خطاب المرحلة (299)...الاستقامة

| |عدد القراءات : 1511
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

الاستقامة (1)

          الحمد لله الذي هدانا لحمده، وجعلنا من أهله، لنكون لإحسانه من الشاكرين، وليجزينا على ذلك جزاء المحسنين، والحمد لله الذي حَبانا بدينه، واختصنا بملّته، وسبَّلنا في سُبُل إحسانه، لنسلكها بمنِّه إلى رضوانه، حمداً يتقبله منّا، ويرضى به عنّا، وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

          البعض يقرأ القرآن بلسانه طلباً للثواب الذي أفادته الروايات الكثيرة، والبعض يقرأ القرآن بعقله ليستخرج منه نظرية علمية أو يستدل به على مطلب ما، كاستدلال الأصولي بآية النفر([2]) على حجية خبر الواحد، أو استدلال النحوي على بعض القواعد الإعرابية، والبعض يقرأ القرآن ليتدبر في آياته، ويثير مكنوناته ليأخذ منه علاجاً لأمراضه المعنوية، وبرنامجاً لسيره التكاملي لنيل رضا الله تعالى.

          فالذي يريد أن يكون من المفلحين الفائزين بما عند الله تبارك وتعالى يجد وصفة العلاج المتضمنة لعدة فقرات في قوله تعالى في أول سورة المؤمنون: [قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ.. ] إلى قوله تعالى: [أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] (المؤمنون: 1-11).

          وهكذا الآيات التي تصف عباد الرحمن أو المتقين وغيرهم.

          واليوم نقف عند آية مباركة تتحدث عن امتيازات جليلة ومنن عظيمة وهي قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ] (فصلت30-31-32) ووردت بتفصيل أقل في موضع آخر [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ] (الأحقاف: 13) فنحن أما مفردة قرآنية هي (الاستقامة) تتحقق بها آثار عظيمة نطقت بها آية سورة فصلت:-

          تتنزل عليهم الملائكة فتطمّئنهم أن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، وقد قيل في الفرق بين الخوف والحزن أن الأول من الأمور القادمة والثاني من الأسى على ما مضى، فلا يخافون من القادم في القبر أو أهوال يوم القيامة أو مما يخوفونهم به في الدنيا بسبب رفضهم الانصياع لما سوى الله تعالى من طواغيت أو تقاليد اجتماعية وغيرها، ولا يحزنون على ما فاتهم في الدنيا من أمورها الزائلة؛ لأنهم سيجدون أن الله تعالى قد عوّضهم بكرمه بما هو خير وأبقى. وقيل إن ((الخوف إنما يكون من مكروه متوقع كالعذاب الذي يخافونه والحرمان من الجنة الذي يخشونه، والحزن إنما يكون من مكروه واقع وشر لازم كالسيئات التي يحزنون من اكتسابها، والخيرات التي يحزنون لفوتها عنهم، فتطيّب الملائكة أنفسهم أنهم في أمن من أن يخافوا شيئاً أو يحزنوا لشيء فالذنوب مغفورة لهم والعذاب مصروف عنهم))([3]).

          وتبشّرهم الملائكة بالجنة التي وُعدوا بها على لسان القرآن الكريم والناطقين به (صلوات الله عليهم أجمعين) بما تتضمن من نِعم وما لا عين رأت ولا أذن سمعت خالدين فيها.

          وتتولى أمورهم الملائكة بإذن الله تعالى مدبر الأمور وليسوا هم البشر الضعيف الجاهل الضال العاجز عن أن يتولى أموره، وإذا تولّتها الملائكة فإنها لا تأتي إلا بالخير وترعاهم وتداريهم أكثر مما تداوي الأم الشفيقة ولدها،وتجنّبهم كل سوء، في كل المواطن التي يحتاج فيها إلى المعونة حيث لا ناصر إلا الله تعالى في صعوبات الدنيا وعند سكرات الموت وعندما يترك وحيداً في قبره وفي أهوال القيامة وعتباتها، وتعوّضهم عما سيفقدونه من إخوان وأصدقاء وأصحاب بسبب استقامتهم على الحق وسقوط الآخرين وابتعادهم عن الاستقامة، كما نُسِب إلى أبي ذر (0): (ما ترك الحق لي صديقاً)([4]).

          لهم في الجنة ما تشتهي أنفسهم بل أوسع من ذلك فلهم كل ما يتمنون من النعم المعنوية والحسّية من دون أن يطلبها، عن الإمام الباقر (ع) من حديث عن نعم الله تعالى في الجنة قال (ع) فيه: (فإذا دعا وليُّ الله بغذائه أُتي بما تشتهي نفسه عند طلبه الغذاء من غير أن يسمي شهوته)([5]) وهكذا ما يدّعي.

          وأعظم النعم التي ذكرتها الآية الكريمة لهم أنهم يَحُلُّون ضيوفاً عند الله الغفور الرحيم معززين مكرمين مرَحَبّاً بهم وتكون النُزُل التي تقّدم للضيوف كما يليق بأي ضيف كريم عند الرب العظيم.

          هذه المواهب الجليلة لا تُعطى للإنسان لمجرد أن يؤمن بالله تعالى بلسانه من دون استقامة على التوحيد ورفض الخضوع والانقياد لكل الآلهة المصطنعة من دونه، وأولها النفس الأمّارة بالسوء، وهذا أمر طبيعي، إذ لا يبقى للتوحيد معنى إذا لم يستقم عليه، ويلتزم بمتطلباته.

          والإيمان الحقيقي يدعو إلى الاستقامة وهي من ثمراته كما يدعو إلى العمل الصالح، قال أمير المؤمنين (ع) بعد أن تلا الآية الشريفة المتقدمة: (وقد قلتم [رَبُّنَا اللهُ] فاستقيموا على كتابه، وعلى منهاج أمره، وعلى الطريقة الصالحة من عبادته، ثم لا تمرقوا منها، ولا تبتدعوا فيها، ولا تخالفوا عنها، فإن أهل المروق منقطع بهم عن الله يوم القيامة)([6]).

          وفي ضوء كلمة أمير المؤمنين (ع) يظهر أن الاستقامة تتضمن عدة معانٍ:

          (أولها) الثبات وعدم الميلان والانحراف تحت ضغط الشهوة أو الخوف أو الحرص على منصب أو المجاملة أو التقليد ونحوها فيخرج عن حد الاستقامة، في حديث عن رسول الله (ص) بعد أن تلا هذه الآية قال (ص): (قد قالها الناس – أي كلمة الإيمان - ثم كفر أكثرهم فمن قالها حتى يموت فهو ممن استقام عليها)([7])، فعلامة الاستقامة عدم الزيغ والانحراف باتجاه المعصية أو التقصير في الطاعة، يقول الإمام الصادق (ع) في معنى قوله تعالى: [اهدِنَا الصِرَاطَ المُستَقِيمَ] يعني أرشدنا إلى لزوم الطريق المؤدي إلى محبّتك، والمبلّغ إلى جنتك، والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك)([8]).

          (ثانيها) المداومة على الطاعة وعمل الخير والاستمرارية فيه؛ إذ لا يصل الإنسان إلى الهدف بمجرد وضع قدمه على الطريق الصحيح بل لا بد من الحركة الصحيحة باستمرار على الطريق الصحيح، عن علي (ع) في معنى قوله تعالى: [اهدِنَا الصِرَاطَ المُستَقِيمَ]: (يعني أدِم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيامنا، حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا)([9]).

          (ثالثها) الاعتدال فلا إفراط ولا تفريط، لأن كلاً منهما ابتعاد عن الاستقامة، قال تعالى: [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] (هود: 112) والطغيان هو الخروج عن حد الاعتدال.

          (رابعها) الوضوح في الإيصال إلى الهدف فلا شبهات ولا شكوك ولا غموض ولا التفاف ولا حيرة أو تردد، كما أن من صفات استقامة الطريق ذلك ليتحقق المطلوب منه بشكل كامل ولا يضل السائر عليه.

          (خامسها) الإخلاص، فالاستقامة لا تكون إلا إذا كانت لله تبارك وتعالى وعلى الصراط الذي أمر باتباعه، وليس لنيل غاية معينة من شهرة أو مال أو منصب أو جاه، قال تعالى: [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ] لا كما تشتهي ولا أي نحو آخر.

          إن الوصول إلى النجاح أو القمة أيسر من الثبات عليها والمحافظة على التمسك بها، وهذا معروف لدى المتنافسين في كل المجالات وهو أمر شاق لا ينال إلا بلطف من الله تبارك وتعالى؛ لذا يظهر من الآية الشريفة أن الخطوة الأولى من العبد بأن يستقيم وحينئذٍ يستحق مزيداً من اللطف الإلهي فتنزل عليه الملائكة لتتولى أمره وتقوده إلى الخير، وتثبته على الاستقامة، قال تعالى: [وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً] (النساء: 66).

          ويكون الأمر أشق حينما يكلَّف الإنسان بأن يأخذ بيد من معه في طريق الاستقامة، قال تعالى: [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] (هود: 112)، روى في الدر المنثور بسنده عن الحسن (ع) قال: (لما نزلت هذه الآية [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ] قال (ص): شمِّروا شمِّروا، فما رؤي ضاحكاً) وفي مجمع البيان في قوله تعالى [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ] ((قال ابن عباس: ما نزل على رسول الله (ص) آية كانت أشدَّ عليه ولا أشقّ من هذه الآية، ولذلك قال لأصحابه -حيث قالوا له: أسرعَ إليك الشيب يا رسول الله-: (شيّبتني هود والواقعة))([10]).

          وأرجع البعض سبب ذلك إلى تكليفه بمن معه؛ لأن آية أخرى أمرت بالاستقامة وليس فيها هذا الذيل فلم يذكرها رسول الله (ص)، وهو قوله تعالى: [فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ] (الشورى:15).

          فالمسؤوليات شاقة وعديدة، إذ عليه الاستقامة في كل لحظة وفي كل قول وفعل، وهو أمر شاق، وأن يكون كل ذلك خالصاً لله تعالى وهو أشق، ثم عليه أن يقوّم الآخرين على هذا الطريق على اختلاف طباعهم وتباين مستوياتهم وتنوع اتجاهاتهم، وتتسع هذه المسؤولية وتزداد المشقة بسعة من كلّف بقيادتهم، حتى تكون بمستوى ولاية أمر المسلمين، وبمستوى المواجهة التي نشهدها اليوم حيث برز الشرك والكفر والفسوق والظلم والاستبداد بكامل عدته وعدده.

هذه الاستقامة على الصراط الذي ارتضاه الله تعالى وسار عليه الصالحون من عباده، علّمنا الله تبارك وتعالى أن نسأله إياها ونطلبها منه يومياً عشر مرات على الأقل في صلاتنا، لأنه متضمن لكل خصال الخير قال تعالى: [اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ] (الفاتحة:6)، ويعرفنا الله تبارك وتعالى بهذا الصراط ويدلنا على معالمه فيصفه بأنه: [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ] (الفاتحة:7) ومَن هؤلاء الذين أنعم الله عليهم؟، قال تعالى: [وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً] (النساء:69).

          فالاستقامة تتحقق بطاعة الله تبارك وتعالى ورسوله (ص) ومَن أمر بطاعته بعده وهم الأئمة المعصومون (ع) ثم نوّابهم بالحق، فاتباع القيادة الدينية الحقة ضمان للبقاء على الاستقامة على الصراط المستقيم، وفي مجمع البيان عن الرضا (ع) (أنه سُئل: ما الاستقامة؟ قال: هي والله ما أنتم عليه) وفي تفسير القمي في تفسير قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا] قال: ثم استقاموا على ولاية علي أمير المؤمنين)، وفي الكافي بسنده عن محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عز وجل [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا] فقال أبو عبد الله (ع): استقاموا على الأئمة واحداً بعد واحد [تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ..].وفي معاني الأخبار في تفسير قوله تعالى [اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ] (الفاتحة:6) عن الصادق (ع) (وهي الطريق إلى معرفة الله، وهما صراطان: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة، وصراط في الأخرى، فأما الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة من عرفه بالدنيا واقتدى بهداه مَّر على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه عن الصراط في الآخرة فتردّى في نار جهنم([11]).

          إن الإنسان إذا استقام على طاعة الله ورسوله (ص) والأئمة الطاهرين (ع) من بعده يتنعم في الدنيا فضلاً عن امتيازات الآخرة التي ذكرناها، قال تعالى: [وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً] (الجن:16) في الكافي بسنده عن الباقر (ع) (في قوله تعالى [وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً] قال: يعني لو استقاموا على ولاية علي بن أبي طالب أمير المؤمنين والأوصياء من وُلدِه (ع) وقبلوا طاعتهم في أمرهم ونهيهم لأسقيناهم ماءً غدقاً، يقول: لأشربنا قلوبهم الإيمان، والطريقة هي الإيمان بولاية علي والأوصياء.

أيها الأحبة:

          إن تحقق الاستقامة والثبات عليها التي نطلبها يومياً في صلاتنا –مما يعني أنها شيء يجب السعي لتحصيله- تتطلب أموراً:-

  1. 1.     العزم والإرادة الصادقة والشجاعة في اتخاذ القرارات والمواقف وإنجاز الأعمال المطلوبة.

2.  الوعي والمعرفة والمطالعة الواسعة لروايات المعصومين (ع) وآثار السلف الصالح لأن أي عمل لا بد أن تسبقه معرفة، وبعد العمل يكتسب معرفة جديدة.

3. الالتفات إلى موجبات الانحراف عن صراط الاستقامة مقدمة لاجتنابها وهي اتباع الشهوات والركون إلى الدنيا بزخارفها الباطلة أو الخوف من فقدان شيء أو القلق من فوات أمور، ومن موجبات الانحراف أيضاً أمور تبدو خارجة عن إرادة الإنسان، لكن مقدماتها بيده فيستطيع تجنبها بإزالة مقدماتها كالجهل والنسيان والغفلة والسهو فقد يشذّ الإنسان عن الصراط المستقيم لا عن عمدٍ بل جهلاً وغفلة، وبالنتيجة فقد فاته خير كثير.

          ولذلك فإن الإنسان يدعو يومياً عشر مرات على الأقل في صلواته بعد طلب الهداية للصراط المستقيم أن يعصمه الله ويحميه من كلا النوعين من موجبات الانحراف عن الاستقامة، ابتداءً واستدامة لأنه معرض في أي لحظة للزلل والانحراف والإغواء إلا أن يمدَّه الله تعالى بلطفه ونوره.

          ولتحصيل الاستقامة مفردات عملية وبرامج ذكرتها الآيات الكريمة والروايات الشريفة، ولو التفتنا فإن الآيات التالية لقوله تعالى: [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ] تتضمن مفردات أساسية لهذا البرنامج وهي عدم الركون إلى الظالمين والمحافظة على الصلاة في أوقاتها والصبر، قال تبارك وتعالى: [وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ، وَاصْبِرْ فإن اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ] (هود: 113-115).

وأُورد هنا للموعظة والتذكير روايتين تتضمنان وصفتين مهمتين لتطهير القلب وتهذيب النفس لمن أراد الكمال على طريق تحقيق الاستقامة.

          (الأولى): رواية صحيحة رواها الثقات في كتبهم جميعاً كالكليني والصدوق والشيخ الطوسي (قدس الله أسرارهم والبرقي في المحاسن عن أبي جعفر الباقر (ع) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (ع): يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها، ثم قال: اللهم أعنه، أما الأولى: فالصدق لا يخرجن من فيك كذبة أبداً، والثانية: الورع لا تجترين على خيانة أبداً، والثالثة: الخوف من الله كأنك تراه، والرابعة: كثرة البكاء من خشية الله عز وجل يبنى لك بكل دمعة بيت في الجنة، والخامسة: بذل مالك ودمك دون دينك، والسادسة: الأخذ بسنتي في صلاتي وصيامي وصدقتي، أما الصلاة فالخمسون ركعة، وأما الصوم فثلاثة أيام في كل شهر خميس في أوله، وأربعاء في وسطه، وخميس في آخره، وأما الصدقة فجهدك حتى يقال: أسرفت ولم تسرف، وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الزوال، وعليك بقراءة القرآن على كل حال، وعليك برفع يديك في الصلاة، وتقليبهما، عليك بالسواك عند كل وضوء وصلاة، عليك بمحاسن الأخلاق فاركبها، عليك بمساوي الأخلاق فاجتنبها، فإن لم تفعل فلا تلومنّ إلا نفسك)([12]).

          (الثانية) وصية الإمام الصادق (ع) لعنوان البصري وكان شيخاً كبيراً حضر عند مالك بن أنس ثم هداه الله إلى الإمام الصادق (ع) وجاء في الرواية (ثم قال (ع): ما مسألتك؟ فقلت: سألت الله أن يعطف قلبك علي ويرزقني من علمك، وأرجو أن الله تعالى أجابني في الشريف ما سألته، فقال: يا أبا عبد الله (وهي كُنية عنوان البصري أيضاً) ليس العلم بالتعلم، إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه، فإن أردت العلم فاطلب أولاً في نفسك حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله يفهمك. قلت: يا شريف فقال: قل يا أبا عبد الله، قلت: يا أبا عبد الله ما حقيقة العبودية؟ قال: ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكاً، لأن العبيد لا يكون لهم ملك يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به، ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيراً، وجملة اشتغاله فيما أمره تعالى به ونهاه عنه، فإذا لم يرَ العبد لنفسه فيما خوّله الله تعالى ملكاً هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه، وإذا فوض العبد تدبير نفسه على مدبره هان عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه لا يتفرغ منهما إلى المراء والمباهاة مع الناس، فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاثة هان عليه الدنيا، وإبليس، والخلق، ولا يطلب الدنيا تكاثراً وتفاخراً، ولا يطلب ما عند الناس عزاً وعلوّاً، ولا يدع أيامه باطلاً، فهذا أول درجة التقى، قال الله تبارك وتعالى: [تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ]. قلت: يا أبا عبد الله أوصني، قال: أوصيك بتسعة أشياء فإنها وصيتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى، والله أسأل أن يوفقك لاستعماله، ثلاثة منها في رياضة النفس، وثلاثة منها في الحلم، وثلاثة منها في العلم، فاحفظها وإياك والتهاون بها، قال عنوان: ففرغت قلبي له. فقال: أما اللواتي في الرياضة: فإياك أن تأكل ما لا تشتهيه([13]) فإنه يورث الحماقة والبله، ولا تأكل إلا عند الجوع، وإذا أكلت فكل حلالاً وسمّ الله، واذكر حديث الرسول (صلى الله عليه وآله): ما ملأ آدمي وعاءً شرّاً من بطنه فإن كان ولا بد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه.

          وأما اللواتي في الحلم: فمن قال لك: إن قلت واحدة سمعت عشراً فقل: إن قلت عشراً لم تسمع واحدة، ومن شتمك فقل له: إن كنت صادقاً فيما تقول فأسأل الله أن يغفر لي، وإن كنت كاذباً فيما تقول فالله أسأل أن يغفر لك، ومن وعدك بالخنى([14]) فعده بالنصيحة والرعاء.

          وأما اللواتي في العلم: فاسأل العلماء ما جهلت، وإياك أن تسألهم تعنتاً و تجربة وإياك أن تعمل برأيك شيئاً، وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلاً، و اهرب من الفتيا هربك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للناس جسراً.

قم عني يا أبا عبد الله فقد نصحت لك ولا تفسد علي وِردي، فإني امرؤٌ ضنين بنفسي)([15]).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ]



([1]) الخطبة الأولى التي ألقاها سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) لصلاة عيد الفطر السعيد عام 1432 يوم الأربعاء الموافق 31/8/2011 م

([2]) يعني بها سماحة الشيخ (دام ظله) قوله تعالى: [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمَْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] (التوبة:122) والاستدلال بها مذكور في كتب  أصول الفقه.

([3]) الميزان في تفسير القرآن، تفسير الآية 30 من سورة فصلت.

([4]) بحار الأنوار: 31/180.

([5]) الكافي: 8/99.

([6]) نهج البلاغة: الخطبة (176).

([7]) مجمع البيان في ذيل تفسير آية (30) من سورة فصلت.

([8]) معاني الأخبار: صفحة 33.

([9]) معاني الأخبار: صفحة 33.

([10]) سورة الواقعة ليس فيها أمر بالاستقامة ووجه الاشتراك مع سورة هود أنها  متشابهة في ذكر أهوال يوم الفصل وأحوال القيامة الأمر الذي يخشاه رسول الله (ص) على أمته لما علمه من عدم استقامة الكثير منهم على الصراط من بعده رغم أنهم أقروا بالإيمان بالله لساناً) (لجة التحقيق).

([11]) معاني الأخبار:2 ح1، تفسير الصافي:1/126.

([12]) وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، باب 4، ح2.

([13]) أي لا تأكل شيئاً قبل أن تجوع فتشتهي.

([14]) الخنى: الفحش في الكلام.

([15]) بحار الأنوار: 1/224.