خطاب المرحلة (136)... طوبى لمن أدى دوره في المواجهات الحضارية الجارية في العراق

| |عدد القراءات : 3300
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

 طوبى لمن أدى دوره في المواجهات الحضارية الجارية في العراق([1])

 أحب أن أفتتح كلامي بحديث شريف في الموعظة لحاجتنا جميعاً لها، لأن الانهماك في العمل –ليس السياسي فقط - حتى لو نوى صاحبه بالقيام به قربة إلى الله تعالى وكان مخلصاً فيه ـ كما هو المفروض بكل مسلم ـ فانه عبادة وطاعة يؤجر عليها لكن هذا الانهماك يوجب غفلة ورينا على القلب وجلاؤه وتطهيره يكون بالموعظة، وهذا ما أشرت إليه في كلمة سابقة بعنوان (العمل السياسي من الواجبات الشرعية) .

وقد اخترت الحديث الشريف المروي عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام فقد سئل (كيف أصبحت يا ابن رسول الله ؟ قال أصبحت مطلوباً بثمان خصال : الله تعالى يطلبني بالفرائض، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسنة، والعيال بالقوت، والنفس بالشهوة، والشيطان بالمعصية، والحافظان بصدق العمل، وملك الموت بالروح ،  والقبر بالجسد، فأنا بين هذه الخصال مطلوب)([2]) ويستبطن الحديث كل معاني الشفقة والعطف على من يعيش هذه التجاذبات وعليه أن يؤدي هذه الاستحقاقات التي يعرف صعوبة الخروج من عهدتها بالشكل الكامل مثل الإمام السجاد (عليه السلام)، فما حال الناس الغافلين والمقصرين.

 وهذه الاستحقاقات الثمانية مطلوبة من كل أحد وعليه أن يؤدي لكل ذي حق حقه فهي تمثل الحد المشترك لكل الناس، وتضاف إلى هذه الوظائف، مسؤوليات أخرى حينما يتقدم الإنسان في تحّمل شغل المواقع والوظائف فمثلّا انتم مسؤولون في حزب له قواعد جماهيرية تنتظر منكم رعاية مصالحها وحقوقها وحمايتها ورفع المظالم عنها وتمثيلها بجدارة والوفاء لها بتطبيق البرنامج الذي أعلنه حزبكم فاقتنعوا به والتـفّـوا حولكم . وأنتم يا أعضاء البرلمان تحمّـلّّـّتم مسؤولية إضافية؛ لأن جماهيركم انتخبتكم فأصبحتم ممثلين لها وللمدن التي أتيتم منها وهذا يعني إنكم مطالبون بعدة استحقاقات :

أولاً: وطنية كونكم ممثلي الشعب وعليكم تشريع القوانين التي تحفظ كيان البلد ووحدته وأمنه وسيادته وازدهاره فتعملون على جمع المعلومات والخبرات الكافية قبل المشاركة باتخاذ أو اقتراح أي قانون. كما أن وجودكم ضمن لجان برلمانية كلجنة الصحة والتربية والتعليم أو النزاهة أو الخدمات وغيرها يوجب عليكم تكريس جهودكم لإنجاح عمل هذه اللجان على أكمل وجه .

ثانياً: محلية أعني مشاكل وقضايا ومقترحات محافظاتكم التي تمثلونها حيث أرى خللاً واضحاً في هذا المجال فلم يقم لحد ألان أعضاء البرلمان بواجباتهم تجاه مطالب محافظاتهم التي انتخبتهم .

ثالثاً : سياسية باعتباركم تمثلون أحزابا وكتلا ذات أجندات وبرامج محددة اختارتكم قواعدكم على أساسها.

والملحوظ أن المتصدين للعملية السياسية ـ إلا من عصم الله ـ اهتموا بقضايا أحزابهم ومصالحها أو مصالحهم الشخصية وتركوا الاستحقاقات الأخرى وهذا ما أدى بالبلاد إلى الخراب والدمار والمفروض بكم أن توازنوا بين كل هذه الالتزامات وتؤدوا حقها وتخرجوا من عهدتها .

قد تقولون أن هذا صعب أن يفي الإنسان بكل هذه الالتزامات مع الاستحقاقات الثمانية التي وردت في حديث الإمام السجاد عليه السلام وأنا أشاطركم هذا الشعور، لكن هذه الصعوبة تذوب بالإخلاص لله تبارك وتعالى وبالتسامي عن الأنانية الشخصية والفئوية وبالهمة العالية والتفاني في العمل ، واعلموا أن الألطاف الإلهية والنفحات المعنوية تختصر لكم الطريق وتطوي المسافة وتقرب البعيد وتذلل العسير قال تعالى [وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] [وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً]. [وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً] (الطلاق: 2، 4-5).

وتوجد رواية تهديكم إلى الكثير من الحلول لمشاكلكم وتفتح لكم آفاق المخرج من التعقيدات التي تواجهكم، خصوصاً في الساحة العراقية التي غاصت في وحلها أرجل الكبار والصغار، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله : (ما من أحد أحبِّنا وأخلص في معرفتنا وسُئِل عن مسألة إلا ونفثنا في روعه جواباً لتلك المسألة).

وإذا عجز الإنسان عن القيام بالمسؤوليات الملقاة على عاتقه فليتجنب الموقع وليترك الفرصة لغيره، فإن حركة البشرية نحو التكامل لا تتوقف لموت أحد أو انسحابه من العمل ولا حاجة إلى أن يتمادى في جهله وظلمه لنفسه فيتقمص موقعاً ليس من أهله ويكفيه ما قال فيه خالقه: [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً] (الأحزاب: 72).

وقد يجد الإنسان نفسه أحياناً ناجحاًُ في عمله ومؤدياً لواجباته عكس ما ينظر إليه الآخرون فلا يفهم سبب اعتراض الآخرين أو توبيخهم، وما ذلك ـ في بعض وجوهه ـ إلا لفقدانه القدرة على قياس درجة النجاح وضياع المعايير الصحيحة للتقييم عنده لأنه غافل عن ما يجب عليه الوفاء به من استحقاقات، ولو التفت إليها لعرف حجم تقصيره ولكنه ينظر إلى جهةٍ واحدة ويرى نفسه ناجحاً فيها و يعمم النتيجة .

أيها الإخوة والأخوات :

إن الله تعالى خلقكم في زمان يغبطكم عليه أهل الأجيال الأخرى كما نغبط نحن جيل الصحابة الذين عاشوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبنوا بقيادته الحكيمة صرح الإسلام العظيم، فكان لهم بكل من اهتدى بنور الإسلام صدقة جارية توجب لهم المزيد من الأجر .

ونغبط أصحاب الإمام الحسين عليه السلام لأنهم صنعوا مستقبل الأمة إلى نهاية التاريخ وأرجعوا مسيرة الأمة إلى اتجاهها الصحيح وصانوها من الانحراف والتزييف فلهم على كل مسلم فضل ومنّة بموقف وقفوه عدة ساعات من النهار.

ومن قبل نشكر الله تعالى انه خلقنا في زمان الإسلام والهدى، هذه النعمة التي سجّلها الإمام الحسين عليه السلام في دعاءه يوم عرفة (لم تخرجني لرأفتك بي ولطفك لي وإحسانك إليّ في دولة أئمة الكفر الذين نقضوا عهدك وكذّبوا رسلك لكنك أخرجتني للذي سبق لي من الهدى الذي له يسرتني وفيه أنشأتني ).

تصوّروا أن لو أن الله تعالى خلق احدنا في زمان الجاهلية فما هي فرصة الهداية في ذلك المجتمع الذي كان يعكف على عبادة الأصنام والزنا وشرب الخمر وقتل النفس المحترمة، بحيث أن جعفر بن أبي طالب  يشار إليه انه حرّم على نفسه الخمر في الجاهلية لندرة هذه الحالة، ويوصف الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بأنه (كرم الله وجهه) لأنه لم يسجد لصنمٍ في الجاهلية ومن هذه الأمثلة النادرة تعلموا حال الآخرين .

أقول: ما فرصة هداية الإنسان في مثل ذلك المجتمع وكم واحدٍ يمكن أن يكون مثل سلمان الفارسي الذي ولد بأرض الفرس فلما بلغ عرف ضلال قومه فراح يجوب البلدان بحثاً عن الحقيقة في بلاد الفرس والروم وارض العرب حتى اهتدى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فهذه النعمة التي نرفل بها تضاف إلى نعمة عظيمة أن الله تبارك وتعالى اختارنا بلطفه وعطائه الابتدائي من بين الأجيال لنكون من هذا الجيل الذي كلّفه برسم معالم المستقبل، كما اختار من قبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأصحاب الحسين (عليه السلام) [مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ] (فصلت:46)، [قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ] (الأنعام:104).

فقد أصبح العراق اليوم ساحة لعدة مواجهات فاصلة في التاريخ تحدّد معالم حركة التاريخ في المستقبل :

الأولى : المواجهة الحضارية بين الغرب المادي الذي يريد أن (يعولم) الشعوب ويصبغها بلون ثقافته وسلوكه وعقيدته ونمط حياته وتوجهاته الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية .

وبين الشرق المسلم الذي يريد أن يحافظ على دينه وأخلاقه وأصالته وأعرافه.

الثانية : بين الأنظمة الدكتاتورية والمستبدة التي تسلّطت على شعوبها بالقوة وصادرت إرادتهم واستعبدتهم واستأثرت بخيراتهم وكرست الجهل والخنوع والاستسلام في نفوسهم، وبين حياة حرة كريمة تحترم إرادة الأمة وتجعل القيمة العليا للإنسان وتكون الدنيا وما فيها من اجله ويكون هو لله تبارك وتعالى، فلم تعد الشعوب آلات يحقق بها الحاكم شهواته ومطامعه ونزواته [مَا أُرِيكُم إلا مَا أرَى]،[أنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى] .

الثالثة : المواجهة بين أدعياء الإسلام زوراً والمتقمصين ظلماً وعدواناً لإمامة الأمة وقيادتها، وبين أتباع الإمامة الحقّة التي عيّنها الله تبارك وتعالى وبلغ بها رسوله الكريم وما زالوا منذ أربعة عشر قرناً يدفعون على هذا الطريق دماء زكية قدسّها الله تعالى ورفع من شأنها.

إنها مواجهات لإحقاق الحق والدفاع عن عزة الأمة وكرامتها وضمان سلامة مسيرتها [إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] (الصافات:60)، [لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ] (الصافات:61)، [خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ] (المطففين:26).



 ([1]) عقدت الأمانة العامة لحزب الفضيلة الإسلامي اجتماعها الدوري ليوم الجمعة 11/شوال/1427 المصادف 3/11/2006 في النجف الأشرف برعاية سماحة الشيخ اليعقوبي؛ لخطورة الأوضاع التي يمر بها العراق الحبيب والتعقيدات البالغة التي تواجهها الأمة، وحضر اللقاء أعضاء كتلة الفضيلة في البرلمان وأعضاء المكتب السياسي ومسؤولو المكاتب في الأمانة العامة وأمناء فروع الحزب في بغداد والمحافظات. وهذا الخطاب هو تقرر للحديث الذي تفضل به سماحته.

 ([2]) بحار الأنوار: 37/15.