خطاب المرحلة (314)... الاحتفال في رأس السنة لمن استثمر وقته خلالها

| |عدد القراءات : 1765
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

الاحتفال في رأس السنة لمن استثمر وقته خلالها([1]) 

           من كلمات الإمام الحسن السبط المجتبى (ع) وقد مرّ في يوم فطر بقومٍ يلعبون ويضحكون، فوقف على رؤوسهم فقال: (إنّ الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه فيستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا وقصّر آخرون فخابوا، فالعجب كل العجب من ضاحك لاعبٍ في اليوم الذي يُثابُ فيه المحسنون ويخسرُ فيه المبطلون، وأيم الله لو كشف الغطاء لعلموا أنّ المحسن مشغولٌ بإحسانه والمسيء مشغولٌ بإساءته) ثمّ مضى (ع).

          علينا أن نستحضر هذه الموعظة في كل لحظات حياتنا، لأنّها كلّها مضمار للتنافس واستباق الخيرات لنيل أفضل الدرجات عند الله تعالى، وها نحن اليوم في نهاية سنة ميلادية 2011 –وفق حساباتهم- وعلى أبواب سنة جديدة 2012 بإذن الله تعالى.

          وقد كانت السنة المنقضية مضماراً تسابق فيه الخلق فالعجب كل العجب مما يشهده العالم من شرقه إلى غربه من احتفالات صاخبة بمناسبة يسمونها رأس السنة الميلادية، وتهدر فيها المليارات من الدولارات، وتُعطّل فيها الأعمال عدة أيام في بعض الدول، وهذه خسائر إضافية، وتعرض الفعاليات المنوّعة كالألعاب النارية والرقص والغناء والحفلات الماجنة، ويشارك فيها المسلمون أيضاً من دون مراعاة لأخلاقهم وتعاليم دينهم ووصايا أئمتهم، وفي مثل هذه السنة 2012 سيكون أولها يوم استشهاد الإمام الحسن السبط المجتبى (ع).

وقد توسّع الاحتفال ليشمل كل شخص بعيد ميلاده السنوي.

          وبغضّ النظر عن الأخطاء المتعددة في التاريخ الميلادي الذي بيّناه في بعض محاضراتنا السابقة([2]) من حيث السنة والشهر واليوم، فإننا نريد أن نتساءل عن معنى هذا الاحتفالات والفرح والسرور، وهل لها واقعية أم لا؟

          إذ إننا نجد أن الأحرى بهم أن يحزنوا ويندموا ويتأسفوا لأن سنة مرّت عليهم ونقصت من أعمارهم، مما يعني أنهم اقتربوا من آجالهم من دون أن يستعدوا لها، بل عملوا على عكس ما يراد منهم وضيّعوا هذا الرصيد الذي تُشترى به الجنة ورضا الله تبارك وتعالى، واشتروا به سخط الله تعالى والنيران إلا من شملهُ الله تعالى بلطفه ورعايته الخاصة، فكانت الحياة لمثله زيادة له في كل خير كما في أدعية الإمام السجاد (ع)، ومع ذلك فإنه (ع) يقف بين يدي ربّه ذليلاً متواضعاً ويقول (ويلي كلما كبر سني كثرت معاصيّ! ويلي كلما طال عمري كثرت ذنوبي).

          إن الإنسان عبارة عن رصيد من السنين والأيام يقدرها الله تبارك وتعالى فكلما انقضى يوم أو مرّت سنة فانه يعني أنه فقد جزءاً منه حتى ينتهي بالموت ويصبح بلا قيمة إلا بمقدار ما قدّم لآخرته، مثل رصيد الهواتف المحمولة الذي يساوي عدداً من الدقائق فكل دقيقة من الاتصال تعني ذهاب جزء منه، قال أمير المؤمنين (ع) (إنما أنت عدد أيام فكل يوم يمضي عليك يمضي ببعضك فخفّض في الطلب وأجمل في المكسب) وفي غرر الحكم لأمير المؤمنين (ع) (العمر أنفاس معدودة) وعنه (ع) (نفس المرء خطاه إلى قبره).

          وقد تحدثنا في كلمة سابقة عن أهمية الوقت وضرورة إشغاله بما يحقق رضا الله تبارك وتعالى ويقرّبنا منه لأنه هو الثمن الوحيد الذي يستحق صرف العمر فيه.

          وقد اهتمّ الشارع المقدس بالوقت وربط به أغلب فعالياته ليكون الإنسان ملتفتاً إليه ومراقباً له حتى لا يضيع منه، فالصلاة التي هي عمود الدين لها أوقات خمسة محددة يومياً تجب مراعاتها وفي ذلك قول الإمام الصادق (ع) (امتحنوا شيعتنا في أوقات الصلاة) أي ليس المطلوب منه المحافظة على أصل الصلاة فقط بل على أوقاتها الخمسة، وهكذا بقية الطاعات فالصوم مرتبط بشهر رمضان في عدد أيامه وبالفجر والغروب يومياً، والحج مرتبط بأشهر الحج وأيامه، والخمس والزكاة مرتبطان بالحول، وهناك الشعائر الدينية والمناسبات والأدعية والزيارات المرتبطة بالأوقات، حتى جعل لكل يوم من أيام الأسبوع دعاء وكل يوم من أيام الشهر دعاء بل لكل ساعة من ساعات الليل والنهار دعاء، وكانت بعض الأوقات تعرف ببعض الأوراد المقرّرة لها، كالذي نقل عن بني الحسن (ع) في سجن المنصور العباسي أنهم كانوا يعرفون أوقات الصلاة بأوراد مرتبة لعلي بن الحسن المثلث حفيد الإمام السبط (ع).

          وللقيمة الكبرى للوقت فقد وردت الوصايا باغتنامه واستثماره، كما في وصية النبي (ص) لأبي ذر (0) (يا أبا ذر: اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك) وفيها (يا أبا ذر نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).

          قد يتصوّر الإنسان صعوبة الاستمرار على الطاعة وان إدامتها شاقة لا تطاق وهذا نابع من غفلته، ويهوّل الشيطان له هذا الأمر، أما الواقع فهو خلاف ذلك لأنه لا يعيش عمره كله في هذه اللحظة حتى يستحضر كل الصعوبات فيها، بل هو يعيش لحظته وهي مما لا يعسر تحمّل العمل فيها، أما الزمان السابق فقد مرّ وانتهى، والزمان اللاحق لم يأت بعد فلماذا يحمل همَّه، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (ع) (إن عمرك وقتك الذي أنت فيه) وقال (ع) (المرء ابن ساعته). وفي الحديث الشريف (العمر ثلاث ساعات، ساعة مضت لست بقادر على إرجاعها، وساعة تأتي لست بضامن لها و ساعة أنت فيها فعليك بها) وفي حديث آخر (الطاعة صبر ساعة).

          ولأن الله تعالى يعلم إن الإنسان تعتريه الغفلة والنسيان والكسل مما يضيع عليه كثيراً من رأسماله الثمين وهو عمره ووقته، مضافاً إلى النوم الذي هو ضروري للبدن لكن كثرته مذمومة وهو من أوسع أسباب تضييع العمر فإنه يستغرق ثلث العمر أو أكثر أي عشرين سنة ممن عمره ستون سنة، لذا ورد عن الإمام الكاظم (ع) (إن الله يبغض العبد النوّام) وفي غرر الحكم لأمير المؤمنين (ع) (أربعٌ القليل منها كثير: النار والنوم والمرض والعداوة) وفيها (بئس الغريم النوم يفني قصير العمر ويفوّت كثير الأجر).

          أقول لأن الله تعالى يعلم ذلك من الإنسان فقد دلّه بكرمه على ما يحوّل هذا النوم إلى وقت مثمر بأن ينام على طهور حتّى ورد في الحديث (إن من نام متطهراً كان فراشه مسجده، ومن مات في نومه على طهور مات شهيداً) خصوصاً إذا سبقه بتلاوة بعض الآيات والأدعية المباركة وان لا يتجاوز المقدار اللازم لتجديد نشاط البدن، وورد في نوم الصائم في شهر رمضان (ونومكم فيه عبادة).

          كما ورد التطمين بلطف الله تعالى وكرمه أن من ضيّع جزءاً من عمره بما لا ينفع وقد يضرّ فإن الله تعالى سيكتبه عمراً صالحاً إذا رجع إلى ربّه والتفت وأصلح حاله فيما استقبل من عمره، عن النبي (ص) (من أحسن فيما بقي من عمره لم يؤاخذ بما مضى من ذنبه، ومن أساء فيما بقي من عمره أخذ بالأول والآخر)([3])، قال تعالى [إلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيئَاتِهِم حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (الفرقان:70).

          هذا كله مضافاً إلى ما ذكرناه في المحاضرة السابقة من إعطاء عمر جديد فوق العمر الطبيعي يستزيد فيه من الخيرات بعد الموت ولا ينقطع عمله به.

          ولأهمية حياة الإنسان وعمره في اكتساب الطاعات وإنه كلما زاد عمره كثرت فرص الطاعة عنده وتحقيق السعادة قال النبي (ص): (خير الناس من طال عمره وحسن خلقه) (سنن الترمذي/ 2330) وفي غرر الحكم لأمير المؤمنين (ع) (من سعادة المرء أن يطول عمره ويرى في أعدائه ما يسرّه)، قدّم لنا الأئمة المعصومون (سلام الله عليهم) الأسباب المادية والمعنوية لإطالة العمر.

          وأعني بالمادية: ما يحفظ صحة البدن ويجنّبه ما يضرّه ويديم قدرته على القيام بالطاعات، كالتوازن في الطعام والشراب كما وكيفا قال تعالى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسرِفُوا] (الأعراف:31)، وفي الحديث الشريف (ما ملأ ابن آدم وعاءاً شراً من بطنه) والوصية بالصوم كقوله (ع) (صوموا تصحوا)، واستحباب صيام ثلاثة أيام في الشهر وهو عين ما توصل إليه العلم الحديث تواً حيث نصحوا بالإمساك عن الطعام يوماً كل عشرة أيام للحفاظ على الصحة، مضافاً إلى الوصايا الكثيرة في تناول أطعمة وأشربة معينة وتجنب غيرها، وكذلك الأمر ببعض الحالات والفعاليات الحياتية وتجنب غيرها مما لسنا بصدده([4]).

          وأما الوصايا المعنوية فمنها الدعاء بإطالة العمر في خير وعافية وسعة رزق وسلامة في الحواس، وأن يكون كل ذلك مكرساً لطاعة الله تعالى وطلب رضاه (اجعل قوتي في طاعتك ونشاطي في عبادتك) (سلامة أقوى بها على طاعتك)([5])، ومن الأسباب المعنوية لإطالة العمر ما ذكرته الأحاديث الشريفة كقول النبي (صلى الله عليه وآله) (أكثر من الوضوء يزيد الله في عمرك)([6]) وقوله (ص) (من سرّه أن يُبسَط في رزقه ويُنسأ له في أجله فليصل رحمه)([7]) وفي غرر الحكم لأمير المؤمنين (ع) (من أراد البقاء فليباكر الغذاء وليقل غشيان النساء) وعن الإمام الصادق (ع) (من حسنت نيته زيد في عمره)([8]) وعن الإمام الصادق (ع) قال (من حسن بره بأهل بيته زيد في عمره)([9]).

          إن الطريق لتحقيق الاستثمار الأمثل للوقت هو في المبادرة إلى العمل وعدم التسويف والتأجيل لأن الفرص تمرّ مرّ السحاب، ومن وصية النبي (ص) لأبي ذر (إياك والتسويف بعملك، فإنك بيومك ولست بما بعده، فإن يكن غدٌ لك فكن في الغد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن غداً لك لم تندم على ما فرّطت في اليوم).

          وكذلك في تنظيم الوقت وتوزيعه بدقة على الأولويات بعد تحديدها طبعاً، فتبرمج أولاً أوقات الفرائض اليومية وما يتيسر معها من مقدماتها وتعقيباتها وتلاوة القرآن، ووقت العمل والكسب، ووقت العائلة ومسؤولياتها، ووقت المطالعة وتجديد المعنويات والتأمل والتفكير، ووقت الالتزامات الاجتماعية الأخرى وهكذا.

          هذا على صعيد وظائفه الفردية، وهناك وظائف اجتماعية لعلها الأكثر إيصالاً إلى رضوان الله تبارك وتعالى، كالعمل الإنساني والخدمي وقضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم وكفالة الأيتام ورعاية المحتاجين والمسنين وإصلاح ذات البين بين الأفراد أو العشائر وغيرها كثير، وقد شجّعنا مراراً على تأسيس منظمات المجتمع المدني لبلورة جهد جماعي يغطّي هذه الفعاليات والنشاطات.

وفي وصايا النبي (ص) لأبي ذر (وعلى العاقل أن لا يكون ظاعناً –أي قاصداً ومتحركاً- إلا في ثلاث: تزوُّدٌ لمعاد، أو مرّمة لمعاش، أو لذة في غير محرّم، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما يعنيه) هذا هو الإطار العام لما يجب أن يكون عليه الإنسان في جميع حالاته ليكون في الاتجاه الصحيح بفضل الله تبارك وتعالى.

ويُحسن الاستفادة من تجارب وخطط العلماء الأكاديميين المتخصصين في إدارة الوقت (Time Management) وهم وإن كانوا يقصدون بها وقت العمل والكسب والإنتاج إلا أنها في خطوطها العامة يمكن أن تنفع في المجالات الأخرى من حيث كيفية تقسيم الوقت على الأعمال ووضع سقف زمني لإنجاز كل منها وهكذا، وإن كنّا مستغنين عنها لو التزمنا بوصايا أهل البيت (ع) وتعليماتهم.

ومن دون تنظيم الوقت ومراقبته يضيع الكثير في الفوضى وعدم التخطيط والارتباك بحيث تفقد القدرة على استثمار الوقت إذا لم تضع برنامجاً، ويتحقق الغبن في العمر الذي تحدّث عنه رسول الله (ص).

          في بعض الروايات أن أجزاء عمر الإنسان وأوقاته تعرض عليه يوم القيامة على شكل صناديق فما قضاه في خير سرّه منظره، وما قضاه في سوء أفزعه مرآه، والأكثر يراها فارغة ضاعت عليه ولم يستثمرها، فتشتد حسرته لكثرة ما ضاع منه وكان يكفيه اليسير منها لو شغلها بالطاعة كتسبيحه في ثوانٍ أو الصلاة على النبي وآله أو قراءة سورة قصيرة من القرآن الكريم أو استماع لموعظة أو التحدث بأمرٍ مفيد.

          والعاقل هو من اتعظ بهذا وهو في الدنيا ليتمكن من التعويض. في غرر الحكم عن أمير المؤمنين (ع) (لو اعتبرت بما أضعتَ من ماضي عمرك لحفظت ما بقي).

إن لقاءنا هذا وحديثنا هو نمط مثمر لما يمكن أن تكون عليه الاحتفالات أي أننا احتفلنا أيضاً لكن بطريقتنا الخاصة كما يقال.



([1]) من حديث سماحة الشيخ (دام ظله) مع طلبة جامعة الصدر الدينية فرع الكرخ الثانية في بغداد/ حي المعارف يوم الثلاثاء 2/صفر/1433 الموافق 27/12/2011 ومع فرع كربلاء وحشد من أبنائها يوم الأحد 7/صفر/1433 الموافق 1/1/2012.

([2]) راجع كتاب (نحن والغرب) وخطاب المرحلة: 1/370-372.

([3]) بحار الأنوار: 77/ 113.

([4]) راجع كتاب (مكارم الأخلاق) للطبرسي وكتاب الأطعمة والأشربة من وسائل الشيعة.

([5]) من دعائي الأربعاء والخميس في الصحيفة السجادية.

([6]) بحار الأنوار: 69/ 396.

([7]) بحار الأنوار: 74/89.

([8]) بحار الأنوار: 69/ 408.

([9]) بحار الأنوار: 70م 205.