خطاب المرحلة (303)... الإمام الرضا (ع) في مواجهة الانشقاق الداخلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الإمام الرضا (ع) في مواجهة الانشقاق الداخلي(1)
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
في ذكرى الإمام أبي الحسن الرضا (ع) نشير إلى صفحة من سفر حياته المباركة آلمت قلبه الشريف واستنزفت الكثير من وقته وجهده الثمينين، وهي الفتنة التي قادها جملة من رموز أصحاب أبيه الإمام الكاظم (ع) المؤثرين في اتباع أهل البيت (ع) مما أدى إلى انشقاق داخل الكيان الشريف ونشوء فرقة ضمت عدداً كبيراً من حملة علم أهل البيت (ع) عبر أكثر من جيل سُمّوا بالواقفة، لا لسبب إلا الطمع في الدنيا وحطامها الزائل وعناوينها الزائفة وجاهها الخادع.
روي عن يونس بن عبد الرحمن –وهو من كبار أصحاب الإمامين الكاظم والرضا (c) والفقهاء الأجلاء –قال: (مات أبو الحسن (ع) وليس من قوامه أحد إلا وعنده المال الكثير فكان ذلك سبب وقوفهم وجحودهم موته طمعاً في الأموال، كان عند زياد بن مروان القندي سبعون ألف دينار وعند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار)([2]).
قال الشيخ الطوسي (قدس سره) في الكلام عن الواقفة (أول من أظهر هذا الاعتقاد علي بن أبي حمزة البطائني وزياد بن مروان القندي وعثمان بن عيسى الرؤاسي، طمعوا في الدنيا، ومالوا إلى حطامها واستمالوا قوماً فبذلوا لهم شيئاً مما اختانوه من الأموال) وممن بذلوا له يونس بن عبد الرحمن حيث أطمعوه بمبلغ ضخم جداً وهو عشرة آلاف دينار إلا أنه رفض مفارقة الإمام الحق.
وكان الإمام الكاظم (ع) يقرأ في سلوك ابن أبي حمزة حبّه للدنيا، وتزلفه إلى الإمام (ع) ليكون له جاه يخدع به الناس، فقد كان يلازم أبا بصير –وهو من كبار أصحاب الإمامين الباقر والصادق وأدرك إمامة الكاظم (ع) – ويقوده لأنه كان كفيف البصر، وينقل عنه علوم أهل البيت (ع) لذا أخذ عن البطائني كبار الأصحاب لأنهم يجدون عنده ما لا يجدون عند غيره لطول ملازمته، لكن الإمام الكاظم (ع) كان يشبهه منذ ذلك الوقت المبكر بأنّه كالحمار مطبقاً عليه قوله تعالى في سورة الجمعة [مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً] (الجمعة:5) إشارة إلى أن ابن أبي حمزة يحمل علماً جماً إلا أنه لم يستفد منه، ووقع فيما وقع فيه.
روى أبو داود المسترق قال: (كنت أنا وعيينة بياع القصب عند علي بن أبي حمزة، فسمعته يقول: قال لي أبو الحسن موسى (ع) إنما أنت يا علي وأصحابك أشباه الحمير، قال: فقال عيينة أسمعت؟ قال: قلت أي والله قال: فقال: لقد سمعت والله لا أنقل قدمي إليه ما حييت) أي أن ابن أبي حمزة لا ينقل قدمه ولا يذهب إلى الإمام الرضا (عليه السلام) ما دام حياً رغم أنه بنفسه يروي ما قاله الإمام الكاظم (عليه السلام).
وكان الإمام الرضا (ع) لا يتوقف عن إظهار ألمه لحصول هذا الانحراف لدى أتباعه والتنديد به وبأهله، فعن محمد بن سنان قال (ذكر علي بن أبي حمزة عند الرضا (ع) فلعنه ثم قال: إن علي بن أبي حمزة أراد أن لا يعبد الله في سمائه وأرضه فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون ولو كره اللعين المشرك، قلت المشرك؟ قال نعم والله وإن رغم انفه كذلك هو في كتاب الله يريدون أن يطفئوا نور الله وقد جرت فيه وفي أمثاله أنه أراد أن يطفئوا نور الله..).
وعن يونس بن عبد الرحمن قال: (دخلت على الرضا (ع) فقال لي: مات علي بن أبي حمزة؟ قلت نعم، قال: قد دخل النار! قال: ففزعت من ذلك! قال: أما انه سئل عن الإمام بعد موسى أبي فقال: لا أعرف إماماً بعده!! فقيل لا؟! فضرب في قبره ضربة اشتعل قبره ناراً.).
لكن الإمام (ع) كان يستغرب في نفس الوقت من الذين انخدعوا بهذه الدعوة الفاسدة أو أصابهم التشكيك والتردد مع وضوح ضلالها وكذب ادعاءاته، روى محمد بن الفضيل عن الإمام الرضا (ع) قال: (سمعته يقول في ابن أبي حمزة: أما استبان لكم كذبه؟ أليس هو الذي يروي أن رأس المهدي يُهدى إلى عيسى بن موسى وهو صاحب السفياني؟.
وقال: إن أبا الحسن –يعني أباه الكاظم (ع) يعود إلى ثمانية أشهر؟!!) ولم يحصل شيء من ذلك، بينما كان الإمام (ع) يقيم لهم البينات ويخبرهم بالمغيبات التي يثبت صدقها كإخباره بأن هارون العباسي لا يمسُّه سوء.
وكان (ع) يصبّر شيعته ويقوي عزيمتهم ليثبتوا على الصراط المستقيم، وأن لا تستفزهم تلك الحركات وأن يقابلوها بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار المبني على الدليل، روى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا قال: (قلت: جعلت فداك إني خلفت ابن أبي حمزة وابن مهران وابن أبي سعيد اشد أهل الدنيا عداوة لك!! فقال لي: ما ضرك من ضل إذا اهتديت إنهم كذبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكذّبوا أمير المؤمنين (ع) وكذبوا فلاناً وفلاناً وكذبوا جعفراً وموسى (c)، ولي بآبائي (ع) أسوة قلت جعلت فداك إنا نروي أنك قلت لابن مهران: اذهب الله نور قلبك وادخل الفقر بيتك؟ فقال: كيف حاله وحال بنيه؟ فقلت: يا سيدي أشد حال، هم مكروبون ببغداد لم يقدر الحسين أن يخرج إلى العمرة فسكت) وإنما سكت لأنّه (ع) لم يكن يحب أن يراهم بهذا الحال.
وقال (ع) (إنه لما قبض رسول الله (ص) جهد الناس في إطفاء نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره بأمير المؤمنين (ع) فلما توفي أبو الحسن (ع) جهد علي بن أبي حمزة في إطفاء نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره. وإن أهل الحق إذا دخل فيهم داخل سروا به وإذا خرج منهم خارج لم يجزعوا عليه وذلك أنهم على يقين من أمرهم وإن أهل الباطل إذا دخل فيهم داخل سروا به([3]) وإذا خرج منهم خارج جزعوا عليه وذلك أنهم على شك من أمرهم إن الله جل جلاله يقول: (فمستقر ومستودع) قال: ثم قال أبو عبد الله (ع): المستقر الثابت والمستودع المعار).
وبقي الإمام (ع) يحاور أولئك المنحرفين ويقيم عليهم الحجج الدامغة انطلاقاً من مسؤوليته في هداية الخلق جميعاً والأخذ بأيديهم إلى ما يسعدهم في الدنيا والآخرة، خصوصاً إذا كانوا من داخل الكيان الموالي لأهل البيت (ع) لأن الخطر عندما ينطلق من الداخل يكون أشد فتكاً في بناء الأمة وقد نجح (ع) في إرجاع كثيرين إلى جادة الصواب.
روى أحد أصحاب الإمام الرضا (ع) قال: كنت عند الرضا (ع) فدخل عليه علي بن أبي حمزة، وابن السرّاج، وابن المكارى، فقال له ابن أبي حمزة: ما فعل أبوك؟ قال: مضى، قال: مضى موتاً؟ قال: نعم، قال: إلى من عهد؟ فقال: إلىّ، قال: فأنت إمام مفترض الطاعة من اللّه؟ قال: نعم، قال ابن السراج وابن المكارى: قد واللّه أمكنك من نفسه، قال: ويلك وبما أمكنت، أتريد أن آتي بغداد وأقول لهارون أنا إمام مفترض الطاعة، واللّه ما ذلك عليّ وإنّما قلت ذلك لكم عندما بلغني من اختلاف كلمتكم وتشتّت أمركم لئلاّ يصير سرّكم في يد عدوّكم،قال له ابن أبي حمزة: لقد أظهرت شيئاً ما كان يظهره أحد من آبائك ولا يتكلّم به، قال: بلى لقد تكلّم خير آبائي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لمّا أمره اللّه تعالى أن ينذر عشيرته الأقربين، جمع من أهل بيته أربعين رجلاً وقال لهم: أنا رسول اللّه إليكم، فكان أشدّهم تكذيباً له وتأليباً عليه عمّه أبو لهب، فقال لهم النبيّ صلّى اللّه عليه وآله: إن خدشني خدش فلست بنبي، فهذا أوّل ما أبدع لكم من آية النبوة، وأنا أقول: إن خدشني هارون خدشاً فلست بإمام فهذا أوّل ما أبدع لكم من آية الإمامة، فقال له على: إنّا روينا عن آبائك أنّ الإمام لا يلي أمره إلاّ أمام مثله، فقال له أبو الحسن(ع): فأخبرني عن الحسين بن علي c، كان إماماً أو كان غير إمام؟ قال: كان إماماً،قال: فمن ولي أمره؟ قال: علي بن الحسين، قال: وأين كان علي بن الحسين (ع)؟ قال: كان محبوساً في يد عبيد اللّه بن زياد في الكوفة، قال: خرج وهم كانوا لا يعلمون حتى وليّ أمر أبيه ثم انصرف، فقال له أبو الحسن (ع): إنّ هذا الذي أمكن علي بن الحسين (ع) أن يأتي كربلاء فيلي أمر أبيه فهو أمكن صاحب هذا الأمر أن يأتي بغداد فيلي أمر أبيه ثم ينصرف، وليس في حبس ولا في إساءة، قال له على: إنّا روينا أنّ الإمام لا يمضي حتى يرى عقبه([4])، قال: فقال أبو الحسن (ع): أما رويتم في هذا الحديث غير هذا؟ قال: لا، قال: بلى واللّه لقد رويتم إلاّ القائم وأنتم لا تدرون ما معناه ولم قيل، قال له على: بلى واللّه إنّ هذا لفي الحديث، قال له أبو الحسن (ع): ويلك كيف اجترأت على شيء تدع بعضه، ثم قال: يا شيخ اتّق اللّه ولا تكن من الصّادين عن دين اللّه تعالى).
وروى الشيخ الصدوق (قدس سره) بسنده عن أبي مسروق قال: (دخل على الرضا (ع) جماعة من الواقفة فيهم علي بن أبي حمزة البطائني، ومحمد بن إسحاق بن عمّار، والحسين بن مهران، والحسن بن أبي سعيد المكارى، فقال له علي بن أبي حمزة جعلت فداك أخبرنا عن أبيك (ع) ما حاله، فقال له: إنه قد مضى، فقال له: فإلى من عهد؟ فقال إلىّ: فقال له: إنّك لتقول قولاً ما قاله أحد من آبائك علي بن أبي طالب (ع) فمن دونه، قال: لكن قد قاله خير آبائي وأفضلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله،فقال له: أما تخاف هؤلاء على نفسك؟ فقال: لو خفت عليها كنت عليها معيناً([5])، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أتاه أبو لهب فتهدّده، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: إن خدشت من قبلك خدشة فأنا كذّاب، فكانت أوّل آية أنزع نزع بها رسول اللّه ص، وهي أوّل آية لكم إن خدشت خدشة من قبل هارون فأنا كذّاب، فقال له الحسن بن مهران: قد أتانا ما نطلب أن أظهرت هذا القول، قال: فتريد ماذا؟ أتريد أن أذهب إلى هارون فأقول له: إنّي إمام وأنت لست في شيء، ليس هكذا صنع رسول اللّه ص في أوّل أمره،إنّما قال ذلك لأهله ومواليه ومن يثق به، فقد خصّهم به دون الناس، وأنتم تعتقدون الإمامة لمن كان قبلي من آبائي، ولا تقولون إنه أنّما يمنع علي بن موسى أن يخبر أنّ أباه حيّ تقية، فإنّي لا أتقيكم في أن أقول: إنّي إمام فكيف أتقيكم في أن أدعي أنه حيّ لو كان حيّاً).
هذا ما حصل في زمان الإمام الرضا (ع) بعد رحيل سلفه الإمام الكاظم (ع) وحصل مع أجداده من قبل، وفي كل زمان، ما دامت النفوس الأمّارة بالسوء المحبة للدنيا الزائلة الزائفة والطموحة إلى تقمّص هذه المواقع المقدسة [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ] (آل عمران:144).
وقد قلنا في كلمة سابقة إن الله تعالى عندما يخاطب النبي (ص) بوصفه رسولاً –كقوله تعالى يا أيها الرسول بلغ- فإنها ليست خاصة بشخصه الشريف وإنما هي سنة إلهية ترتبط بموقعه المبارك.
([1]) كلمة ألقاها سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي(دام ظله) ضمن بحثه الشريف يوم 11/ذق/1432 المصادف 10/10/2011 في ذكرى ميلاد الإمام الرضا (ع).
([2]) الروايات المذكورة كلها أوردها الكشي في رجاله والشيخ الطوسي (قده) وغيرهما، وقد جمعها من مصادرها السيد الخوئي (قده) في معجم رجال الحديث: 11/229-241.
([3]) فرّق سماحته بين سرور أهل الحق وأهل الباطل في الغرض، فإن الأول نابع من حبهم الخير والهداية لكل الخلق، أما الثاني فلاغترارهم بكثرتهم وشكهم في أمرهم فيجعلون التحاق الغير بهم دليلاً على سلامة موقفهم.
([4]) ولد الإمام الجواد (ع) لأبيه الرضا (ع) بعد أن تجاوز السادسة والأربعين من عمره الشريف مما وفّر فرصة لأصحاب الفتن ليثيروا هذه الإشكالات.
([5]) شرح سماحته وجهاً لهذه الفقرة في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).