خطاب المرحلة (174)... تذكير للمشغولين بالعمل الرسالي

| |عدد القراءات : 1445
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

 تذكير للمشغولين بالعمل الرسالي(1)

عرّفنا المؤمن الرسالي بأنه من لا يتوقف عند حدود إصلاح نفسه وإرادة الخير له وإن كان في هذا كفاية لمن يروم النجاة، ولكنه بما يحمل من حب ورحمة بالآخرين يتحرك بعمل دؤوب لإصلاح مجتمعه وتحقيق السعادة لهم ، وهذا هو ديدن الرسل والعلماء الصادقين مع الله تبارك وتعالى [الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً] (الأحزاب:39)، [لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً] (الجن:28).

          وهذه النية الصادقة والعمل المخلص لهداية الآخرين وإصلاحهم هي من أعظم القربات إلى الله تبارك وتعالى وقد وردت أحاديث كثيرة في تفضيل العالم العامل على العابد الزاهد المنزوي والمنكفئ على ذاته. فالعمل الرسالي يمثل مرحلة متقدمة  على مرحلة إصلاح النفس وتهذيبها .

          وهنا أريد أن اذكَر العاملين الرساليين بأنهم أحيانا ينهمكون في العمل الاجتماعي بكل حماس وهمّة ويغفلون في خضّم ذلك عن أمور يفترض فيهم أنهم حققوها في المرحلة السابقة أي مرحلة إصلاح النفس وتهذيبها، وهذا نقصٌ بالتأكيد.

          ومادمتم شباباً في مقتبل العمر فإنني أذكر لكم مثالاً لتلك الغفلة ، إذ لا يخفى عليكم اهتمام الشارع المقدس ببر الوالدين وحرمة إيذائهما حتى على مستوى قول ( أُفٍ ) لهما، ففي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (لو يعلم الله شيئاً أدنى من أفٍ لنهى عنه ، وهو من أدنى العقوق ، ومن العقوق أن ينظر الرجل إلى والديه فيحدَ النظر إليهما) وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أحزن والديه فقد عقّهما) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) : ثلاثة من الذنوب تعجّل عقوبتها ولا تؤخَر إلى الآخرة: عقوق الوالدين  والبغي على الناس وكفر الإحسان) وعن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (من أسخط والديه فقد أسخط الله، ومن أغضبهم فقد أغضب الله، وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فأخرج ولا تحزنهما) وعن الإمام الصادق (عليه السلام) (عقوق الوالدين من الكبائر لأن الله عز وجل جعل العاقَ عصياً شقياً) وعنه (عليه السلام) (من نظر إلى والديه نظر ماقت –وهما ظالمان له- لم تقبل له صلاة)([2]).

          وقد عايشت الكثيرين ممن عملوا بحماس في الحركة الإسلامية منذ أكثر من ثلاثين عاماً فوجدت منهم تفريطاً في هذه الخصلة الكريمة ((بر الوالدين)) التي قرنها الله تبارك وتعالى بتوحيده وعبادته في قوله عزَ من قال: [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً] (الإسراء: 23) طبعاً نحن لا نتحدث عن مستوى فيما لو أمر الوالدان بمعصية الله تعالى كشرب الخمر أو نزع الحجاب ولا فيما إذا نهيا عن طاعة كالصلاة المفروضة وصوم رمضان فإن حقوقهما تقف عند هذه الحدود كما ورد (لا طاعة لمخلوق بمعصية الخالق).

          ولكننا نتحدث عما هو دون ذلك إذ إن الإباء قد يقدّمون نصائح وتوجيهات إلى أبنائهم انطلاقاً من طول تجربتهم بالحياة وخبرتهم بأحداثها والوضع الاجتماعي العام والولد لا يقتنع بذلك فيخالفهما ويعاندهما فيتورط في هذه الكبيرة وهي إيذاء الوالدين، وهذا مضرٌ بعلاقته مع ربّه وبعاقبته.

           وإذا أردت أن أتحدث عن مثال في تلك الفترة فهو أن الظرف  الذي عشناه كان قاسياً من جهة بطش جلاوزة صدام وأمثاله، وكما عبّر هو نفسه –يقتل عشرة ألاف دون أن يرفَ له جفن-، وكان الشباب مندفعين بأعمال يراها الآباء لا تستحق الاصطدام مع ذلك النظام الجائر، وإنهم يمكن أن يحافظوا على دينهم وحياتهم من دون إعلان، لكن بعض الشباب كان يعارض أباه وينتقده على هذا الخنوع من وجهة نظره الحماسية، بينما ينطلق الأب من خبرته بقسوة وبطش هؤلاء الطواغيت منذ أن حكموا عام 1963 ثم عادوا إلى الحكم عام 1968 فلم يتورعوا عن التذويب بأحواض التيزاب والقتل بثرامة اللحم والدفن أحياء واغتصاب الحرائر وجلد الأطفال الرضّع بالأرض حتى يتناثر دماغهم، وعلى أي حال فقد حصل الذي حصل ولله عاقبة الأمور.

          وأتذكر أنني سألت السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) –وهذا مثبّت في كتاب قناديل العارفين- عن سبب عدم ممارسته لدورٍ ميداني في حركة السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وانعزاله في الأيام الأخيرة فقال: لسببين، أحدهما إن أبي (وهو العلامة السيد محمد صادق الصدر الذي صلى على جثمان السيد الشهيد الأول) كان يمنعني من ذلك وكانت له هيبة وطاعة عليّ وعلى السيد الشهيد الأول نفسه ، فانظر إلى عاقبته حيث أطاع أباه كيف قيّض الله تباك وتعالى له الدور الكبير في بعث روح الإسلام والعودة إلى الله تبارك وتعالى حينما حانت له الفرصة بعد انتفاضة العام 1991 .

          كان سعد بن معاذ من سادة الأنصار الذين بايعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في العقبة قبل الهجرة وعاهدوه على النصرة والفداء وطلبوا منه الهجرة إليه، وكان بيته مقراً للحركة الإسلامية ودعوة الناس إلى الإسلام  في يثرب قبل الهجرة، وخاض مع رسول الله صلى الله عليه واله معارك الإسلام الكبرى بدراً و أحداً  والأحزاب وأصيب بسهم في معركة الخندق

          وبقي جريحاً إلى أن توفي وشيّعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأصحابه وحدّثهم رسول (صلى الله عليه وآله) إن آلاف الملائكة كانوا يشيعونه حتى لم يبقَ موطئ قدم خلف جنازته إلا وفيه أحد من الملائكة ونزل معه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى قبره ووسّده في ملحودته فقالت أمه: هنيئاً لك يا سعد الجنة ، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): مه يا أم سعد فلعله كان سيء الخلق مع أهله فيعذّب في قبره.

          وأقول لكم إن كل الذين لم ينتبهوا إلى إصلاح أنفسهم وتطهير قلوبهم وتهذيب أخلاقهم فإن عملهم منقوص وبائس مهما تصدّروا الواجهات الإسلامية وحملوا من ألقاب دينية أو اجتماعية ، وربما أدى بهم خبثهم الباطني إلى الهلاك بعد العمر الطويل ، وكل الذين لم يلتفتوا إلى هذه التربية فأنهم ذاقوا بدرجة من الدرجات ألواناً من العذاب عاجلاً أم آجلاً وفضحوا .

          وأنت ترى اليوم الكثيرين ممن كانوا في عمركم قبل ثلاثين أو أربعين عاماً ويزعمون أنهم انخرطوا في العمل الإسلامي منذ ذلك الزمان تراهم اليوم قد تخلّوا عما امنوا به وراحوا يتصارعون بقسوة الحيوانات المفترسة على الدنيا وينتهكون من اجل تحقيق مأربهم الأنانية ما حرمه الله تبارك وتعالى، ولو كانت أسس بنائهم سليمة لبقوا مستقيمين.

          فانتبهوا أيها الأحبة لإصلاح أنفسكم وتحليتها بالأخلاق الفاضلة ولا تغفلوا عن هذا (الجهاد الأكبر) مهما انهمكتم في العمل الرسالي وخدمة المجتمع فإنه يبقى (جهاداً اصغر) وان الله تعالى يعينكم ما دمتم في طاعته، واعلموا أن النفس بعيدة الأغوار معقدة التأثيرات والتجاذبات ولا يفلح في ترويضها وكبح جماحها وتوجيهها إلى الله تبارك وتعالى إلا من أدركه الله سبحانه بلطفه وتولاه برعايته لتجتازوا الامتحان الصعب، كما اجتازه الحر الرياحي حينما وقف يوم عاشوراء وكان قائداً كبيراً في جيش الخليفة الأموي يخيّر نفسه بين الجنة التي هي مع الحسين وأصحابه وان كان ثمنها الصبر على الموت ساعة، وبين النار التي هي مع جيش يزيد وكانت مزخرفة بالشهوات والسلطة والنفوذ والدنيا الواسعة فاختار الجنة ومضى شهيدا ووقف الإمام الحسين على مصرعه وقال له (حرٌ كما سمتك أمك حر،حرٌ في الدنيا وسعيدٌ في الآخرة) فكانت هذه الشهادة وساماً قلّده إياه سيده ومولاه ليأخذ الجائزة فوراً من رب العزة والجلال.

          وهكذا بقي الحر الرياحي رمزاً لكل من انتصر على نفسه حينما يتعرض لمثل هذا الامتحان الصعب ، كما بقي في تاريخنا المعاصر الشهيد الشيخ عارف البصري رمزاً لكل العاملين الرساليين الذين ترفّعوا عن الدنيا واخلصوا لله تبارك وتعالى وتفانوا في إعلاء كلمته ونصرة المحرومين والمستضعفين فمضى شهيدا وهو في ريعان الشباب وخلف هذا الذكر الخالد.



 ([1]) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد كبير من طلبة الدراسة الإعدادية المنضوين في رابطة الطالب الرسالي في الناصرية يوم 4/شوال /1428 المصادف 16/10 /2007.

([2]) الأحاديث موجودة في كتاب وسائل الشيعة ومستدركه.