خطاب المرحلة (145)... استئثار السلطة والعنف السياسي

| |عدد القراءات : 1209
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

 استئثار السلطة والعنف السياسي (1)

 توجد ظاهرتان في العلاقة بين السلطة والشعب هما السبب في حصول الفجوة والافتراق بينهما وتعمل عدة عوامل أخرى على توسيعها وتأجيجها، هما استئثار الحكام وعدم صبر المحكوم، فإذا التفت المتسلطون إلى أنانياتهم وكرّسوا جهدهم للتفرد بمغانم السلطة وجني المكاسب الشخصية مما يسبّب الحيف والظلم والجور على عامة الشعب الذين قد يصبرون على مستوى معين من الحرمان والتعسف لكن صبرهم لا يستمر إلى ما لا نهاية، وعندما يصل الحرمان من ابسط حقوق الحياة الإنسانية الكريمة إلى درجة لا تطاق فإن الصبر والتصبّر لا يجدي حينئذٍ وينفجر الوضع، وهذا ما عبر عنه الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري (عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج شاهراً سيفه).

هاتان الظاهرتان جمعهما أمير المؤمنين(عليه السلام) حينما سُئِل عن قضية مقتل الخليفة عثمان فأجاب (عليه السلام) باختصار (استـأثر فأساء الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع ، ولله حكم واقع في المستأثر والجازع)

فلو لم تستأثر بطانة الخليفة بعائدات الدولة الإسلامية ووزعت الحقوق على أصحابها بعدالة وإنصاف أو على الأقل كفلت للرعية الحد المعقول من مستوى المعيشة لما حصلت الفتنة ، ولو أنَّ الناس حين حرمت من بعض حقوقها التي يمكن التنازل عنها صبرت على الحال وكظمت غيظها لتجنبت ما هو أسوا حيث حصل ذلك الجرح العميق في جسد الأمة الذي ظل ينزف دماً إلى اليوم.

وهو(عليه السلام) في الشق الثاني من جوابه يشير إلى إنهم لم يتأسوا به (عليه السلام) في كيفية تصرفه إزاء تلك الظاهرتين حيث ضرب (عليه السلام) لنا أسمى المُثل لمعالجتها، فحينما غصب حقه في خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الثابت له بالنص أولاً وبالاستحقاق ثانياً حيث كان من الواضح لدى جميع الصحابة أفضليته عليهم حتى اشتهر عن الخليفة الثاني عمر قوله (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن) وقول عبد الله بن العباس حبر الأمة وترجمان القران كما يصفونه لما سئل عن مقارنة علمه بعلم علي(عليه السلام) قال (والله ما علمي وعلم كل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في علم علي إلا كقطرة في بحر) وهم يروون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أقواله الشريفة (أعلمكم علي) (أقضاكم علي) (علي مع الحق والحق مع علي) وغيرها مما رواه الفريقان.

ومع هذا كله فقد صبر عليٌ (عليه السلام) وتحَّمل وكان ناصحاً للخلفاء ويسدد حركتهم بالمشورة الصائبة، كنصيحته للخليفة الثاني بأن لا يخرج بنفسه لقتال الفرس في القادسية حتى لا يستكلبوا عليه ويقولوا هذا رأس العرب إن قتلناه تخلصنا منهم واستمع الخليفة لنصيحته بعد أن أشار عليه الصحابة بالخروج وهكذا مواقفه الأخرى، وبقي خمسة وعشرين عاماً مقصياً عن الحكم لكن دوره الايجابي العظيم في حفظ هيبة الدولة الإسلامية ووحدة الأمة وسموها وازدهارها بقي معطاء زاخراً ولو كان خرج بالسيف ودعا إلى نفسه والتّف حوله شطر من الأمة الوليدة لكان مصيرها الاندثار.

ولما اجمع أهل الحل والعقد على استخلافه مع امتناعه الشديد أثار عليه الفتن والحروب من كانوا بالأمس مستأثرين بفيء الأمة وترك احدهم بعد وفاته من الذهب ما يكسر بالفؤوس، وخرجوا من المدينة وقد حملوا على الإبل صناديق جمعوا فيها تلك الأموال لما سمعوا علياً يصعد المنبر بعد توليه السلطة يقول (ألا وإن كل قطيعة أقطعها عثمان أو مال أعطاه من مال الله ، فهو مردود على المسلمين في بيت مالهم ، فإن الحق قديم لا يبطله شيء ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لو وجدته قد تزوج به النساء ومُلِكَ به الإماء وتفرق في البلدان لرددته على حاله فإن في الحق والعدل لَسِعةً، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق ، وأقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم).

وعلق عليه أحد المؤرخين([2]) (وكانت هذه الخطبة مما سُرَّ به وسكن إليه المؤمنون المخلصون وأهل الحق والبصائر ، واستوحش منه المنافقون والذين في قلوبهم مرض ، وكل من تطاعم الأثرة أو كان في يده شيء منها لما تواعد به صلوات الله عليه من استرجاع ذلك من أيديهم ، ورده إلى بيت مال المسلمين).

وقال (عليه السلام) (وَوَاللهِ لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِا جَوْرٌ إِلاَّ عَلَيَّ خَاصَّةً).

وكان مما يوصي به عمّاله على الولايات الابتعاد عن الاستئثار والاختصاص بشيء دون الرعية مما يفترض مساواتهم فيه، فقد جاء في عهده العظيم إلى مالك الأشتر لما ولاه مصر قوله (عليه السلام) (ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولَّهم محاباة وأثرة، فإنهما جماعٌ من شعب الجور والخيانة، وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء ، من أهل البيوتات الصالحة)([3]) .  

أي كلّفهم بالولاية والإدارة بعد امتحانهم وإثبات نجاحهم لا محاباة ومجاملة وميلاً منك لهم وأثرة أي استبداداً بلا مشورة ، فإن المحاباة والأثرة من مصاديق الجور والخيانة. ويقول (عليه السلام) له (وإياك و الاستئثار بما الناس فيه أسوة) أي لا تختص لنفسك بامتيازات ومنح يفترض أن الناس سواسية فيها.

وهذا ما وضّحه الإمام الحسين (عليه السلام) حينما حلّل الخلفية التاريخية لثورته المباركة في كتابه إلى رؤوس الأخماس في البصرة (أما بعدُ: فإن الله اصطفى محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) على خلقه ، وأكرمه بنّبوته واختاره لرسالته ، ثم قبضه الله إليه وقد نصح لعباده وبلغ ما أرسل به صلى الله عليه واله وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحقّ الناس بمقامه في الناس ، فاستأثر علينا قومنا بذلك فرضيناه وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن اعلم أنّا أحقُ بذلك الحق المستحق علينا)

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحذّر أمته من استئثار الحكّام بعده فعندما ورد معاوية المدينة المنورة وخرج صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأنصار لاستقباله سألهم هل أخبركم النبي عن هذا الحال الذي انتم فيه قالوا نعم قال (صلى الله عليه وآله وسلم)  (إنكم ستلقون بعدي أثرة قال معاوية: وبماذا أوصاكم؟ قالوا: أوصانا بالصبر قال معاوية –بتهكم- إذن فاصبروا) وشرحها ابن الأثير في النهاية فقال أي (يستأثر عليكم فيفضل غيركم في نصيبه من الفيء)

وهاتان الظاهرتان تفسران الكثير من حالات العنف وانفصام العلاقة بين السلطة والشعب، وحينئذ ينزلق البلد إلى الهاوية وينشغل بصراعاته الداخلية وتبدأ الحكومة بصرف ثروات البلد على حماية نفسها من غضب الجماهير وتحيط نفسها بأسيجة عديدة من الجلاوزة والمأجورين وتصرف عليهم المال الكثير، بينما لو أنفقت بعضه القليل على مصالح الشعب لما احتاجت إلى كل هذا الهدر للأموال.

وهذه الحقيقة يتعامى عنها كل الساسة من الطواغيت والظلمة والمستبدين والمستأثرين. فمثلا الولايات المتحدة حينما مضت لوحدها في حساب مصالحها خسرت اقرب حلفائها وهم دول الاتحاد الأوربي التي ذهبت بعيداً إلى اتخاذ مواقف لا مبرر لها إلاّ معارضة سياسات الولايات المتحدة التي تحذّرها من التغريد خارج سربها([4]).

ومثل الأزمة القلقة التي تعيشها لبنان بسبب هذه الظاهرة وكذا كل الدول التي لا تعيش الشراكة الحقيقية لكل مكونات الشعب في الحقوق والواجبات.

ومن أوضح أمثلتها ما يعيشه العراقيون اليوم من قتل وتدمير وتخريب للبلاد بسبب استئثار بعض الكيانات السياسية المهيمنة على القرار بثروات البلد وخيراته وتوجيهها للقرارات بما يحلو لها وفق مصالحها من دون اكتراث لحقوق للآخرين من دون أن يصبر الآخرون ويعطوا للوسائل السلمية والسياسية حقها ولا يجعلون آخر الدواء الكي، فسقط العراق في هذا المستنقع الآسن لا لشيء إلا هذه المصالح المتعارضة وإن حاول كل فريق أن يلبس ثوباً ينفعه في تحشيد اكبر عدد من ورائه كثوب الطائفية أو القومية والحقيقة غير ذلك إذ إنهم لا يعرفون إلا مصالحهم الخاصة.

لقد علّمت المرجعية الرشيدة هؤلاء المستأثرين درساً في السمو والنبل حين أمرتُ أبناء الفضيلة بالانسحاب من تشكيلة الحكومة لتريهم أن ما يتصارعون عليه هو وهم زائل وسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءاً ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تسفك الدماء و تخرب البلاد وتهجّر العوائل الآمنة ونعطل الحياة من أجلها.

ورغم انسحابهم فقد أمرتهم المرجعية بالتصويت بـ (نعم) في البرلمان عند التصويت على نيل الحكومة ثقة البرلمان لإعطائها الفرصة حتى تعمل كل ما يصلح حال الشعب ويبني البلد.

وهذا الموقف لا يفهمه هؤلاء المتسلطون الغارقون في أنانياتهم كما لم يفهم الكثيرون سمو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وربما خطأوه في تصرفاته، ولا يستطيع أحد أن يجاهد نفسه ويتخذ هذه المواقف الحكيمة إلا إذا تربّى في مدرسة علي بن أبي طالب (عليه السلام) ونهل من أدابة وعلومه ومعارفه.

فمتى يثوب السياسيون إلى رشدهم ليعوا هذه الحقيقة.



 ([1]) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع عدد من العلماء والأساتذة من السنة والشيعة الذين حضروا ندوة (واقعة الغدير... الدلالات والمعطيات) التي عقدتها المؤسسة الإسلامية للدعوة والتبليغ والإرشاد بالتعاون مع البيت الثقافي التابع لوزارة الثقافة في النجف الأشرف يوم 22/ذو الحجة/1427 المصادف 12/1/2006 بمناسبة ذكرى عيد الغدير المبارك.

 ([2]) شرح الأخبار للقاضي النعماني المغربي 1/373

 ([3]) نهج البلاغة/ج3 ص583

 ([4]) إشارة إلى تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية في لندن قبل أيام تلمح لقرار فرنسا بإرسال مبعوث لمناقشة الملف النووي الإيراني.