خطاب المرحلة (288)... البنية التحتية للإنسان

| |عدد القراءات : 1370
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

البنية التحتية للإنسان([1])

          روى الشيخ الصدوق (رض) في كتابه (من لا يحضره الفقيه) بسند صحيح عن أبي هاشم الجعفري([2]) أنه قال: (أصابتني ضيقة شديدة فصرت إلى أبي الحسن علي بن محمد (ع) فاستأذنت عليه فأذن لي فلما جلستُ قال: يا أبا هاشم أيُّ نعم الله عليك تريدُ أن تؤديَّ شكرها؟ قال أبو هاشم: فوجمت فلم أدرِ ما أقولُ له، فابتدأني (ع) فقال: أن الله عز وجل رزقك الإيمان فحرّم به بدنك على النار، ورزقك العافية فأعانك على الطاعة، ورزقك القنوع فصانك عن التبذل، يا أبا هاشم إنما ابتدأتك بهذا لأني ظننت أنك تريدُ أن تشكو لي من فعل بك هذا، قد أمرتُ لك بمائة دينار فخذها) (من لا يحضره الفقيه/ 796 ح 5863).

          بدأت حديثي بهذه الرواية لأنني قرأت في عيونكم قلقاً على مستقبلكم من حيث صعوبة الحصول على وظيفة حكومية اليوم حيث أصبحت ملكاً للأحزاب المتسلطة، وقلقاً على مستقبل البلد حيث تحدّث الأخ في كلمته التعريفية عن إناطة مواقع المسؤولية بأُناس غير كفوئين ولا مخلصين لبلدهم وشعبهم بل إن كثيرين منهم مزورون لشهاداتهم وهمهم ملأ بطونهم وأرصدتهم من المال الحرام.

          وهذا القلق مشروع ومستحسن على كلا الصعيدين أي إيجاد فرصة العمل المناسبة للكسب المشروع وتمكين الرجل المناسب من الموقع المناسب، فهذا سلمان الفارسي الذي قال فيه رسول الله (ص): (سلمان منا أهل البيت) لما استغربوا منه ادخار بعض المواد لمؤونته في البيت وهو الزاهد في الدنيا، قال (إن النفس إذا أحرزت رزقها اطمأنت)، ولأن كل غيور على بلده وشفيق على إخوانه يحب لهم أن يكونوا سعداء بأفضل حال ويتمتعون بالحرية والكرامة والرفاه التي هي من حقوق كل إنسان.

          أيها الأحبّة: رويت لكم هذا الحديث لأخفف عنكم هذا القلق ولألفت نظركم إلى وجود نعم هي أعظم من كل ما تفكرون به لكن الإنسان يغفل عنها لاعتياده عليها، فيكون تذكرها جزءاً من الحل لأنه يسلّي النفس وينعش الروح ويزرع الأمل بغدٍ أفضل ويرقي الطموح، ولنسدّ على إبليس والنفس الأمّارة بالسوء وشياطين الإنس منافذ إقناع الإنسان بسوء الظن بالله تعالى الرب الرحيم الكريم الحكيم العليم –وهذا ما توخّاه الإمام الهادي (ع) عندما ابتدأ أبا هاشم الجعفري بهذه الكلمات لأنه (ع) نظر إليه بعين الله تعالى وقرأ فيه القلق والتبرّم من الحال، والشكوى من تقدير الله تعالى بسبب الغفلة عمّا أنعم به من نعم عظيمة لا تُعدّ ولا تُحصى.

          فيذكّر (ع) أن ربّك الذي تريد أن تشكوه أعطاك الإيمان بالله وما يتبعه من الإيمان برسوله وبولاية أهل البيت (ع) المنجية من النار ومفتاح كل خير، وأعطاك الصحة والعافية التي بها قوام السعادة في الدنيا والآخرة، وأعطاك الكرامة والتفضيل على سائر مخلوقاته (ولقد كرّمنا بني آدم) هذه النعم هي أصول كل النعم الأخرى ولا تهنأ حياة الإنسان إلا بها مهما تكاثرت النعم الأخرى، أي أن هذه الثلاث يصلح أن نسميها بمصطلح اليوم (البنية التحتية للإنسان)، وهي ما يستحق أن يفرح الإنسان بحصوله عليها ويحزن إذا فقدها.

          نحن الآن في يوم الجمعة وبعد الظهر وهي ساعة مباركة، وفي سورة الجمعة يقول الله تبارك وتعالى بعد قوله [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] إلى أن قال تعالى [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] (الجمعة: 2 -4) وقال تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] (يونس: 58) فتزكية النفس وتطهير القلب والمعرفة بالله تعالى وتدبير شؤون الحياة بالحكمة هو الفضل الحقيقي من الله تعالى الذي يُفرح به.

          وعلى هذه البنية التحتية ومن هذه الأصول تنطلق الأمور الأخرى فتتوفر عندك هذه المحبة للناس والسعي لإسعادهم، وهذا الإخلاص والجد والهمة العالية والنزاهة في العمل، وهذه الغيرة على البلد وشعبه، وهذا الإبداع وإيجاد كل ما هو أفضل، وهذا الطموح المشروع الذي لا يقف عند حد لأن الكمال لا متناهي.

          وهذا الحديث الشريف يحمّلنا عدة مسؤوليات أمام هذه النعم التي سميناها بالبنية التحتية وهي:

1-  المحافظة عليها وتعزيزها وتنميتها وتعميقها في النفس والروح والعقل والجسد، وعدم الغفلة عنها والانشغال بأمور أخرى مهما تبدو مهمة فإنها ليست بأهمية هذه.

2-  إنكم على أبواب التخرج وتحملون شهادات تؤهلكم لفرص عمل جيدة، و ستعرض عليكم مثل هذه الفرص إن عاجلاً أو آجلاً بإذن الله، فعليكم أن تختاروا من تلك الفرص ما لا يتنافى وهذه النعم مهما كانت العروض مغرية، فإنها صفقة خاسرة أن تُشترى دنيا زائلة فانية بدين قويم يوجب السعادة الأبدية، فراقبوا ربّكم وحاسبوا أنفسكم وكونوا أمناء على ما ائتمنكم عليه.

3- أن لا تكرّسوا كل اهتمامكم في تحصيل الوظيفة، فإن مؤسسات الدولة لا تستطيع أن تستوعب كل الشعب في الوظائف الحكومية فعليكم أن تعملوا عقولكم المبدعة لإيجاد منافذ للكسب المشروع في ما يسمى بالقطاع الخاص، وقد تناولنا أهمية هذا التوجه في أحد خطاباتنا السابقة([3]).

          إن وجود أمثالكم بين أبناء الشعب يجدّد فينا الأمل بغدٍ أفضل، وان سوء الحال لا يمكن أن يستمر وان الإصلاح والتغيير نحو الأحسن واقع لا محالة، ومن دون هذا فإن الإحباط واليأس سيقضي على كل أمل نتيجة تسلط المفسدين والمستبدين والمستأثرين الذين اتخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً، وكأن قدر هذه الشعوب أن تكون مرتهنة بنزوات وأطماع وشره حفنة من السيئين، وقد عشنا التجربة المرة مع صدام المقبور ورأينا كيف سخّر ثروات هذا البلد المادية والبشرية لنزواته وحماقاته، وأدخل العراق والمنطقة في حروب وكوارث لا طائل تحتها.

          وبين أيديكم الآن ما يفعله صعلوك([4]) ليبيا المثير للاشمئزاز والتقزز بتصرفاته الرعناء كيف جعل الشعب الليبي وثرواته دروعاً لحماية نفسه وبقائه في السلطة رغم استبداده بها منذ 42 عاماً.

          إن تسلط مثل هؤلاء واستبدادهم بمقدرات الشعوب مظهر من مظاهر تفاهة هذه الدنيا وهوانها على الله تعالى وحماقة من طلبها وركن إليها وجعلها هدفاً له، كما ورد في الحديث الشريف (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى فيها كافراً شربة ماء). فالمغرور من غرّته، والشقي من فتنته كما قال الإمام الحسين (ع) ولو كانت لها قيمة لمكّن أنبياءه وأولياءه منها، ولما زهدهم فيها.

          لكن هذا في نفس الوقت يلقي على الجميع خصوصاً الشباب مسؤولية التغيير والإصلاح لأنه يبدأ منكم وقد مضت السُنّة الإلهية على [إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ] (الرعد:11) وهذا ما استشعره شباب العرب والمسلمين اليوم فسرى فيهم دم النهضة واليقظة لانتزاع حقوقهم وكرامتهم وحريتهم، وتهاوت أمام هذه النهضة عروش الطواغيت.

          أيها الأحبة: إن كل تقدم ونجاح تحققونه يدخل السرور على قلب إمامكم المهدي الموعود (ع) لأنكم ذخيرته وعُدّتُه وهو (ع) ينتظركم أكثر مما تنتظرونه، ويتابع أخباركم كما عبّر (ع) في رسالته إلى الشيخ المفيد (0) في كتاب الاحتجاج (إنه لا يعزب عنا شيء من أخباركم).



([1]) أقام حشد من طلبة كليات الطب والهندسة والعلوم من جامعة البصرة حفلاً لتخرجهم في النجف الأشرف يوم الجمعة 26/ ربيع الثاني/ 1432 المصادف 1/4/2011 ضمن برنامج أعدّه لهم زملاؤهم في جامعة الكوفة على مدى يومين كاملين تضمن زيارة أمير المؤمنين (g) والحسين (g) والمشاهد المشرّفة الأخرى، وبعد انتهائهم من الحفل وأدائهم صلاة الظهرين يوم الجمعة، زارهم سماحة الشيخ اليعقوبي في مقر إقامتهم في جامعة الصدر الدينية تثميناً لهذه المبادرة الكريمة في مقابل حفلات التخرج الماجنة، وألقى سماحته فيهم كلمة، وهذا تقرير لبعض ما جاء فيها.

([2]) وهو داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر الطيار من أجلاء أصحاب الأئمة (رض).

([3]) راجع خطاب المرحلة: 6/20.

([4]) انطلقت حركة التغيير في ليبيا بالتظاهرات والاحتجاجات يوم 17/2/2011 الموافق 13/ع1/1432 وأحرقوا صوراً للقذافي ومباني لجانه الثورية في بنغازي وعدة مدن أخرى، ثم تحولت إلى مواجهات مسلحة وحرب حقيقية حيث وفّرت الدول القريبة (بريطانيا، إيطاليا، فرنسا، أمريكا) غطاءً جوياً للثوار حتى انتصرت الثورة بعد عدة أشهر بدخول الثوار طرابلس ثم مقتل القذافي وتسلّم المجلس الانتقالي السلطة فيها.