما يعصف بأنظمتهم المستبدة والدكتاتورية التي تصادر رأي الأمة وتفرض سلطتها بالحديد والنار، فاندفعت القوى الإقليمية لتصدير الإرهاب والسلاح والتكفير إلى هذا البلد الكريم ليخربوه وليكسروا إرادة الأمة ويثنوها عن ممارسة دورها الطليعي، ودعموا ذلك بإعلام مضلل يشوه الحقائق ويعرضها بشكل مزيف ليُفشلوا هذا النموذج الذي وإن كثرت تحفظاتنا على تفاصيله وعلى الناس الذين تصدوا لقيادته في هذه المرحلة، إلا أن المشروع سائر في الطريق الصحيح وكل ما يحتاجه شيء من الترميم وتصحيح الاعوجاج في السير وهمة المخلصين لممارسة دورهم في إصلاح الخلل والفساد وإفشال مشاريع التخريب بإذن الله تعالى.

لا أريد أن أطيل أكثر من هذا وان كان الموضوع يستحق لأن خطاباتي وكلماتي المستمرة تبين الكثير من تفاصيل هذا الحديث.

بارك الله لكم في عيدكم وجعلكم ممن رضي عنهم في شهر رمضان وأعتقه من النار وكتب لهم الفوز بالجنة انه ولي النعم.



 ([1]) خطبتا صلاة عيد الفطر المبارك لعام 1427 الموافق 24/10 /2006 وقد اعتاد سماحته إقامتها في داره.

 ([2] ) الخرائج والجرائح: ج1/ ص458.

 ([3] ) الاحتجاج للطبرسي: ج2/ص323

 ([4] ) مكارم الأخلاق: للطبرسي: ص357

([5] ) الآمالي للشيخ الطوسي: ص228

([6] ) صفات الشيعة: ص24

([7] ) عيون الحكم والمواعظ: 135ـ 175.

([8]) الاحتجاج : ج2/ ص323ـ 325.

([9] ) مشكاة الأنوار للطبرسي: 509.

([10]) الآمالي للشيخ المفيد: 301.

([11]) النوادر لقطب الدين الراوندي: 165.

([12]) مشكاة الأنوار :515.

([13] ) كتاب سليم بن قيس: 316.

([14]) مقاتل الطالبيين:131.

([15] ) الآمالي للشيخ الطوسي:154.

([16]) و (17) مجموعة ورّام:ج2/ص106.

 ([18] ) معجم رجال الحديث للسيد الخوئي:ج12 / ص276.

([19] ) أبو معاوية بن عمار البجلي ، وُصف بأنه وجه إن كان ثقة في أي عند العامة (معجم رجال الحديث :ج12: ص274).

([20] ) مجموعة ورّام:ج2/ص106.

([21] ) مشكاة الأنوار للطبرسي:  515

([22] ) مسكن الفؤاد للشهيد الثاني :ص87.

([23] ) مصباح الشريعة:ص185.