خطاب المرحلة (206)... الاتفاقية الأمنية : حولت الانسحاب المحتوم إلـى نصرٍ استراتيجي

| |عدد القراءات : 1160
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

[وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ، مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ] (الصافات24-25)

 الاتفاقية الأمنية :

حولت الانسحاب المحتوم إلـى نصرٍ استراتيجي([1]) 

 

نعبّر عن خيبة أملنا لإصرار عدد من الكتل البرلمانية على المضيّ قدماً حتى التوقيع على المعاهدة الإستراتيجية والاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة الأمريكية دون الأخذ بنظر الاعتبار وجهات النظر الوطنية المخلصة التي قُدّمت لهم، ولم تلتزم بكل الشروط التي وضعتها المرجعية الدينية في النجف الأشرف للتوقيع عليها وهي:

أولاً: عدم الإخلال بالسيادة العراقية والتفريط بمصالح أجياله. فقد تضمنت الاتفاقية انتهاكات خطيرة للسيادة من حيث إقامة القواعد وحصانة الجنود الأجانب وعدم ولاية القضاء العراقي على الجرائم التي ترتكب على أرضه وضد شعبه، وعدم تفتيش الخارج والداخل إلى القوات الأجنبية والسيطرة على الأجواء العراقية، والإذن بالقيام بما يلزمه الدفاع عن النفس وهو عنوان مطاط يمكن أن يبرر الكثير من الجرائم. بل قد يدخلنا في مشاكل مع دول الجوار بضرب عمقها تحت هذا العنوان.

ثانياً: تحقق الإجماع الوطني، وهو ما لم يتحقق في جلسة التصويت إذ لم يوافق إلا أكثر من نصف أعضاء البرلمان بقليل وهي أغلبية لا تحقق توافقاً وطنياً في مثل هذه القضايا المصيرية التي ترهن مستقبل الأجيال، وأود هنا تصحيح معنى الإجماع الوطني، فانه لا يكفي في تحقيقه توافق عدد من الكتل الكبيرة التي تنتسب إلى مكونات الشعب العراقي الرئيسية، بل لا بد لتحقق معنى الإجماع الوطني أن يكون هذا التوافق مستندا إلى المصالح الوطنية العليا وليس إلى الصفقات المتبادلة والمصالح الحزبية والفئوية. وقد اتضح للقاصي والداني أن التوافق بُني على مثل هذه الصفقات قبل التصويت.

ثالثاً: الشفافية، وقد كانت غائبة عن مجريات المفاوضات حيث لم يعلم أعضاء البرلمان فضلاً عن الشعب بنص الاتفاقية إلا قبل التصويت بأيام وأُعلموا بأن النص نهائي ولا يمكن التغيير فيه، ولقد أخفيت النسخة الانكليزية التي قال عنها خبراء أمريكيون إن فقراتها تفرّغ الأجزاء المهمة من الاتفاقية من محتواها وأظهروها مباشرة بعد مصادقة البرلمان وقالوا في سبب الإخفاء (لأنها تعقّد حوار الكتل السياسية).

رابعاً: تهيئة الظروف الموضوعية والمناخات السياسية الملائمة للدخول في مثل هذه المفاوضات المعقدة مع دولة كبرى مثل الولايات المتحدة، بأن تتوفر عملية سياسية رصينة مستندة إلى قاعدة شعبية واسعة ليكون المفاوض العراقي في وضع قوي يمكنه من تضمين الاتفاقية كل ما ينسجم مع مصالحه، لكن الذي حصل أن الأيام التي سبقت التصويت على الاتفاقية شهدت تشظياً وتشتتاً بين أطراف العملية السياسية بلغ الذروة، ووصلت الاتهامات المتبادلة بين الأحزاب الحاكمة إلى حد الجرائم الكبرى كاتخاذ مكاتب الأحزاب مقرات للقتل والتعذيب وانتهاك الدستور ومقاتلة قوات الحكومة وتشكيل الميلشيات والدكتاتورية وصرف المال العام للدعاية الانتخابية ووصلت إلى التهديد بالانقلاب وانقسمت المؤسسات الدستورية على نفسها حيث وصل التخندق إلى ما بين مجلس رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة.

وقد استغل الطرف الآخر هذه الانقسامات ليرمي إليهم النسخة التي يريد ويغلق باب التعديل ويطلب منهم المصادقة وإلا فالتهديد بالويل والثبور.

لقد أصرّ البعض على توقيع الاتفاقية لا لقناعة بها وإنما لحرصه على التمسك بالمغانم التي حصل عليها ولم يستطيعوا إقناع المواطن بايجابيات فيها إلا قضية جدولة الانسحاب، وهو كما يعلم الجميع مطلب أمريكي قبل أن يكون عراقياً للضغط الداخلي الذي يواجهونه بسبب الصعوبات والخسائر التي أصابتهم ولحاجتهم لنقل القوات المقاتلة إلى منطقة أخرى , وبذلك فقد حولت الاتفاقية انسحاب المهزوم والمضغوط عليه إلى نصر استراتيجي.وقد منحتهم الاتفاقية مدة (36) شهراً وهي أطول مما وعد به الرئيس الأمريكي الجديد([2])، مضافاً إلى عدم كون هذه المدة ملزمة لهم لان قادتهم السياسيين والعسكريين صرحوا بأن الانسحاب مرهون بالوضع على الأرض.

ومع ذلك فقد حاول هذا البعض تسويقها بخلط الأوراق وإخفاء الحقائق وأجروا تعديلات لذر الرماد في العيون كتبديل اسمها من (الاتفاقية الأمنية) إلى (اتفاقية الانسحاب) وهو ليس انسحاباً بل إعادة انتشار وتحوّل من الاحتلال العسكري الظاهر إلى الهيمنة على مقدّرات الأمور، وإن الانسحاب لا يحتاج إلى اتفاقية بل يحصل تلقائياً بمجرد انتهاء التفويض الأممي نهاية هذا العام([3]) وحينئذٍ يفترض حصول الانسحاب فيه بلا قيد ولا شرط سوى ما تتطلبه العملية لوجستياً ويمكن حينئذ أي بعد الانسحاب قيام حكومة وطنية حرة بتوقيع أي اتفاقية تراعي مصالح الدولتين.

ومما حاولوه ضمن عملية التسويق حصر الكتل السياسية بين خيارين: أما توقيع الاتفاقية أو تمديد الاحتلال ولا أحد شريف حر يرضى بوجود الاحتلال فيكون ملزماً بالخيار الأول.

لكن هذا الانحصار شيء فعلوه هم بتضييق الوقت وتضييعه وقد أفهمناهم بوجود خيار ثالث وهو تصحيح العملية السياسية وتحقيق شراكة حقيقية لتقف الكتل السياسية صفاً واحداً ومن خلفهم المرجعية الدينية والشعب كافة أمام الطرف الآخر - أي الأمريكان-  وتقول بلسان واحد هذه مطالبنا وهذه شروطنا وسوف لا يجد الطرف الآخر بُداً من الإذعان. لكنهم لم يصغوا لهذه النصائح ومضوا منفردين فاستضعفهم الآخر.

ثم هددوا بان البرلمان إذا لم يوافق فأنهم سوف لا يطلبون تمديد وجود القوات الأمريكية وسيتوجه العراق نحو المجهول وهو خيار خطير وهذا الكلام منهم فيه تضليل كبير لأن القوات الأمريكية تحتاج لوجستياً إلى ما لا يقل عن (16) شهراً لكي تنسحب لو طلب منها الانسحاب فوراً، فقد احتاجت سنة للانسحاب عام1991 مع أنها كانت تحتفظ بأقل مما تمتلكه اليوم على ارض العراق بكثير.

على السياسيين أن يتذكروا أنهم لم يتبوؤا هذه المواقع إلا بدعم المرجعية الدينية للانتخابات ومجمل العملية السياسية وان الشعب لم ينتخبهم بأشخاصهم لان القوائم كانت مغلقة وإنما أعطى صوته لقضية ائتمنهم عليها فإذا لم يفوا للمرجعية وللشعب فإنهم يصبحون فاقدين للشرعية، ولينتظروا الانتخابات المقبلة لينتخبهم الشعب بأسمائهم في قوائم مفتوحة.

إن كلمتنا هذه سواء أدّت إلى نتيجة ايجابية أو لم تؤدِ فإنها شهادة ندلي بها أمام الله تبارك وتعالى وأمام شعبنا الكريم وأمام التاريخ. وان الفرصة لم تفت إذ يمكن للكتل السياسية أن تصحح المسيرة وتطالب بصوت واحد بتعديل الاتفاقية بما ينسجم مع المصالح الوطنية العليا.



([1]) صدر هذا البيان تعليقاً على مصادقة البرلمان على الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة يوم الخميس 28 ذ ق 1429هـ المصادف 27/11/2008 وكانت كتلة (الفضيلة) من الرافضين للمصادقة على الاتفاقية رغم الترغيب والترهيب الذي مارسه السفير الأمريكي والمسؤولون الذين كانوا يزورون البلد.

([2]) وعد الرئيس الأمريكي أوباما شعبه في حملته الانتخابية لعام 2008 التي فاز بها  أنه سيسحب قوات بلاده من العراق في غضون (16) شهراً.

([3]) لذلك كانت الولايات المتحدة تضغط لانجاز المصادقة عليها قبل نهاية العام.