خطبتا صلاة عيد الاضحى المبارك

| |عدد القراءات : 7037
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسمه تعالى

تطرق سماحة المرجع اليعقوبي - دام ظله – في الخطبة الأولى الى موضوع ذكر الله تبارك وتعالى وأهميته في حياة الأنسان وذكر عدة وجوه ومستويات لمعنى الذكر الوارد في القران الكريم واحاديث اهل البيت -عليهم السلام –

وخلاصتها :

ان يكون الأنسان في جميع أحواله الفردية و الاجتماعية مطيعا لله تبارك وتعالى .

وتطرق سماحته الى جزاء الذكر وأثاره العملية في حياة الذاكر باستعراض الشواهد من القران الكريم واحاديث اهل بيت العصمة عليهم السلام .

وفي ختام الخطبة تعرض سماحته لبيان مصاديق الذكر وحقيقته وبيّن الخسارة المترتبة على الغفلة والإعراض عنه .

وفي الخطبة الثانية : تطرق سماحته الى كيفية تحويل الحرام الى حلال في حياتنا والتخلص من الأثار السلبية للحرام في الدنيا و الآخرة وما يتطلبه ذلك من التفقه في الدين واليقظة والالتفات حذر الوقوع في الحرام في تعاملاتنا .

وأشار سماحته الى اللازمة المالية الأخيرة التي عصفت بأمريكا واوربا وخطر الربا الذي يقف وراءها ، وان الحل في تقنين التعاملات وفق النظام الإسلامي والذي التفتوا اليه مؤخرا وما في ذلك من دلالة على خلود هذا النظام وقدرته على قيادة المجتمع البشري

 

 

واليكم نص الخطبتين

الخطبة الأولى :

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الذِكر زينة العيد([1])

          الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سادة خلقه أجمعين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين

          الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أولانا.

          من مستحبات العيد التزيّن، والمعنى المعروف منه هو التزيّن الظاهري الشكلي ولا بأس به، لكن أهل البيت (عليهم السلام) يدلّوننا على المعنى الحقيقي الواعي للتزين؛ روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله: (زيّنوا أعيادكم بالتكبير) وعنه (صلى الله عليه وآله): (زيّنوا العيدين بالتهليل والتكبير والتحميد والتقديس)([2]).

          وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (أكثروا من التهليل والتكبير فإنه ليس شيء أحبَّ إلى الله من التكبير والتهليل)([3])، ويشرح الإمام (عليه السلام) معنى التكبير في رواية عن أحد أصحابه قال: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): أي شيء الله أكبر؟ فقلتُ: الله أكبر من كل شيء، فقال (عليه السلام): فكان ثَمَّ شيء فيكون أكبر منه؟ فقلت: فما هو؟ فقال: الله أكبر من أن يوصف)([4]).

          وفي رواية أخرى (قال رجلٌ عنده: الله أكبر، فقال (عليه السلام): الله أكبر من أي شيء؟ فقال: من كل شيء، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): حدّدته! فقال الرجل: وكيف أقول؟ فقال (عليه السلام): الله أكبر من أن يوصف).

          لقد أولى القرآن الكريم قضية (الذِكر) أي ذكر الله تعالى اهتماماً بالغاً لأهميتها وعظيم آثارها، حتى أن هذه المفردة ومشتقاتها تكررت في عشرات الآيات، والملاحظ أن ورودها في الآيات المكية حوالي ثلاثة أضعاف الآيات المدنية تقريباً حيث كان القرآن المكي يركّز على بناء عقيدة التوحيد وعلاقة المسلم بالله تعالى ونبذ الشركاء والأنداد وتطهير القلب وتهذيب النفس.

          قال تعالى: [وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ] (آل عمران:41) وقال تعالى: [وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ] (الأعراف:205) وقال تعالى: [وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ] (الكهف:24)، وقال تعالى: [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ] (البقرة:152) وقال تعالى: [وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ] (البقرة:203)، وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ] (الأحزاب:9)، وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً] (الأحزاب: 41-42)، وقال تعالى: [وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (الجمعة : 10) وقال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ] (الأعراف : 201) وقال تعالى: [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ] (آل عمران:191) وقال تعالى: [الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] (الرعد : 28) وقال تعالى: [إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ] (العنكبوت:45) وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ] (المنافقون : 9) وقال تعالى: [وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً] (المزمل:8).

          وجاءت الأحاديث الشريفة لتؤكد هذه الأهمية، وتدعوا المؤمنين إلى ذكر الله تعالى على كل حال، ففي الخصال عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا علي سيد الأعمال ثلاث خصال: إنصافك الناس من نفسك، ومواساتك الأخ في الله عز وجل، وذكر الله تعالى على كل حال)، وروى الحسن بن علي (عليهما السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بادروا إلى رياض الجنة، فقالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حَلَقُ الذِكر)([5]).

          ونفهم من (على كل حال) عدة مستويات وكلها صحيحة ومستفادة من الآيات المتقدمة:

1-   أي في كل زمان وفي كل آن، كما في الآية (41 من آل عمران) [بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ] و (الآية 205 من الأعراف) [بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ] عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (مكتوب في التوراة أن موسى سأل ربه فقال: إني أكون في حال أُجِلُّك أن أذكرك فيها، قال: يا موسى اذكرني على كل حال وفي كل أوان)([6]).

2-   أي في كل وضع من أوضاع الإنسان قائماً وقاعداً وعلى جنوبهم كما في (الآية 191 من آل عمران) [قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ]، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (لا يزال المؤمن في صلاة ما كان في ذكر الله قائماً كان أو جالساً أو مضطجعاً إن الله تعالى يقول: [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ]).

3-   في كل مكان وموضع كان فيه، عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن سمعت الأذان وأنت على الخلاء فقل مثل ما يقول المؤذن ولا تدع ذكر الله عز وجل في تلك الحال لأن ذكر الله حسن على كل حال) ثم ذكر (عليه السلام) المكتوب في التوراة أعلاه، وفي كتاب الخصال في حديث الأربعمائة قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (اذكروا الله في كل مكان فإنه معكم، وقال (عليه السلام): (أكثروا ذكر الله عز وجل إذا دخلتم الأسواق وعند اشتغال الناس فإنه كفارة للذنوب وزيادة في الحسنات ولا تُكتبوا من الغافلين)([7]).

4-   في كل قضية تعرض لك وكل معاملة وكل قضية، فإن كان فيها رضا الله سبحانه فعلتها، وإلا تركتها، روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (ألا أحِّدثك بأشد ما فرض الله عز وجل على خلقه، قلتُ بلى، قال، قال: إنصاف الناس من نفسك مواساتك لأخيك وذكر الله في كل موطن، أما إني لا أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر –وإن كان هذا من ذاك- ولكن ذكر الله في كل موطن إذا هجمت على طاعته أو معصيته)([8]). وفي حديث آخر عنه: (وذكر الله على كل حال فإن عرضت له طاعة لله عمل بها وإن عرضت له معصية تركها)([9]).

5-   في كل حال من أحوال النفس من الغضب أو الرضا، والفرح أو الحزن، والغم والضيق أو الانشراح والسرور، روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (يقول الله عز وجل: يا ابن آدم، اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب، ولا أمحقك في من أمحق)([10]). وفي حديث: (إنما المؤمن الذي إذا غضب لم يخرجه غضبه من حق وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل وإذا قدر لم يأخذ أكثر مما له)([11]).

6-   أن يُعِدَّ لكل حالٍ ذِكره الخاص به، فللنعمة ذكر وللمصيبة ذكر وللقتال ذكر وللوضوء ذكر ولتناول الطعام ذكر وللنوم ذكر وللنكاح ذكر وللتخلي ذكر ولركوب السيارة ذكر، وهكذا، وهذا معنى شرحناه مفصلاً في كتاب (شكوى القرآن).

 

          وخلاصة الوجوه أن معنى الذكر الكثير أن يكون الإنسان في جميع أحواله مطيعاً لله تبارك وتعالى، عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) (قال النبي (صلى الله عليه وآله): من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته، ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته)([12]).

 

جزاء الذكر وآثاره وفضل مجالس الذكر:

          فضل مجالس الذكر: كهذا الحشد الذي نذكر فيه الله تعالى، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة منها:-

1-               عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (ما جلس قومٌ يذكرون الله إلا ناداهم منادٍ من السماء: قوموا فقد بدّلتُ سيئاتكم حسنات وغفرت لكم جميعاً، وما قعد عدة من أهل الأرض يذكرون الله إلا قعد معهم عدة من الملائكة).

2-               وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج على أصحابه فقال: (ارتعوا في رياض الجنة، قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر، اغدوا وروحوا واذكروا، ومن كان يحبّ أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن الله تعالى ينزل العبد حيث أنزل العبدُ اللهَ من نفسه، واعلموا أن خير أعمالكم عند مليككم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله تعالى، فإنه تعالى أخبر عن نفسه فقال: أنا جليس من ذكرني).

3-               وعن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) (أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل في الفارّين والمقاتل في الفارّين نزوله الجنة)([13]) فأكثر اجتماعات الناس تتخللها أحاديث فارغة لا جدوى منها، وقد تتضمن محرمات، فمن يلتفت حينئذٍ إلى ذكر الله تعالى يكون من أهل هذا الحديث.

4-               وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (البيت الذي يُقرأ فيه القرآن ويذكر الله فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين ويضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض) ولتلافي الغفلة التي تحصل في بعض المجالس والأحاديث، فقد ورد استحباب أن يقول الشخص عند قيامه من المجلس: [سُبحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى المُرسَلِينَ، وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ].

 

          جزاء الذكر وآثاره: إن التوفيق لذكر الله تعالى من أعظم النعم على العبد، من دعاء الإمام السجاد (عليه السلام): (إلهي لولا الواجب من قبول أمرك لنزّهتك عن ذكري إياك، على أن ذكري لك بقدري لا بقدرك، وما عسى أن يبلغ مقداري حتى أُجعلَ محلاً لتقديسك، ومن أعظم النعم علينا جريان ذكرك على ألسنتنا) إلى أن يقول (عليه السلام): (وقلتَ وقولك الحق: [فَاذكُرُونِي أذكُركُم] فأمرتنا بذكرك ووعدتنا عليه أن تذكرنا تشريفاً لنا وتفخيماً وإعظاماً، وها نحن ذاكروك كما أمرتنا، فأنجز لنا ما وعدتنا، يا ذاكر الذاكرين)([14]).

          ومما ورد في كتاب الله تعالى:-

1-               ذكر الله سبب لطمأنينة القلب وما أعظمها من نتيجة، قال تعالى: [الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] (الرعد : 28)، ومن آثار الطمأنينة الأُنس، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (ذكر الله ينير البصائر ويؤنس الضمائر) وعنه (عليه السلام): (ذاكر الله مؤانسه) وعنه (عليه السلام): (إذا رأيت الله سبحانه يؤنسك بذكره فقد أحبّك، وإذا رأيت الله يؤنسك بخلقه ويوحشك من ذكره فقد أبغضك).

2-               أنه سبب ليقظة القلب من غفلته، وحياته بعد قسوته، قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ] (الأعراف : 201)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (من ذكر الله استبصر) وعنه (عليه السلام): (من كثر ذكره استنار لبّه) وعنه (عليه السلام): (دوام الذكر ينير القلب والفِكر).

3-               إن الله تعالى يذكر من ذكره، قال تعالى: [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ] (البقرة : 152)، وفي عدة الداعي: (يعني اذكروني بالطاعة والعبادة أذكركم بالنعم والإحسان والرحمة والرضوان، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قال الله تعالى: يا ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في الخلاء أذكرك في خلاء، ابن آدم اذكرني في ملأ أذكرك في ملأ خير من ملأك، وقال: ما من عبد يذكر الله في ملأ من الناس إلا ذكره الله في ملأ من الملائكة)([15]).

4-               إن الذكر سبيل موصل إلى الله تعالى، قال تعالى: [إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً] (المزّمِّل : 19) (الإنسان:29)

 

          أما الأحاديث الشريفة فقد ورد فيها الشيء الكثير:-

1-   إن الذكر يوجب محبة الله تعالى للذاكر، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (يا ربّ وددتُ أن أعلم من تحبُ من عبادك فأحبّه، فقال: إذا رأيت عبدي يكثر ذكري فأنا أذنت له في ذلك وأنا أحبُّه، وإذا رأيت عبدي لا يذكرني فأنا حجبته وأنا أبغضته)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أكثر ذكر الله أحبَّه).

2-   وأن الله تعالى يتولى أمر الذاكر وجميع شؤون حياته في دنياه وآخرته، فكم يكون الإنسان سعيداً حينما يتولى شؤونه محبٌّ له شفيق عليه حكيم بأفعاله عالم بكل شيء إلى غيرها من الأسماء الحسنى، ففي بعض الأحاديث القدسية قال الله تعالى: (أيما عبدٍ اطلعتُ على قلبه فرأيتُ الغالب عليه التمسك بذكري تولّيتُ سياسته وكنتُ جليسَه ومحادثه وأنيسه)، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (قال الله سبحانه إذا علمت أن الغالب على عبدي الاشتغال بي نقلتُ شهوته في مسألتي ومناجاتي، فإذا كان عبدي كذلك فأراد أن يسهو حِلتُ بينه وبين أن يسهو، أولئك أوليائي حقاً، أولئك الأبطال حقاً، أولئك الذين إذا أردتُ أن أهلك أهل الأرض عقوبةً زيتها عنهم من أجل أولئك الأبطال)، وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (إن الله تبارك وتعالى يقول: من شُغِل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي مَن سألني)، وروي فيما ناجى به موسى (عليه السلام) ربَّه عز وجل: (إلهي ما جزاء من ذكرك بلسانه وقلبه؟ قال: يا موسى أُظلُّه بظل عرشي وأجعله في كنفي)([16]).

3-   أنه يوجب الثواب العظيم فعنهم (سلام الله عليهم): (إن في الجنة قيعاناً فإذا أخذ الذاكر في الذكر أخذت الملائكة في غرس الأشجار فربما وقف بعض الملائكة فيقال له: لم وقفت؟ فيقول: إن صاحبي قد فتر، يعني عن الذكر)([17]). وعن أحد الإمامين الصادقين (عليهما السلام) قال: (لا يكتب الملك إلا ما أسمع نفسه وقال الله: [وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً] قال: لا يعلم ثواب ذلك الذكر في نفس العبد لعظمته إلا الله)([18]).

4-   الذكر الطيب، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (من اشتغل بذكر الله طيّب الله ذكره)، ومن وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي ذر قال: (عليك بتلاوة القرآن وذكر الله كثيراً فإنه ذكر لك في السماء ونورٌ لك في الأرض)([19]).

5-   يقيه الكثير من الحوادث، عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الصاعقة لا تصيب ذاكراً لله عز وجل)([20]).

6-   في الذكر إعمار القلب وصلاحه وهذا القلب هو الذي ينجو صاحبه يوم القيامة، من وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام): (أوصيك بتقوى الله أيْ بُني، ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره) وعنه (عليه السلام): (وأصل صلاح القلب اشتغاله بذكر الله) وعنه (عليه السلام): (مداومة الذكر قوت الأرواح ومفتاح الصلاح) وعنه (عليه السلام): (من عمر قلبه بدوام الذكر حسنت أفعاله في السر والجهر).

7-   وبالذكر تحيى القلوب، روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (بذكر الله تحيى القلوب، وبنسيانه موتها)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (اذكروا الله ذكراً خالصاً تحيوا به أفضل الحياة وتسلكوا به طرق النجاة) وعنه (عليه السلام): (من ذكر الله سبحانه أحيى الله قلبه ونوّر عقله ولبّه).

8-   وبه شفاء القلوب، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ذكر الله شفاء القلوب)، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (عليكم بذكر الله فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس فإنه داء)، وفي دعاء كميل: (يا من اسمه دواء وذكره شفاء).

9-   بالذكر يطرد الشيطان، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إن الشيطان واضع خطمه –أي فمه- على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله سبحانه خنس، وإذا نسي التقم قلبه، فذلك الوسواس الخنّاس) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (ذكر الله مطردة الشيطان) وعنه (عليه السلام): (ذكر الله رأس مال كل مؤمن، وربحه السلامة من الشيطان).

10-    وأن في الذكر أماناً من النفاق، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أكثر من ذكر الله فقد برئ من النفاق).

          ولأمير خطبة جامعة في فضل الذكر والذاكرين قالها عند تلاوته (عليه السلام) قولَه تعالى: [رَجَالٌ لا تُلهِيهِم تِجَارَةٌ وَلا بَيعٌ عَن ذِكرِ اللهِ] قال (عليه السلام): (إن الله سبحانه جعل الذكر جلاءً للقلوب، تسمع به بعد الوَقْرة، وتُبصر به بعد العَشوة، وتنقاد به بعد المعاندة، وما برح للهِ عزّت آلاؤه في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات، عبادٌ ناجاهم في فكرهم، وكلّمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظة في الأسماع والأبصار والأفئدة، يذكّرون بأيام الله، ويخوّفون مقامه، بمنزلة الأدلّة في الفلوات، من أخذ القصد حمدوا إليه طريقه، وبشّروه بالنجاة ومن أخذ يميناً وشمالاً ذمّوا إليه الطريق وحذّروه من الهلكة. وكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات وأدلة تلك الشبهات. وإن للذكر لأهلاً أخذوه من الدنيا بدلاً، فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه، يقطعون به أيام الحياة ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين)([21]).

 

من مصاديق الذكر الكثير:

1-   تسبيح الزهراء (عليها السلام) عقب كل فريضة، عن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث يقول في آخره: (تسبيح فاطمة من الذكر الكثير الذي قاله عز وجل: [فَاذْكُرُونِي أَذكُركُم]([22]) وفي رواية أخرى عنه (عليه السلام): إنه (التسبيح في دُبُر كل صلاة ثلاثين مرة)([23]).

2-   وعن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (صلوات الله عليهم وسلامه) قال: (قال النبي (صلى الله عليه وآله) من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته، ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته).

3-   وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: [اذْكُرُوا اللهَ ذِكراً كَثِيراً] قال (عليه السلام): (إذا ذكر العبد ربَّه في اليوم مائة مرة كان ذلك كثيراً)([24]).

4-   وعنه (عليه السلام) قال: (من ذكر الله في السر فقد ذكر الله كثيراً، إن المنافقين يذكرون الله علانية ولا يذكرونه في السر قال تعالى: [يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً] (النساء:142) )([25]).

 

خسارة الغفلة والإعراض عن الذكر:

          قال تعالى: [وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى] (طه: 124-126)، وقال تعالى: [وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ] (الزخرف: 36) وقال تعالى: [وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ] (الحشر:19).

          ومن الروايات المحذِّرة من الغفلة عن ذكر الله تعالى:-

1-   روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (ما من ساعة تمرُّ بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا حسِر عليها يوم القيامة)([26]).

2-   وفي عدة الداعي روى الإمام الصادق (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (ما من قوم اجتمعوا في مجلس فلم يذكروا الله ولم يصلّوا على نبيّهم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا كان ذلك المجلس حسرة ووبالاً عليهم).

3-   وفي تتمة الحديث السابق([27]) عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (والبيت الذي لا يُقرأ فيه القرآن ولا يذكر فيه الله تقل بركته وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين).

4-   وروى الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) قال: (أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى (عليه السلام): لا تفرح بكثرة المال ولا تدع ذكري على كل حال، فإن كثرة المال تنسي الذنوب وترك ذكري تقسي القلوب)([28]).

5-   عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من (نسي الله سبحانه أنساه الله نفسه وأعمى قلبه)([29]).

 

حقيقة الذكر:

          قالوا: إن الذكر بمعنى الحفظ، إلا أن الاختلاف بينهما باللحاظ، فيقال الحفظ باعتبار إحراز المحفوظ، والذكر يقال اعتباراً باستحضاره.

          وأقول: إنه تارةً يراد بالذكر معناه المصدري فيكون معناه حضور الشيء في القلب أو على اللسان، وتارة يراد به المعنى اسم المصدري، فيعبر عن قابلية عقلية وقلبية بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة.

          والمعنى الحقيقي لذكر الله تعالى هو حضوره في القلب والالتفات إليه لأنه الذي تتحقق به الآثار، أما حركة اللسان به فهي تعبير وكاشف عنه ومظهر ومبرز له، وليست ذكراً حقيقياً إلا من باب ذكر الدال وإرادة المدلول به، ولا تترتب الآثار المتقدمة عليه وحده.

          أترى لو أن إنساناً كان له حصن يحميه من عدوه فهل يكفيه أن يكرّر: أعوذ بهذا الحصن من عدوي لحمايته من العدو إذا هجم عليه، أم المطلوب الدخول فعلاً في الحصن، وهكذا كل الأذكار لها حقائق تترتب عليها الآثار ولا يكفي مجرد لقلقة اللسان، كما في الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة لرجل قال بحضرته: أستغفر الله، فعلّمه الإمام (عليه السلام) حقيقة الاستغفار.

          لكن الله تعالى بكرمه جعل ثواباً حتى على مجرد تحريك اللسان بالذكر وإن كان ليس ذا قيمة مقابل ما يقترن بالذكر القلبي، لذا لا ينبغي الالتفات إلى ما يقوله بعض الصوفية من أن الذكر باللسان دون حضور القلب لا قيمة له وتركه أولى، فهذا من تسويلات الشيطان؛ لأن لكل جارحة ذكراً، والذكر اللساني يحقق طاعة بمقداره ويصونه من استعماله في المعاصي اللسانية بمقداره أيضاً، وفيه إرغام للشيطان ولو بأدنى مستوياته فلا ينبغي تركه.

          يقول السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عن قيمة الذكر القلبي إنه ((من أعظم الرياضات التي توصل إلى المدارج والمقامات التي فوقه بلطف الله سبحانه. وإن من أفضل أشكال الذكر القلبي هو استحضار مضمون الأسماء الحسنى ذات المدلول الطيب أعني ليس من قبيل (شديد العقاب) و (ذو الانتقام) ونحوها، بل نحو (العظيم) و (الرحيم) و (الحليم) و (الغفور) و (الشكور) وغيرها.

          ثم التفكير في الخلق الذي يرجع إلى مضمون مجموعة أخرى من الأسماء الحسنى كالخالق والرازق والمدبّر والمنعم والمعطي والحنّان والمنّان ونحوها.

          ثم التفكير في شأن الفرد أمام خالقه من القصور والجهل والذنب والتقصير وحسن الظن به تبارك وتعالى وكونه محل لطفه ونعمه وسبحانه ونحو ذلك))([30]).

 

مجالس أهل البيت (عليهم السلام) من الذكر:

          ومن حلق الذكر التي وصفتها الأحاديث الشريفة بأنها رياض الجنة: المجالس التي تعقد لذكر فضائل أهل البيت (عليهم السلام) ومصائبهم، وللوعظ والإرشاد وتعليم أحكام الشريعة، عن الباقر (عليه السلام) قال: (ليس من عبد يذكر عنده أهل البيت فيرق لذكرنا إلا مسحت الملائكة ظهره وغفر له ذنوبه كلها، إلا أن يجيء بذنب يخرجه من الإيمان)([31])، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (شيعتنا الرحماء بينهم، الذين إذا خلوا ذكروا الله (إن ذِكرنا من ذكر الله) إنّا إذا ذُكرنا ذُكر الله وإذا ذُكر عدونا ذُكر الشيطان)([32]).

 

الخطبة الثانية :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين

 كيف نحول الحرام إلى حلال في حياتنا([33])

(المصارف الأهلية نموذجاً)

 

          إن كثيراً من المحرمات التي يرتكبها الإنسان في حياته، يتمكن من تحصيل نفس النتائج بطريق محلل فتتحول نتائجها من التأثير السلبي إلى الإيجابي، لكنه لقلّة تفقّهه وعدم جدّيته في السير على وفق ما أراده الله تبارك وتعالى فإنه لا يوفّق لذلك ويتورط في المعاصي ويبتلي بآثارها في الدنيا والآخرة.

          في رواية صحيحة عن عبد الرحمن بن الحجاج عن الإمام الصادق ع قال: (قلتُ له: أشتري ألف درهم وديناراً بألفي درهم، فقال: لا بأس بذلك، إن أبي كان أجرأ على أهل المدينة مني، فكان يقول هذا فيقولون: إنما هذا الفرار، لو جاء رجل بدينار لم يُعطَ ألف درهم، ولو جاء بألف درهم لم يُعطَ ألف دينار، وكان يقول لهم: نِعمَ الشيء الفرار من الحرام إلى الحلال)([34]).

          وفي رواية أخرى صحيحة عن الإمام الصادق تتحدث عن نفس الحالة، قال عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان محمد بن المنكدر([35]) يقول لأبي (عليه السلام): يا أبا جعفر رحمك الله، والله إنّا لنعلم أنك لو أخذت ديناراً والصرف بثمانية عشر فدُرتَ المدينة على أن تجد من يعطيك عشرين ما وجدته، وما هذا إلا فرارٌ، فكان يقول: صدقت والله ولكنه فرارٌ من باطل إلى حق)([36]).

          فالإمام (عليه السلام) يقول لا بأس بمثل هذه المعاملة بأن يبيع ألف درهم وديناراً بألفي درهم، أي يكون مقابل الدينار ألف درهم مع أن سعر الصرف هو عشرة دراهم للدينار فتوهم المعترض أن نتيجته كالربا، إلا أن الإمام (عليه السلام) يقول: هذا شيء حسن أن تحصل على النتيجة المطلوبة بطريقة محللة وتفرّ من الوقوع في الحرام.

          وفي معاملة أخرى يخفى أيضاً على غير المتفقه الفرق بين الحرام والحلال، لكن الإمام (عليه السلام) يبين له الفرق حتى يتعلم كيف يحوِّل المعاملات المحرمة إلى محللة ويقننها وفق الشريعة.

          ففي رواية عن خالد بن الحجاج قال: (قلت لأبي عبد الله: الرجل يجيء فيقول: اشتر هذا الثوب وأربحك كذا وكذا، قال (عليه السلام): أليس إن شاء ترك، وإن شاء أخذ؟ قلت: بلى، قال: لا بأس به إنما يُحلُّ الكلام، ويحرِّم الكلام)([37]).

          فالبعض يتصور أنه لا يحق للشخص أن يأخذ ربحاً على البضاعة التي يشتريها لشخص بناءً على رغبته أو طلبه والإمام (عليه السلام) يجيب أن هذه المعاملة لها حالتان، إحداهما محللة والأخرى محرمة، فالمحلّلة أن تشتري لنفسك بحيث يكون الآخر مخيّراً بين المضي في رغبته بالشراء أو عدمها ثم تبيعها له بالربح الذي تشاء، والمحرّمة أن تشتري وكالة عنه وبأمره بحيث يكون الشراء له وهو ملزم بأخذها لأنك مجرد وكيل له وهنا لا يجوز أخذ زيادة على ثمن شرائها.

          والفرق بين الحالتين هو صيغة الاتفاق كما هو واضح لذا عبَّر عنه (عليه السلام) بأن الذي يحلل ويحرّم هو الكلام أي صيغة الاتفاق على العقد باعتبار أن الكلام هو المعبِّر عن القصد.

          هكذا كان الأئمة يفقّهون أصحابهم ويرشدونهم إلى ما يصحح سلوكياتهم على طبق الشريعة المقدسة، وكان الأصحاب يلجأون إليهم (سلام الله عليهم) ليعلّموهم كيفية تحصيل النتائج التي يريدونها بطريقة محللة؛ لأن الفاصل بين الحرام والحلال يكون أحياناً أدقّ من الشعرة وأخفى من دبيب النمل بين الصخور.

          في رواية أن رجلاً (كتب إلى العبد الصالح –أي الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام)- يسأله أني أعامل قوماً أبيعهم الدقيق أربح عليهم في القفيز درهمين إلى أجل معلوم، وإنهم سألوني أن أعطيهم عن نصف الدقيق دراهم، فهل من حيلة لا أدخل في الحرام؟ فكتب إليه: أقرضهم الدراهم قرضاً وازدد عليهم في نصف القفيز بقدر ما كنت تربح عليهم)([38]).

          خلاصة المسألة أن هذا الشخص يبيعهم كمية من الطحين بالآجل ويزيد على سعره النقدي درهمين، وربما احتاج المشتري إلى شيء من المال فيبيع بعض الطحين الذي اشتراه على نفس البائع بسعر أقل، فكأن البائع حصل على فرق الدراهم وعاد الطحين إليه فيكون فيه شبهة خصوصاً إذا لم يُسلّم البائع هذا المقدار من الطحين إلى المشتري وإنما باعه واشتراه في الذمة فقط فعلّمه الإمام (عليه السلام) الطريقة التي ذكرها في الجواب.

          من هذه الروايات نتعلم درساً في أن نكون يقظين ملتفتين في تعاملاتنا حذر الوقوع في الحرام، وأن نتفقه في الدين ونسأل لنعرف كيفية التخلص من الحرام وتحصيل النتيجة من طريق الحلال.

          أليس إن كثيراً من الذين يقيمون علاقات شرعية مع الجنس الآخر كان يمكنهم تحويل الحالة إلى حلال بإجراء العقد المنقطع عليها إذا لم يكن مانع منه، ولا يقعون في هذه المحرمات المشينة لو كان عندهم صدق وإخلاص وسؤال عن أمور دينهم، لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (لولا نهي فلان عن المتعة ما زنى إلا شقي).

          ونريد الآن أن نستفيد من هذه الأفكار لمعالجة قضية حيوية واسعة الابتلاء من واقعنا المعاصر وهي البنوك الأهلية التي تعتمد في استرباحها على منح القروض الربوية للناس فيقع المتعاملون بها في هذا الرجس الخبيث الذي حرّمه الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال تعالى: [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ] (البقرة:275) وقال تعالى: [يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ] (البقرة: 276).

          ومما ورد في الربا رواية صحيحة عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (درهم ربا عند أعظم عند الله من سبعين زنية كلها بذات محرم في بيت الله الحرام)([39])، والعقوبة لا تختص بأكل الربا فقط وإنما تعمّ كل من ساهم فيه، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (الآخذ والمعطي سواء في الربا)([40]) وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) الربا وآكله وبائعه ومشتريه وكاتبه وشاهديه)([41]).

          ولا نريد هنا أن نتحدث عن أضرار الربا التدميرية في المجتمع لكثرة من كتب وتكلم في ذلك، حيث انهارت دول بسببه مصداقاً للحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا أراد الله بقومٍ هلاكاً ظهر فيهم الربا)([42]).

          ومن الشواهد القريبة ما حصل مؤخراً في الأزمة المالية التي بدأت بأمريكا عام 2009 وعصفت بأوربا ولا زالت دول –كاليونان- مهددة بالإفلاس، وبعد التحليل والدراسة اعترفوا بأن سبب المشكلة هي الفوائد الربوية، وقد وجدوا أن المصارف الإسلامية كانت بمأمن من هذه الأزمة رغم قساوتها؛ لذا تضاعف الإقبال على هذه المصارف حتى من غير المسلمين، بل دعت بعض الدول الغربية –كألمانيا- إلى اعتماد النظام الإسلامي في المصارف.

          ونقول لأصحاب هذه المصارف أنه يمكنكم تقنين عملكم على وفق الشريعة فتتخلصون من هذا الإثم العظيم مع تحصيل نفس الفائدة، ونقدّم هنا طريقتين ليس فيهما أي تعب لأنهما تُنفّذان بالكلام فقط، وقد مرّ قول الإمام (عليه السلام): (إنما يُحلّ الكلام ويحرّم الكلام) وهما:

          (الأولى) إذا كان الزبون طالب المال يريد شراء عقار أو سيارة أو بضاعة ونحوها فبدلاً من أن يعطيه المصرف مليون دينار ويطالبه بمليون ومائة ألف دينار مثلاً ضمن أقساط معينة، يقوم المصرف بشراء البضاعة بمليون دينار ويبيعها بمليون ومائة ألف دينار على صاحب الطلب بالتقسيط الذي يريده المصرف وبالزيادة التي يطلبها.

          (الثانية) إذا كان الزبون يريد مالاً فلا يتم قرضه مباشرة وإنما يبيعه عملة أخرى كالدولار أو اليورو بالآجل بزيادة النسبة التي يريدها ويشتريها منه نقداً، مثلاً أراد الزبون قرضاً مقداره ستة ملايين دينار وهي سعر (5000) دولار نقداً ويريد المصرف أن يحصل فائدة مليون دينار لمدة سنتين، فيقوم المصرف ببيع خمسة آلاف دولار بسعر سبعة ملايين دينار بالآجل وفق الجدول الزمني المقرّر، فيثبت هذا المبلغ في ذمة الزبون، والدولارات في ملكه ثم يشتريها المصرف منه بستة ملايين دينار نقداً فتعود الدولارات إلى المصرف ويحصل الزبون على المبلغ الذي أراده وهو ستة ملايين دينار ويبقى مديناً بالملايين السبعة للمصرف، والعملية لا تأخذ أزيد من دقيقة واحدة في القبض والإقباض.

          إننا نرى من واجبنا نصح وإرشاد الناس وإنقاذهم من طاعة شياطين الجن والإنس وما يبتدعونه من الضلالات والعياذ بالله.

          وهذه الحلول نقدّمها للتخلص من الحرام، والمطلوب منّا أكثر من ذلك وهو أن نفعل ما فيه رضا الله سبحانه من خلال القرضة الحسنة الخالية من الفائدة، والاسترباح من خلال العمل المثمر وأهم أفراده التجارة، أما الاسترباح من نفس المال من دون عمل فهو أمر مرجوح شرعاً حتى لو كان حلالاً، فالطريقة الأولى أفضل من الثانية، لذا كُرِه بيع الصرف وهو بيع العملات ببعضها.

          عن الإمام الباقر (عليه السلام): (إنما حرَّم الله عز وجل الربا لئلا يذهب المعروف)([43])، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) –لمّا سأله هشام بن الحكم عن علّة تحريم الربا-: (أنه لو كان الربا حلالاً لترك الناس التجارات وما يحتاجون إليه فحرّم الله الربا لتفرّ الناس عن الحرام إلى التجارات وإلى البيع والشراء فيتصل ذلك بينهم في القرض)([44]).

          إن استيعاب النظام الإسلامي لهذه التعاملات وتقنينها وفق الأُطر الشرعية دليل على خلوده وقدرته على قيادة المجتمع البشري في كل حين وإدارة جميع شؤونه، بل له القدرة على التعايش مع النظم الوضعية حتى مع إقصائه عن قيادة المجتمع [قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ] (يونس : 58).

 

عيد الاضحى

([1])  الخطبة الأولى لصلاة عيد الأضحى المبارك التي أقامها سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي دام ظله يوم الجمعة الموافق 26/10/2012.

([2]) ميزان الحكمة: 6/323، باب 2962.

([3]) ثواب الأعمال: 18، باب ثواب لا إله إلا الله، ح13.

([4]) الحديث والذي يليه في معاني الأخبار: 11

([5]) معاني الأخبار: 321، أمالي الصدوق: 297، المجلس 58، ح2.

([6])  هذا الحديث وما بعده بحار الأنوار: 93/160.

([7])  الخصال: 2/614، باب الأربعمائة، ح10.

([8])  معاني الأخبار: 192.

([9])  أمالي الطوسي: 88، المجلس (3)، ح135.

([10])  أمالي الطوسي: 279، المجلس (10) ح 532.

([11])  الكافي: 2/183.

([12])  معاني الأخبار: 399.

([13])  المحاسن: 1/110، ح99.

([14])  مفاتيح الجنان: 206، المناجاة (13) مناجاة الذاكرين.

([15])  أكثر الأحاديث المذكورة نقلناها عن مصادرها بواسطة: بحار الأنوار: 93/148-175، وميزان الحكمة: 3/341-360.

([16])  أمالي الصدوق: 173، المجلس (37) ح8.

([17])  بحار الأنوار: 93/162-164.

([18])  بحار الأنوار: 93/159، ح36.

([19])  معاني الأخبار: 334، الخصال: 2/525، أبواب العشرين وما فوقه، ح13.

([20])  أمالي الصدوق: 375، المجلس (71) ح3.

([21])  نهج البلاغة.

([22])  معاني الأخبار: 194.

([23])  ميزان الحكمة: 3/344، ويحتمل أن المقصود به هنا (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله الأكبر).

([24])  بحار الأنوار: 93/160، ح38.

([25])  بحار الأنوار: 93/160، ح41.

([26])  ميزان الحكمة: 3/344.

([27])  مرّ الحديث في كلام سماحته في النقطة الرابعة من (فضل مجالس الذكر) وهو قول الإمام الصادق (عليه السلام): (البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله فيه تكثر بركته ..) الحديث.

([28])  الخصال: 1/39، باب الاثنين، ح23.

([29])  غرر الحكم : 8875.

([30])  قناديل العارفين: 148.

([31])  سفينة البحار: 3/207.

([32])  الكافي، ج2، باب تذاكر الإخوان، ح1.

([33])  الخطبة الثانية لصلاة عيد الأضحى المبارك يوم الجمعة الموافق 26/10/2012.

([34])  وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 6، ح1.

([35])  قرشي تيمي من علماء العامة المعروفين عندهم أدرك جمعاً من الصحابة.

([36])  وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب 6، ح2.

([37])  وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، باب 8، ح4.

([38])  وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، باب 9، ح7.

([39])  وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الربا، باب 1، ح1، وفي كتاب من لا يحضره الفقيه: 4/367، ح5762.

([40])  ميزان: 3/425.

([41])  وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الربا، باب 4، ح2.

([42])  وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الربا، باب 1، ح17.

([43])  وسائل الشيعة: 12/425، ح10.

([44])  بحار الأنوار: 103/119، ح24.