خطاب المرحلة (268)... أهم من العمل أمران

| |عدد القراءات : 2072
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

أهم من العمل أمران:

    الخطبة الثانية:   

 أشرنا في الخطبة الأولى إلى أن الأعمال التي يتقرّب بها إلى الله تعالى لها مدى واسع يستوعب الخلق كلهم، وهنا نقول أن القيام بالعمل الصالح وحده لا يكفي بل يوجد ما يتمّمه ويعطيه قيمته وهو أهم من العمل نفسه لأنه بدونه يبقى عملاً فارغاً وشكلياً لا قيمة له، كما ورد في بعض الروايات إن صلاة بعض الناس تلّف في خرقة يوم القيامة وترمى بها في وجهه، وإنه (كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ، وكم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه)([1]) وما ورد في الحج أن أحد أصحاب الأئمة أعجب بكثرة الحجيج وارتفاع أصواتهم بالتلبية والتكبير والحمد لله تعالى فقال له الإمام (عليه السلام): ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج.

          فالعمل وحده لا يكفي لنيل رضا الله تبارك وتعالى والفوز عنده، بل قد يكون وبالاً على صاحبه كما ورد في دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة (إلهي كم طاعة بنيتها، وحالة شيدتها هدم اعتمادي عليها عدلك بل أقالني منها فضلك) فقد كنت أتصور أن ميزاني ثقيل بالأعمال الصالحة التي قدّمتها وعوّلت عليها لكنها لما عُرضت على الموازين القسط ليوم القيامة وإذا بها لا قيمة لها، بل صرت أهرب وأتبرأ منها وأطلب الإقالة والعفو عنها. وقد تستغرب ذلك لكنني أقرّبُ القضية بمثال: فلو أن ملكاً دعا شخصاً حقيراً للقائه وضيافته فلبى الدعوة وكان الملك مقبلاً عليه وهيأ له كل أسباب التكريم والجوائز الثمينة لكن المدعو كان مُعرضاً عنه ولا يلتفت إليه ومتشاغلاً بأمور أخرى، ألا تعد هذه إساءة في الأدب مع الملك ويعاقب عليها؟ فالصلاة دعوة للقاء الله تبارك وتعالى ومناجاة معه فإذا كان المصلي مشغولاً عن ربه وشارد الذهن عن صلاته فهو كهذا الشخص مع حقارة قدره أمام ملك الملوك فماذا سيكون جزاؤه؟ فهذا هو حال صلاتنا التي هي أهم العبادات وعمود الدين فكيف نرجوا الثواب عليها؟ إلا بلطف الله تعالى وكرمه وفضله وصفحه فلا بد أن يقترن العمل بأمرين لينتج الغرض المطلوب وهما:

          الأول: تحسين العمل، قال تعالى [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] (الملك:2)  فليس المهم كثرة العمل وإنما حسنه، وقد حثّت آياتٌ كثيرة على حُسن العمل وإن القبول بحسب الإحسان في العمل. قال تعالى [إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ] (الأعراف:56)  [إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً] (الكهف:30).

          وإحسان العمل يتحقق بجملة أمور:

          منها: إخلاص النية لله تبارك وتعالى والإتيان بالعمل لنيل رضاه وليس لأي هدف آخر، فهذا الحج قد يأتي به شخص للمباهاة أو للرياء وليقال له (حاج فلان) أو للسياحة والاطلاع على تلك المشاهد المقدسة وغيرها من النوايا غير المخلصة، فهذا لا يكون عملاً مقرباً إلى الله تعالى وإن كان الحاج لا يحرم الأجر مطلقاً مهما كانت نيته لكن قد يكون أجره في الدنيا كما ورد في بعض الروايات.

          ومنها: إتقان الأحكام الشرعية للعمل وحفظ حدوده، فللحج أحكام وتفاصيل لابد من معرفتها وأداء العمل بشروطه لأن الإخلال بها إخلال بالعمل نفسه وقد يقع باطلاً، لذا لابد من اختيار المرشدين العارفين الورعين والآخذ منهم ومتابعتهم وسؤالهم عن دقائق الأمور، فالعمل التام لا بد أن يقترن بالعلم والإخلاص، ورد في الحديث الشريف (الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطرٍ عظيم)([2]).

          ومنها: الالتفات إلى أسرار العمل ومعانيه وحقائقه، فإن وراء هذه الأعمال الجوارحية حقائق هي المطلوبة من العمل وليس هذه الحركات الشكلية، كالأمثال التي تُضرب وتراد منها الحقيقة التي صورت على شكل هذا المثل، وكالرؤيا الصادقة في المنام التي لها حقيقة تؤول إليها الرؤيا وترجع إليها لذا سميت تأويل الأحلام فمثلاً ملك مصر رأى في المنام سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وآخر يابسات وكانت حقيقة هذه الرؤيا ما فسرها به يوسف الصديق (عليه السلام).

          فيحسن التعرف إلى الأسرار المعنوية لمناسك الحج والأغراض المقصودة من حركاته وأفعاله وهي على مستويات وتحتاج إلى بحث مفصّل كالذي ورد في رواية الإمام السجاد (عليه السلام) مع الشبلي([3]).

          الثاني: المداومة على العمل وحفظه ومواصلته، ولا نعني بهذا الأمر تكرار الحج لأن هذا غير متيسّر إلا نادرٌ فللمداومة أنحاء عديدة ربما نتعرض لشرحها في خطبة مستقلة بإذن الله تعالى.

          لكننا نريد الإشارة هنا إلى أن الإنسان قد يوفّق في مثل هذه المواسم الروحية الخالصة إلى أعمال إضافية لم يكن معتاداً عليها فيؤديها بسبب ارتفاع الهمة للطاعة والأجواء المشجّعة ومصاحبة المؤمنين الصالحين والتعلم منهم كصلاة الليل أو تلاوة القرآن (الذي يستحب ختمه في رحلة الحج) أو صلاة جعفر الطيار التي كان السلف الصالح يهتم بها ويواظب عليها، أو الصلاة في أوقاتها ومنها صلاة الصبح وصلاة الجماعة والاستماع إلى التوجيهات الدينية وغيرها، فالمطلوب منه أن يستمر على هذا التقدم ويحافظ على هذا الانتصار الذي حققه على النفس الأمّارة بالسوء فيواظب على هذه الأعمال التي وُفّق إليها وذاق حلاوة أدائها.

          وهكذا ينبغي للمؤمن أن يحافظ على كل المكاسب التي يحققها في جهاده مع نفسه مما يُوفّق له في الأزمنة الشريفة –كشهر رمضان- أو الأمكنة الشريفة أو المواسم المباركة كالحج.

          لاحظوا ما ورد في من حفظ سورة من القرآن الكريم أو آية ثم نسيها وهي عدة روايات معتبرة منها صحيحة أبي بصير قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): من نسي سورة من القرآن الكريم مثلت له في صورة حسنة ودرجة رفيعة في الجنة فإذا رآها قال: ما أنتِ فما أحسنك ليتك لي؟ فتقول: أما تعرفني أنا سورة كذا وكذا ولو لم تنسني رفعتك إلى هذا)([4]).

          ومن المداومة على العمل إدامة آثاره كالانتهاء عن الفحشاء والمنكر بالنسبة للصلاة قال تعالى [إنَّ الصَلاةَ تَنهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ] (العنكبوت: 45)  فيجعل المؤمن صلاته نصب عينيه ويتذكرها دائماً لتردعه عن الهم بأي معصية أو منكر، فهذه مداومة على الصلاة، وقد وعد الله تعالى بأن (الحاج لا يزال عليه نور الحج ما لم يلمّ بذنب)([5]).



([1]) نهج البلاغة: 4/ من حكمه (عليه السلام) الحكمة رقم (145) وفيه (وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والعناء، حبذا نوم الأكياس وإفطارهم).

([2]) جامع السعادات: 1/220.

([3]) راجعها في رسالة مناسك الحج لسماحة الشيخ، صفحة 244 الطبعة الثالثة.

([4]) أصول الكافي: كتاب فضل القرآن، باب (من حفظ القرآن ثم نسيه).

([5]) وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب وجوب الحج وشرائطه، باب 38، ح14.