من مواعظ الإمام الجواد (عليه السلام)

| |عدد القراءات : 6396
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

 بسم الله الرحمن الرحيم

من مواعظ الإمام الجواد (عليه السلام)[1]

أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّ هذه القلوب –التي هي محل معرفة الله تعالى ووعاء الوصول إليه- يعروها الصدأ والرين بما يكتسب الإنسان من ذنوب ولكثرة مشاغله ومشاكله في هذه الدنيا، فإذا ازداد الرين طبع على القلب واسودّت صفحته فانغلق عن المعرفة وتلقّي الفيض الإلهي، إلى أن يتداركه الله بلطفه ورحمته، روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله (إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء، قيل: وما جلاؤها؟ قال: كثرة ذكر الموت وتلاوة القرآن).[2]

لذلك أوصى أهل البيت (عليهم السلام) بتعاهد هذا القلب بالموعظة حتى تبقى فيه جذوة الحياة وتبقى فيه قابلية التكامل، من وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام) (احيي قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة).[3]

فإذا كنتم تبحثون عن الموعظة وتتحرون مواطنها وتتأثرون بها وتتفاعلون معها فهذا يعني أنّ قلوبكم ما زالت حيّة ويرجى منها الخير وهذه نعمة عظيمة تستحق الشكر المتواصل لله تبارك وتعالى.

وما دمنا على أعتاب ذكرى استشهاد الإمام الجواد (عليه السلام) معجزة الإمامة فلنأخذ الموعظة منه (عليه السلام) من خلال بعض أحاديثه (عليه السلام)، وأولها ما يرتبط بما نحن فيه من ضرورة تعاهد أمر القلوب ومواصلة إحياءها:

1-    قال (عليه السلام) (القصد إلى الله تعالى بالقلوب أبلغ من إتعاب الجوارح بالأعمال)[4].

نحن نهتم كل الإهتمام بطاعة الجوارح فنبادر إلى الصلاة الفلانية لأن فيها كذا وكذا من الثواب وإلى الصوم الفلاني لأن فيه كذا وكذا، وهذا كلّه حسنٌ جميل، ويعطي الله تعالى بكرمه هذا الثواب المذكور في الخبر وإن لم يقله المعصومون (عليهم السلام) كما أفادت الروايات الصحيحة، ولكنّ الإمام (عليه السلام) ينبّهنا إلى أنّ الطاعات الأسرع إنتاجاً وإيصالاً إلى الكمال هي الطاعات القلبية.

وأهمّ الطاعات القلبية المعرفة بالله تعالى، ولا نتصور أن المعرفة والعرفان علمٌ خاص بنخبة نادرة من العرفاء الشامخين، وإنّما هي متاحة لكل من طلبها وسألها من الله تعالى، لذلك دعا الله تعالى جميع خلقه إليها من خلال التدبّر بالقرآن الكريم والأحاديث الشريف، ويعطينا الإمام الجواد (عليه السلام) واحدة من أشكال وأدوات هذه المعرفة لتتأكد أنّ هذه المعرفة ميسّرة لكل أحدٍ إذا صدق في طلبها:

2-    قال (عليه السلام) (إعلم أنّك لن تخلو من عين الله فانظر كيف تكون).[5]

هل توجد حقيقة أوضح من أن الله تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأنّه على كل شيء شهيد، إذا كان الأمر كذلك –وهو كذلك بلا شك ولا ريب- فلنراقب أنفسنا ولنتأدب بحضرة الله تبارك وتعالى ولنتعلم كيف يجب أن نكون ما دمنا في جميع أحوالنا بمنظر منه تبارك وتعالى في أقوالنا وأفعالنا وخطراتنا وظنوننا ومشاعرنا وعواطفنا، فالذي يتصور أنّه قد غلب الآخر أو خدعه أو فعل شيئاً في السر والخلوة حيث لا يراه ولا يعلم به أحد إنّما يخدع نفسه لأنّ الله شهيد عليه، ويكون قد أعان على نفسه من حيث يعلم أو لا يعلم، وفي ذلك:

3-    قال (عليه السلام) (من أطاع هواه أعطى عدوَّه مناه).[6]

أي كأنه أهدى مقتله المعنوي مجاناً إلى أعدائه المتربصين به و بغوايته، وأولهم نفسه الأمّارة بالسوء (أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك) وقال الإمام الصادق (عليه السلام) (لا تدع النفس وهواها، فإن هواها رداها، وترك النفس وما تهوى أذاها، وكفّ النفس عما تهوى دواها)[7]، وثانيهم الشيطان الذي أقسم على غواية البشر (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص/82-83) فلابد أن يبذل الإنسان وسعه في السيطرة على غرائزه ومشاعره وشهواته وعواطفه ويجعلها وفقاً لما يريده الله تبارك وتعالى، فيفعل ما يحبه الله تعالى، ويجتنب ما يكرهه تعالى، وليس عليه أن يكبتها ويقضي عليها، فإن الله تعالى خلق هذه القوى لنفع الإنسان واعمار الحياة وإدامة الوجود، وجعل ثواباً جزيلاً على من سيّرها وفق الشريعة المقدسة، كاستخدام الشهوة الجنسية في إقامة سنة الله تعالى وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله) بالتزويج وتكثير النسل ونحوها.

وهكذا المال وغيرها من أمور الدنيا فإذا أخذ من حله وأنفق في حله فإنه يصبح من أمور الآخرة.

وها هو النبي الحكيم سليمان (صلوات الله عليه) يقول (وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي) (ص/35) مع أنه نبي معصوم، فلا ضير في طلبه ما دام يريد به إقامة شرع الله تبارك وتعالى.

واعلم ان ذلك لا ينال متى تحب وتشتهي، ولا تتصور انك قادرٌ بمفردك على اختيار الطريق الصحيح بما شئت إلا بمقومات يذكرها الإمام الجواد (عليه السلام):

4-    قال (عليه السلام) (المؤمن يحتاج إلى توفيق من الله، وواعظٍ من نفسه، وقبول ممن ينصحه).[8]

فأول تلك العناصر والمقوّمات: توفيق الله تبارك وتعالى ولطفه بعبده، ولذلك كان هناك تركيز في أدعية المعصومين (عليهم السلام) بطلب التوفيق (اللهم ارزقنا توفيق الطاعة وبعد المعصية).

ومدخلية التوفيق وأسباب اللطف الإلهي واضحة في حياتنا، مثلاً تجد الاندفاع والحماس للصوم في شهر رمضان بروحية عالية وإقبال شديد مع انه في صيف لاهب ونهار طويل جداً، بينما يتكاسل عن صوم يوم مستحب في غيره ولو في نهار بارد قصير قليل المؤونة، مع ان بعض الصوم المستحب –كصيام ثلاثة ايام في الشهر والأفضل أن تكون أول خميس والأربعاء في العشرة الوسطى وآخر خميس الذي يعدل صوم الشهر والالتزام بهذه السُنّة يعدل صوم الدهر –مما سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحثّ على الالتزام به حباً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وإحياءاً لسنته الشريفة.

فاسألوا الله تعالى أن يمدّكم بتوفيقه دائماً وليس في أوقات محددة كالنشاط الذي نلمسه في ليلة القدر فيجتمع المؤمنون في المساجد الصلاة مئة ركعة وأكثر بينما يتكاسل البعض عن أداء نزر يسير من النوافل المهمة في غيرها من أيام السنة كركعتي الشفع وركعة الوتر من صلاة الليل وكصلاة الغفيلة من نافلة المغرب وكنافلة الصبح ونحوها.

ونحن مقبلون على أزمنة شريفة في شهر ذي الحجة منها العشر الأوائل، ومن أعمال الشهر وسائر الأشهر الحرم صوم ثلاثة أيام متتالية: الخميس والجمعة والسبت، فقد ورد في الحديث الشريف (أن من صامها في شهر من الأشهر الحرم كتب الله له عبادة تسعمائة عام)[9]، ويمكن لمن عليه قضاء أن ينوي الصوم للأمرين فيُعطى الأجر إن شاء الله تعالى وهذا الثواب فيه حافز كبير على العمل، وإن كان الأفضل أن نقوم بالفعل الحسن لمجرد أن الله تعالى يحبّه ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحبّه بغضّ النظر عن مقدار الثواب المرصود له.

والعنصر الثاني هو أن يكون له واعظ من نفسه وقلب يستجيب لما فيه حياته وسلامته وإذن واعية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال/24)، وإلاّ فإن الهداية لا تحلّ قلباً منكوساً مُعرِضاً عن الحق ولهذا كان من اللازم إحياء القلوب دائماً بالموعظة وذكر الموت وتلاوة القرآن وتقليل العلائق بالدنيا.

والعنصر الثالث: أن تبحث عن الأخ الناصح الذي يسدّدك بكلماته وأفعاله وتذكرّك رؤيته بالآخرة ويهدي إليك عيوبك ويدلّك على ما فيه صلاحك كهذه الكلمات التي نتحدث بها.

واعلم أن هذا كله بعض نعم الله تعالى عليك فخذها وكن من الشاكرين، وإلا فإن الإمام الجواد (عليه السلام) يقول:

5-    (نعمة لا تشكر كسيئة لا تغفر).[10]

يا له من تشبيه خطير بحيث يكون عدم الشكر على النعمة سيئة لا تغفر –والعياذ بالله- وهذا الحديث فيه عموم لكل من ينعم عليك نعمة ويسدي اليك فضلاً حتى من المخلوقين، وإن كان الله تعالى هو المدبِّر الحقيقي ومسبِّب الأسباب، عن الإمام الرضا (عليه السلام) (من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عز وجل).[11]

بل في حديث آخر أن المشكورين ثلاثة، الله تعالى وهو المنعم الحقيقي، والشخص الذي أنعم وأسدى المعروف، والثالث الشخص الذي سعى وتوسّط لقضاء الحاجة عند من قضاها.

وهذا أدب قد افتقده أكثر الناس –مع الأسف- وهم بذلك يسيئون لأنفسهم، ويقطعون سبيل المعروف عن الإمام الصادق (عليه السلام) (لعن الله قاطعي سبيل المعروف، وهو الرجل يُصنع إليه المعروف فيكفره، فيمنع صاحبه من أن يصنع ذلك إلى غيره).[12]

ومن تمام الشكر الذي يحفظ النعمة ويديمها، القيام بواجباتها وأداء ما افترض الله تعالى فيها، وإلا فإنها يخشى عليها الزوال، وفي ذلك يقول الإمام الجواد (عليه السلام):

6-    (إن لله تعالى عباداً يخصُّهم بالنعم، ويُقرُّها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها عنهم وحوّلها إلى غيرهم)

وهذا تحذير شديد مطابق لقوله تعالى (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد/38)

يدعونا إلى الانفاق مما أنعم الله تعالى به علينا من سائر النعم وليس المال فقط، فإن نعمة العلم أهم من المال، فمن حباه الله تعالى بشيء من العلم عليه أن يعلّمه من لا يعلمه فإنه زكاة له وصدقة.

فأنت حينما تقوم بفعل المعروف في أي مجال فإنه يعود بالنفع عليك أولاً قبل من اسديت إليه المعروف، وفي ذلك يقول الإمام الجواد (عليه السلام):

7-    (أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج من أهل الحاجة إليه! لأن لهم أجره وفخره وذكره).

أي له خير الدنيا والآخرة مضافاً إلى أن ما حصل عليه صاحب الحاجة شيء يفنى، أما ما حصل عليه المعطي فهو شيء باقٍ مذخور له عند الله تبارك وتعالى.

ولنستمع إلى مزيد من مواعظه (عليه السلام) مصداقاً للعنصر الثالث المتقدم.

8-  قال (عليه السلام) (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان ابليس..).[13]

لأن العبادة تعني الطاعة والانقياد، فالإنصات إلى الناطق نوع من الانقياد فلينظر الإنسان إلى من يأخذ منه ونوع الكلام ومضمونه، وليعلم من يستمع إلى الغناء أو الغيبة أو الكلام البذيء أو تسقيط المؤمنين وتشويه صورتهم ونحوها أنه دخل في طاعة إبليس وعبادته.

وإذا كان للانصات هذا التأثير فما هي أهمية الكلمة نفسها وما مسؤولية المتكلم عمّا يصدر عنه من كلمات قد تؤدي إلى ما تؤدي من نتائج.

9-    قال (عليه السلام) (العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء).

هذا الظلم الذي وصف في الأحاديث أنه (ذنب لا يترك) لا يختص بمسؤولية من قام به بل يشترك معه من دفع إليه بكلمة أو فعل أو تحريض أو تشجيع أو تزيين أو خداع أو دعم مادي أو معنوي أو فتوى بلا حجة شرعية ونحوها، كما ورد في بعض الروايات أن شخصاً يؤتى به يوم القيامة وتقدّم له قارورة من دم ليحاسب عليها فيقول يا إلهي أنا لم أقتل ولم أسفك دماً في حياتي كلها، فيقال له هذا حصتك من دم فلان الذي قُتل ظلماً لأنك شاركت في دمه بكلمة قلتها.

بل الأمر أخطر من ذلك فإن من بلغه ذلك ورضي به ولم ينكره بقلبه على الأقل فهو شريك له، وإذا أردنا أن نذكر أمثلة على هذه الشراكة في الظلم من واقعنا، فيقف على رأسه ما يقوم به السياسيون والمتصدون لإدارة البلاد، وان شئت ثنّيت بما يجري بين العشائر من سنائن وقوانين ما أنزل الله بها من سلطان أهانت الإنسان وسلبته كرامته وحريته وماله وشرفه فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

10-                       وقال (عليه السلام) (من استفاد أخا في الله فقد استفاد بيتاً في الجنة).

وهذا الحديث يحفّزنا كثيراً على التحرك في المجتمع لكسب الناس إلى الدين وإرجاعهم إلى الله تبارك وتعالى ما دام ثمن كسب أخ مؤمن واحد هو هذا العطاء العظيم.

إن امرأة فرعون تحمّلت تعذيباً قاسياً من دق جسّدها بالمسامير وصلبها وتعليقها وهي صابرة محتسبة حتى قضت شهيدة، وكان طلبها (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) (التحريم/11) وبغضّ النظر عن كون البيت (عندك) فإننا قد اُعطينا نفس الفرصة من دون ذلك الثمن الباهظ فنستطيع الحصول على بيت في الجنة بأن تكسب أخاً في الله تعالى وتهديه إلى الحق.

فليستثمر الشباب والطلبة الجامعيون هذه الفرصة وليتحركوا داخل أوساطهم وعلى أقرانهم ليرشدوهم ويخرجوهم من حالة الفسق والانحراف الذي نسمع عن تفشه داخل أوساط الجامعات، وليتحرك كل جنس على جنسه بالطريقة التي أوصى بها الله تعالى (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل/125) كدعوته إلى مائدة طعام أو تزويده بمحاضرات فاتته أو أن تشرح له محاضرة لم يفهمها ونحوها من الأساليب التي تكسب بها مودته وتدخل إلى قلبه فيأخذ منك النصيحة وتكون مصداقاً للعنصر الثالث المتقدم بفضل الله تبارك وتعالى.

 


[1] من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من طلبة كلية الطب في جامعة البصرة وجمع من أطباء ومثقفي وأكاديميي مدينة العمارة ووفد من شيوخ عشائر ناحية الفجر في محافظة ذي قار يوم السبت 26 ذ.ق 1433 المصادف 13/10/2012.

[2] منتخب ميزان الحكمة 533 رقم 5350.

[3] نهج البلاغة، الكتاب: 31.

[4] ميزان الحكمة: 9/ 460.

[5] تحف العقول: 336.

[6] ميزان الحكمة: 9/ 460.

[7] الكافي: 2/336 ح4.

[8] تحف العقول: 337.

[9] مفاتيح الجنان: 172 في فضل شهر رجب وأعماله، الفقرة (16).

[10] ميزان الحكمة: 9/460.

[11] عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 2/24، ح2.

[12] منتخب ميزان الحكمة: 349ح 3343.

[13] تحف العقول: 336.