خطاب المرحلة (325)... التذبذب في المواقف علامة الانحراف

| |عدد القراءات : 1253
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

 بسم الله الرحمن الرحيم

التذبذب في المواقف علامة الانحراف ([1])

           لا شكّ أن الحديث عن فضل العلم وطلبه، وفضل العلماء ودرجاتهم لا ينقضي، والأقلام التي تكتب عنه لا تجف ولن تجف إن شاء الله تعالى، لكنّ الحديث عن العلم وحده لا يكفي، لأنّ العلم وحده لا يكفي، ولا بد أن ينضم إليه الحديث عن العمل بهذا العلم، وإلاّ فإن الكثير ممن ضلوا وانحرفوا وأضلّوا لم تكن مشكلتهم في نقص العلم، بالعكس فقد كان لديهم علم كثير، وما استطاعوا أن يخلقوا فتنة في المجتمع، ويضلّوا أمة كثيرة من الناس إلاّ من جهة أنّ عندهم علماً فاستطاعوا التأثير في الناس، وبدون ذلك العلم لم يكن أحدٌ يعبأ بهم.

          فالعلم قد يكون وبالاً على صاحبه، والأحاديث في ذلك كثيرة حتى جعلت أشد الناس حسرة يوم القيامة شخصاً حمل علماً ونقله إلى الآخرين فاستفادوا منه، لكنّه هو لم ينتفع منه ولم يعمل به.

          وقد ذكرنا في حديث سابق مثالاً على ذلك وهو علي بن أبي حمزة البطائني الذي تزعّم انشقاقاً على الإمام الرضا (عليه السلام)، وكان عنده علمٌ كثير ورواياته تملأ الكتب وشبّهه الإمام الكاظم (عليه السلام) هو وأصحابه بالحمير ليذّكره بالآية الشريفة [مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] (الجمعة:5).

          والعمل بالعلم له ميادين (أولها) النفس فيصلحها ويهذبها ويكاملها (ثمّ) المجتمع فينقل ما تعلمه وعمل به إلى الآخرين ليساعدهم على الصلاح والهداية، فإن زكاة العلم إنفاقه وبذله للآخرين، والعلم يزكو وينمو ويباركُ فيه بالإنفاق.

          ومع وضوح هذه المقدّمة، إلاّ إننا نشهد اليوم أمثلة كثيرة على عدم العمل بالعلم وعدم تحويله إلى واقع نعيشه ونتمثله في حياتنا، في أوساط من يسمَونَ بالمتدينين فضلاً عن غيرهم، والمورد الذي أريد أن أذكره محاولة البعض منهم أن يخوض في الدنيا ويغمض في طلبها مع زعمه المحافظة على دينه وآخرته، وهو أعجز من تحقيق ذلك؛ لأن الآخرة والدنيا بهذا الشكل ضرّتان لا تجتمعان كما ورد في الأحاديث الشريفة، وكان يمكنه أن يجعل الدنيا مزرعة للآخرة، فإن الكمالات والجنان لا تنال إلاّ بهذه الدُنيا.

          فتوجد فئة من الناس تحاول أن تنال الدنيا التي فتحت أبواب كثيرة لها اليوم من الامتيازات والمصالح من خلال العمل مع جهة ما، لها نفوذها وتسلطها ومواقعها ومناصبها، مع الاعتراف بأنها لا توصل للآخرة بل تصد عنها، ويقول إنني ما زلت أرجع في الأمور الدينية إلى الجهة الفلانية التي يعتقد أنها مبرئة للذمة أمام الله تعالى، وكأنّه لا تنافي بين الأمرين، وأنّه يمكن أن يكون مع جهة في دينه، ومع جهة أخرى في دنياه، وهو بذلك يخدع نفسه [يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ] (النساء:142) فهم ممن وصفهم الله تعالى [مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً] (النساء:143).

          فمثل هذا الشخص يسقط ولا يستطيع المقاومة حتى النهاية، فإذا أراد الخير لنفسه فليحزم أمره وليتخذ موقفاً حاسماً بأن يجعل الله تعالى نصب عينيه ويختار ما فيه سلامة دينه ويتّبع الجهة التي تبرأ ذمته وتوصله إلى الفلاح فيما يحب ويكره، فيأتمر بأمرها وينتهي بنهيها ويعمل ضمن إطارها.

          وأمامنا مثالان من كربلاء وهُما يعبّران عن حالة التنازع هذه والنتيجة التي انتهوا إليها.

          أحدهما: عمر بن سعد فقد حاول أن يتجنّب قتال الحسين (عليه السلام) ويبتعد عن هذه الجريمة العظمى بالتوجه إلى إحدى الولايات، لكنّه بقي محباً للدنيا مع ابن زياد وله طمعٌ في نيل ولاية الري وجرجان، حتى وصل إلى مفترق الطريق عندما كلّفه ابن زياد بقيادة الجيش الذي خرج لقتال الحسين (عليه السلام)، وبات تلك الليلة في حيرة وترددٍ شديدين كما يظهر من أبياته الشعرية التي قالها:

أأترك ملك الري والري مُنيتي                   أم ارجع مأثــوماً بقتل حسينِ

          وخرج إلى كربلاء على رأس الجيش ولكنّه ظلّ يتأمل أن يأخذ الدنيا بيد من دون أن يخسر الآخرة باليد الأخرى وبقي أياماً في كربلاء يجتمع مع الحسين (عليه السلام) في خيمة نصبت لهما ويتبادلان الأحاديث، والإمام (عليه السلام) يبذل المحاولات لإقناعه بالعدول عن هذا الخسران المبين، حتى جاء الشمر بكتابٍ من ابن زياد يأمره بمناجزة الحسين (عليه السلام) الحرب أو ترك قيادة الجيش للشمر، وهنا سقط ابن سعد واختار الدنيا فخسر آخرته ودنياه ولم يستطع الجمع بينهما.

          ثانيهما: الحرّ الرياحي الذي كان قائداً في الجيش الأموي وخرج على رأس ألف فارس لاعتراض الإمام (عليه السلام) في الطريق بعد دخوله العراق والمجيء به إلى الكوفة، وحاول أيضاً أن يحتفظ بموقعه وامتيازاته من دون أن يتورّط في دم الحسين (عليه السلام)، فنفّذ أوامر قيادته بمنع الحسين (عليه السلام) من الرجوع إلى الحجاز، إلاّ أنّه طلب منه (عليه السلام) أن يذهب باتجاه لا يمر بالكوفة فاختار (عليه السلام) طريق كربلاء وظلّ الحر يسايره، وهو يتمنى العافية والسلامة وأن لا تنتهي الأمور إلى القتال ويبقى محتفظاً بامتيازاته، إلاّ أنه في النهاية وصل إلى ساعة الحسم يوم عاشوراء حينما وقع القتال، فعاش صراعاً قاسياً ومريراً جعله يرتعد ويرتجف بدرجة استغربها من حوله وظنوا أنّه جبنٌ من المواجهة، فقال له أحدهم: لو قيل من أشجع أهل الكوفة لما عدوناكَ فما هذا الخوف؟ قال: ويلك إنّي أخيّر نفسي بين الجنة والنار ولا أختار على الجنة شيئاً، وأدركه اللطف الإلهي واستنقذه من النار ونقله إلى حيث السعادة الأبدية، ولم يستطع أي أحد غيره أن يتخذ نفس الموقف لشدته وصعوبته.

          ولو كان كل من هذين النموذجين قد ترك طلب الدنيا وتخلّى عن زينتها الزائفة ليضمن آخرته من أول الأمر لما وقع في هذا المأزق الكبير الذي لا ينجح فيها إلاّ من عصم الله تعالى.

          وهنا تبرز الفئة الثالثة التي حسمت أمرها من البداية واتبعت الحق ولم تؤثر عليه شيئاً كعلي بن الحسين الأكبر (صلوات الله عليهما) الذي يجيب أباه لما علم منه أنّهم سائرون إلى الموت قال: أو لسنا على الحق، إذن لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا.

          فمثل هذا الفريق نجح من أول الأمر ولا يعاني ولا يجد صعوبة ولا تردداً ويمضي قدماً.

          فعلينا –أيّها الأحبة- أن نحذر أنفسنا ثم الآخرين من الإقدام على ما يوجب زلل الأقدام ويقرّب من حافة الهاوية مغترين بالقدرة على النجاة في ساحة الحسم والامتحان، فإنّها مجازفة غير مأمونة العواقب حينما نضع رجلاً هنا ورجلاً هناك، والدنيا مليئة بالامتحانات والفتن.

          وهذا ما حاوله من قبل أبو هريرة فينقل أنّه كان يصلّي مع علي (عليه السلام) ويأكل من موائد معاوية فإذا وقعت المعركة انحاز إلى الجبل، فقيل له في ذلك قال: الصلاة مع علي أتم والأكل مع معاوية أدسم والجبل أسلم، وحاول بحسب زعمه أن يحصل على الآخرة مع علي (عليه السلام) وعلى الدنيا مع معاوية، لكن هذا غير ممكن وما كان لمعاوية أن يدعه يتمتع بدنياه بلا ثمن.

          وعلينا أن نستفيد من علمنا لأنفسنا وللآخرين ونحسم أمرنا باتباع الحق وسوف يجمع الله تعالى لنا الدنيا والآخرة بفضله وكرمه.



([1]) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع إدارة وطلبة جامعة الصدر الدينية فرع الحسينية في بغداد يوم الأربعاء 12/ج1/1433 المصادف 4/4/2012.