من أراد الآخرة فليسعَ لها سعيها

| |عدد القراءات : 2066
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

من أراد الآخرة فليسعَ لها سعيها [1]

مما يوجب حذر المؤمن في هذه الحياة الدنيا ويجعله في توجّس وقلق إيجابي يدفعه إلى مزيد من الاعتصام بالله تعالى، هو أن لا يختم له بخير وأن لا تكون عاقبته حسنة، وإن كان عمله بحسب الظاهر صالحاً الآن إلاّ أنه لا تعرف خاتمته والأمور بخواتيمها، روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله ((لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة لا يتيقن الوصول إلى رضوان الله حتى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له)).([2])

وهذا القلق له مبرراته ما دام الصراع بين جند الرحمن وجند الشيطان مستمراً ومتواصلاً داخل النفس الإنسانية، فقد ينجح الإنسان في امتحانات عديدة لكنه يسقط في أحدها سقوطاً نهائياً والعياذ بالله، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (أن العبد ليعمل عمل أهل الجنة فيما يرى الناس وإنه لمن أهل النار، وإنه ليعمل عمل أهل النار فيما يرى الناس وإنه لمن أهل الجنة وإنما الأعمال بالخواتيم)([3]) وعنه (صلى الله عليه وآله سلم): (الأمور بتمامها والأعمال بخواتيمها).[4]

وهذه الحقيقة لها شواهد قرآنية وتاريخية كثيرة، ولنذكر مثالاً (حوزوياً) وهو أحمد بن هلال العبرتائي الذي كان يمتلك رصيداً ضخماً، فقد كان من كبار العلماء والرواة عن الأئمة (عليهم السلام)، وله منزلة جليلة بين أصحابنا، فقد قال عنه الشيخ الطوسي ((روى أكثر أصول أصحابنا)) ناهز التسعين من العمر (180-267)، حجّ (54) حجة، عشرون منها ماشياً على قدميه، قال عنه الكشي ((وقد كان رواة أصحابنا بالعراق لقوه، وكتبوا منه)) وقال العلامة (قد) أنه سمع منه ((جل أصحاب الحديث واعتمدوه فيها)).

وكان من أصحاب الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام) إلاّ أنّه مرّ بامتحان بعد استشهاد الإمام العسكري (عليه السلام)، ففشل فيه وغلبه هواه وحسده وحبّه للرئاسة والزعامة، ولم يسلِّم بنيابة السفير الثاني للإمام (عليه السلام) فورد التحذير أولاً من الإمام المهدي (عليه السلام) من الانخداع بظاهره، فقد كتب الإمام (عليه السلام) إلى نوابه (قوّامه) بالعراق في ابتداء أمره (احذروا الصوفي المتصنّع) ثم جاء لعنه من الإمام المهدي (عليه السلام)، فقد ورد في كتاب الغيبة في ذكر المذمومين الذين ادّعوا البابية ((قال أبو علي بن همام: كان أحمد بن هلال من أصحاب أبي محمد(عليه السلام)، فأجمعت الشيعة على وكالة محمد بن عثمان (رضي الله عنه) بنص الحسن (عليه السلام) في حياته، ولما مضى الحسن (عليه السلام)، قالت الشيعة الجماعة له: ألا تقبل أمر أبي جعفر محمد بن عثمان، وترجع إليه، وقد نصّ عليه الإمام المفترض الطاعة؟ فقال لهم لم أسمعه ينصّ عليه بالوكالة، وليس أنكر أباه، يعني عثمان بن سعيد، فأمّا أن أقطع أنّ أبا جعفر وكيل صاحب الزمان فلا أجسر عليه، فقالوا: قد سمعهُ غيرك، فقال: أنتم وما سمعتم، ووقف على أبي جعفر، فلعنوه وتبرئوا منه، ثم ظهر التوقيع على يد أبي القاسم حسين بن روح، بلعنه، وبالبراءة منه في جملة من لُعن)).

ولم يتحمل كثير من الأصحاب هذا الخبر في حق ابن هلال لما ذكرنا من منزلته عندهم وأنكروا ما ورد في مذمّته ((فحملوا القاسم بن العلاء على أن يُراجع في أمره فخرج إليه توقيع طويل جاء فيه (ونحن نبرأ إلى الله تعالى من ابن هلال لا رحمه الله وممن لا يبرأ منه، فأعلم الإسحاقي وأهل بلده مما أعلمناك من حال هذا الفاجر، وجميع من كان سألك ويسألك عنه)([5]).

فهذا وأمثاله كثير ممن كان له ظاهر تمتد إليه الأعناق، لكن قدمه زلّت ولم يتب ولم يصلح خطأه وأصرّ عليه فكان من الملعونين، لذا ورد في الحديث النبوي الشريف (لا عليكم أن تُعجبوا بأحدٍ حتى تنظروا بما يُختمُ له، فإنّ العاملَ يعمل زماناً من عمره أو بُرهة من دهره بعملٍ صالحٍ لو مات عليه دخل الجنة، ثمّ يتحوّل فيعمل عملاً سيئاً)([6]) وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، ثمّ يختم له بعمل أهل النار)([7]).

ولأهميّة حسن الخاتمة في مصير الإنسان فقد أشير إليها كثيراً في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، وتكرّر طلبها في الأدعية المباركة، وبيَّن لنا القرآن الكريم باختصار كيفية ضمان الفوز بحسن الخاتمة ووسيلتها التقوى في قوله تعالى (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص/83).

وبتفصيل أكثر قال تعالى (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً) (الإسراء/19).

فالفوز بالآخرة يتطلب بحسب الآية الشريفة عدة أمور:-

أولاً: إرادة جديّة وقصد حقيقي لنيل رضوان الله تبارك وتعالى وليس مجرد لقلقة لسان كما وصفهم الإمام الحسين (عليه السلام) (الناس عبيد الدُنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا مُحصّوا بالبلاء قلّ الديانون)، وأن تكون إرادته مبنية على قصد الوصول إلى الهدف الحقيقي وهو رضا الله تبارك وتعالى وليس طاعة لغيره أو لأي هدفٍ آخر سواه.

ثانياً: السعي الجاد الدؤوب بما يصلح الآخرة ويضمن الفوز فيها، فقوله تعالى (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) يتضمن عدة خصائص لهذا السعي، منها كونه حثيثاً ودؤوباً، فقد قيل في معنى السعي أنّه ((المشي السريع ويستعمل للجد في الأمر))، ((وأكثر ما يُستعمل السعي في الأفعال المحمودة)).

ولتأكيد ذلك فقد أضافت الآية السعي إلى الآخرة أي أن يكون السعي مناسباً للآخرة بكل ما يعني ذلك، لتختصر كل ما تطلبه الآخرة من نوع السعي ومقداره وخصوصياته، قال السيّد صاحب الميزان ((والمعنى وسعى وجدّ للآخرة السعي الذي يختص بها ويُستفاد منه أنّ سعيه لها يجب أن يكون سعياً يليق بها ويحقّ لها كأن يكون يبذل كمال الجهدِ في حسن العملِ وأخذه من عقلِ قطعي أو حجة شرعية))([8]).

ثالثاً: أن يقترن ذلك بالإيمان بالله تعالى وبرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّه شرط القبول ونيل الجزاء لأنّه باب الله الذي لا يُؤتى إلاّ منه (وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) (البقرة/189)، أي أن يكون عمله مستنداً إلى حجة شرعية ودليل معتبر- وأن يتعزز الإيمان بالمعرفة بالله تعالى وإخلاص النية له سبحانه، وهذا الإيمان والمعرفة لابد أن تكون لها حقيقة وتجليات في عقيدة الشخص وسلوكه ونظرته للأمور.

ومن مظاهر تلك المعرفة أن يعتقد أن هذا كله لطفٌ من الله تعالى وأنّه لا يستقل بشيء عن ربّه، وأن يكون خائفاً مشفقاً إذا نظر إلى العمل من زاويته الشخصية، فإذا قُبل عمله بفضل الله ورحمته وهذا ما أكدته الآية اللاحقة (كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً) (الإسراء/20) ونحو ذلك من المعاني.

وقد بيّنت الروايات الشريفة بعض مظاهر هذه المعرفة وهذه الأعمال الصالحة الموجبة لحسن الخاتمة بإذن الله تعالى.

عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (إذا أردت أن يؤمنك الله سوء العاقبة فاعلم أن ما تأتيه من خير فبفضل الله وتوفيقه، وما تأتيه من سوء فبإمهال الله وإنظاره إياك وحلمه وعفوه عنك).([9])

ومن كلام الإمام الصادق (عليه السلام) لبعض الناس (إن أردت أن يُختم بخير عملك حتّى تُقبض وأنت في أفضل الأعمال فعظّم لله حقّه أن تبذل نعمائه في معاصيه، وأن تغتر بحلمه عنك، وأكرم كلّ من وجدته يذكر منّا أو ينتحل مودّتنا).([10])

عن الإمام الكاظم (عليه السلام): (إنّ خواتيم أعمالكم قضاء حوائج اخوانكم والإحسان إليهم ما قدرتم وإلاّ لم يُقبل منكم عمل، حنّوا على اخوانكم وارحموهم تُلحقوا بنا)([11]).

فمثل هؤلاء الذين استوفوا هذه الشروط يكون سعيهم مشكوراً، وقد أطلق لفظ الشكر وجُعل مبهماً ليكون لا حدود له لأنّ صفات الله تبارك وتعالى لا حدود لها، ومن أسمائه الشكور.

وشدّدت الآية على أن الجزاء –وهو شكر السعي- لا يتخلف عن السعي بل يكون نتيجة حتمية له، بعكس من يطلب الدُنيا الذي ذكرته الآية السابقة على هذه، قال تعالى (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً) (الإسراء/18) فلا يتحقق له ما يريد بل ما يريده الله تبارك وتعالى، وليس لكل أحدٍ بل لمن يشاء الله تعالى أن يعطيه.

وبهذا المعنى الذي شرحناه لسعي الآخرة لابد أن نفهم معنى انتظار الإمام صاحب الأمر (عليه السلام) والدعاء بقيام دولته المباركة، فلابد أن يقترن بالسعي الخاص به والمناسب له، فتقيّد أحاديث ثواب الانتظار والمنتظرين بأن يُسعى له سعيه المناسب له.

وهكذا كل قضية في حياتنا يُراد تحقيقها فلابد أن يسعى لها، سعيها المناسب لها، كمن يريد أن يصبح طبيباً أو مهندساً فلابد أن يبذل الجهد المطلوب كماً ونوعاً ويسير وفق الآليات التي توصله إلى هدفه، ولا ينال كل ذلك إلاّ بلطف الله تعالى وتوفيقه ومدده.

 



[1] كلمة سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) في الاحتفال الذي أقامه في مكتبه يوم الجمعة 8/شعبان/1433 الموافق 29/6/2012 لتكريم الطلبة المتفوّقين في الامتحان المركزي الذي أجري في النجف لطلبة فروع جامعة الصدر الدينية في المحافظات، وحضر الاحتفال مدراء فروع الجامعة.

([2]) بحار الأنوار: 71/366 ح13.

([3]) كنز العمال ح950.

[4] بحار الأنوار: 77/ 165.

([5]) هذه النصوص نقلها من مصادرها: السيد الخوئي (قدس سره) في معجم رجال الحديث: 2/367- 370.

([6]) – (7) منتخب ميزان الحكمة: 206 عن كنز العمّال: 545، 589.

 ([8]) الميزان في تفسير القرآن: 13/65.

([9]) بحار الأنوار: 70/392 ح60.

([10]) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 2/4 ح8 .

([11]) بحار الأنوار، 75/379.