خطبتا صلاة عيد الفطر المبارك لعام 1434 هـ

| |عدد القراءات : 8042
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

الجمعة 1-شوال-1434هـ

الموافق 9-8-2013

المرجع اليعقوبي يقيم صلاة العيد بمكتبة في النجف الاشرف

اقام سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) صلاة عيد الفطر المبارك بمكتبه في النجف الاشرف .

ثم القى سماحته (دام ظله) خطبتي صلاة العيد في حشود المؤمنين الذين حضروا الصلاة وخطبتيها .

هذا وقد تضمنت الخطبة الاولى الموسومة بـ (سلامة الدين في اعتزال الناس) توضيحاً لمعنى العزلة وبين سماحته ان معناها هو غير المعنى المتعارف وهو الانكفاء على الذات وترك الاختلاط بين الناس ووضح ذلك على عدة مستويات:

منها المباينة في العقيدة و السلوك مع اهل الباطل والانقطاع عما سوى الله وعدم التنسك باي سبب من المخلوقات .

وفي الجزء الاخير من الخطبة وضع سماحته ميزاناً للترجيح بين الاختلاط والعزلة .

اما الخطبة الثانية : الموسومة بـ(أمير المؤمنين (عليه السلام) ومكر طلّاب الزعامات)

حيث بين سماحته (دام ظله) انواع المكر و الخداع والدسائس التي واجهها الامام علي (عليه السلام) منذ اول لحظة تحمله مسؤولية الامامة وقيادة الامة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه واله) وانتهاءاً بأيام خلافته (عليه السلام) وتصديه لشؤون الامة حين واجه العتاة و الدهاة الماكرين .

هذا ولفت سماحته (دام ظله) الى التباين الواضح بين سياسة الامام علي (عليه السلام) وسياسة خصومه الذي يمثل المفارقة الدائمة بين المنهجين والذي لا يختص بزمان دون زمان حتى زماننا الحاضر وفي النهاية الخطبة عرض سماحته بعض الاساليب الماكرة التي تدبر اليوم لخداع الشعوب وترويضها والسيطرة عليها وتسييرها في ظل الديمقراطيات الشكلية وما تنتجه الماكنة الاعلامية الكبيرة و المسيسة.

كما تطرق سماحته الى الاساليب الماكرة المستخدمة لتحصيل المواقع الدينية المقدسة وما تقوم به بعض الجهات المتنفذة من صناعة الزعامة التي يريدونها مستندين في ذلك على سياسة التجهيل المتبعة مع الاتباع و المريدين على طول الخط .

وفيما يلي النص الكامل لخطبتي صلاة عيد الفطر المبارك لعام 1434هـ

 

الخطبة الاولى :

بسم الله الرحمن الرحيم

سلامة الدين في اعتزال الناس([1])

          الإسلام دين الاجتماع والتواصل ومظاهر ذلك كثيرة كالحج وصلاة الجماعة والجمعة ومنها تشريع العيد ففي دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) في وداع شهر رمضان عن يوم الفطر (الذي جعلته... لأهل ملتك مجمعاً ومحتشدا ) وفي الرواية عن الإمام الرضا (عليه السلام): (إنما جُعل يوم الفطر العيدَ ليكون للمسلمين مجتمعاً يجتمعون فيه ويبرزون لله عز وجل فيمجدونه على ما منَّ عليهم، فيكون يومَ عيدٍ ويوم اجتماع)([2])، وهو دين إعمار الحياة المثمرة وبناء الأمة الصالحة الوسط الشاهدة على الناس جميعاً.

مضافاً إلى أن وظائف كثيرة لا يمكن القيام بها إلا بالتواصل مع الناس كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتكافل الاجتماعي وتعليم أحكام الدين.

وورد النهي عن الترهّب وترك إعمار الحياة كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ليس في أمتي رهبانية)([3])، ويشرح (صلى الله عليه وآله وسلم) معناها لعثمان بن مضعون عندما أراد الترهب: (إن ترهّب أمتي الجلوس في المساجد انتظاراً للصلاة) فيعطي (عليه السلام ) للرهبانية معنى اجتماعياً واسعاً خلافاً للمعروف عنها .

ويخاطب أمير المؤمنين (عليه السلام) العلاء بن زياد الحارثي لما اعتزل الحياة وترهب: (يا عُدَيَّ – تصغير عدو- نفسه: أترى أن الله أحلّ لك الدنيا وهو يكره أن تأخذ منها؟)([4]).

          في مقابل ذلك توجد روايات كثيرة حثّت على الانفراد والعزلة عن الناس وذكرت فضل العزلة والآثار المباركة فيها كقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (العزلة عبادة) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (في الانفراد لعبادة الله كنوز الأرباح) وعنه (عليه السلام): (ملازمة الخلوة دأب الصلحاء) وعنه (عليه السلام): (الوصلة بالله في الانقطاع عن الناس)([5]) وعن الإمام الرضا (عليه السلام): (يأتي على الناس زمان تكون العافية فيه عشرة أجزاء، تسعة منها في اعتزال الناس وواحدة في الصمت)([6]).

       وهنا قد يثار إشكال منشأه وجود التنافي بين التوجيه بالعزلة والمنحى الاجتماعي لدين الإسلام؟

          ويجاب هذا الإشكال بأكثر من مستوى:

الأول: أن نضع هذه الأحاديث في موضعها الصحيح ولا نأخذها على إطلاقها، ونتعرف على المخاطبين بها وحالاتهم، ومن تلك الحالات التي خاطبتها هذه الأحاديث المحبِّبة للعزلة:-

1-   وهي أوضحها: عندما يكون الاختلاط بالناس سبباً للوقوع في المعاصي فإن المجالس لا تخلو غالباً من المحرمات بل الكبائر، وعلى رأسها الغيبة التي جعلوها فاكهة المجالس، وهي من الموبقات التي توجب إحباط العمل وذهاب الدين، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (الغيبة أسرعُ في دين الرجل المسلم من الأَكْلَة في جوفه) وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن الرجل ليؤتى كتابه منشوراً فيقول: يا ربِّ، فأين حسناتُ كذا وكذا عملتُها ليست في صحيفتي؟ فيقول: محيت باغتيابك الناس)([7]) ووصفتها بعض الروايات بالنار التي يرسلها على مغروساته – وهي الأعمال الصالحة - فيحرقها. 
    وينبغي الالتفات إلى أن المجالس لا تختص باللقاءات المباشرة بل تشمل اليوم ما يحصل من حوارات ولقاءات عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتؤدي أحياناً إلى أمور محرمة كأحاديث الحب والغرام مع الجنس الآخر من دون مسوِّغ شرعي، وبعضهم يستفتي عن جواز تبادل هذه الأحاديث بين امرأة متزوجة ورجال أجانب من دون علم الزوج ويسأل هل هذا جائز؟ فتصوروا الانحدار والتسافل!.       
    فهذه الموبقات وأمثالها من نتائج الاختلاط غير المنضبط، لذا كان في العزلة الحفاظ على الدين وعلى ما حصل عليه من الطاعات. عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (العزلة سلامة) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (لا سلامة لمن أكثر مخالطة الناس) (سلامة الدين في اعتزال الناس) (من اعتزل سَلِم ورعُه) (مداومة الوحدة أسلم من خلطة الناس)([8])، ولذا قيل إن ((في العزلة صيانة الجوارح وفراغ القلب وسلامة العيش وكسر سلاح الشيطان والمجانبة من كل سوء وراحة الوقت، وما من نبي ولا وصي إلا واختار العزلة في زمانه إما في ابتدائه وإما في انتهائه))([9]).

2-  عندما يكون الاختلاط مع الناس والحضور في مجالسهم مسبباً لتشوش الفكر بالأحاديث الفارغة المضيِّعة للوقت وتسمى مجالس البطّالين، وقلنا أنها تشمل ما يعرَف اليوم بالحوار عبر الإنترنت والرسائل القصيرة ومكالمات الهواتف المحمولة، وأغلب لقاءات الناس ومجالسهم ومحادثاتهم من هذا القبيل، فكل ما يدور فيها هذر من الكلام وعبث ولهو باطل كأحاديث الألعاب الرياضية أو الشؤون العائلية الخاصة بالناس الآخرين.     
    فإذا تشوش الفكر بهذه الأحاديث فإنه لا يكون مؤهلاً للإقبال على الله تبارك وتعالى والأنس بذكره، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (من انفرد عن الناس أنس بالله سبحانه) (الانفراد راحة المتعبدين) وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (لو ذُقتَ حلاوة الوحدة لاستوحشت من نفسك) ومن حِكم لقمان: (إن طول الوحدة أفهم للفكرة، وطول الفكرة دليل على طريق الجنة).    لذا كان اعتياد هذه المجالس سبباً للحرمان من القرب الإلهي كما في دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) في ليالي شهر رمضان: (أو لعلك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني أو لعلك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلك رأيتني آلف مجالس البطالين فبيني وبينهم خلّيتني)، وفي وصية الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم: (الصبر على الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل عن الله اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند الله، وكان الله أنيسه في الوحشة، وصاحبه في الوحدة، وغناه في العيلة، ومُعِزَّه من غير عشيرة).

3-  عندما لا يكون الفرد قادراً على أداء حق الاختلاط مع الناس ومراقبة ما يجري فيها ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فمثل هذا يكون الأفضل له تجنب الاختلاط إلا بما هو ضروري حتى لا يكون من الساكتين على الباطل والراضين بالظلم، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن قدرت أن لا تخرج من بيتك فافعل، فإن عليك في خروجك أن لا تغتاب ولا تكذب ولا تحسُد ولا ترائي ولا تتصنع ولا تداهن) وعنه (عليه السلام) قال: (أقلُّ ما يجد العبد في الوحدة الراحة من مداراة الناس).

 

الثاني: أن نفهم من معنى العزلة غير المعنى المتعارف وهو الانكفاء على الذات وترك الاختلاط بالناس فلا يرد الإشكال أصلاً، وإنما يراد باعتزال الناس مباينتهم في السلوك والأفعال المخالفة للشريعة، فلا مانع من أن يعيش المؤمن وسط المجتمع بكل فئاته بشرط أن يكون متميزاً بعقيدته وأخلاقه وسلوكه وتقييمه للأمور عن أهل المعاصي ولا يتأثر بشيء من انحرافاتهم أو يداهن أو يجامل أو يتنازل عن شيء، وبثباته ومبدئيته سوف يكون موقفه قوياً مؤثراً في الآخرين وهادياً ومصلحاً لهم.

          وهذه المباينة في العقيدة والسلوك مع أهل الباطل جعلها الله تعالى في القرآن الكريم علامة فارقة لسلوك الأنبياء (عليهم السلام) مع مخالفيهم والمتمردين عليهم، قال تعالى: [بِسمِ اللهِ الرَحمَنِ الرَحِيمِ، قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ] (الكافرون: 1- 3) وقال تعالى: [وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً، فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيّاً] (مريم: 48، 49).

          إن الاختلاط وعدم التمايز في الرؤية والتوجهات والسلوك بين المؤمن وغيره خطير جداً لأنه يؤدي لتشويه صورة الدين وتمييعه وتضييع هويته وانحراف أحكامه حتى يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً والأخطر من ذلك أنه يعطي مشروعية للانحراف والفساد بعد أن اختلط الحق بالباطل ولم يبق مائزٌ بينهما.

          خذ مثلاً سلوك السياسيين فهل تجد فرقاً بين من يرفع شعاراً إسلامياً ويعتبر حزبه إسلامياً وبين الآخرين؟ فإذا لم تجد فرقاً من حيث الفساد والاستئثار بأموال الشعب والأنانية وعدم الاكتراث بحال الشعب وعدم الاهتمام بإعمار البلد وازدهاره، فماذا سيبقى في يدك من أدوات لإقناع المجتمع بمشروع الإسلام ونظامه في سياسة الأمة وإدارة شؤون البلاد؟.

          وهكذا على صعيد السلوك الشخصي إذا كان (المتدين) يكذب ويخلف الوعد ويغشّ ويعتدي على حقوق الآخرين ويفتري عليهم ويكيد لهم فكيف سيحب الناس التدين والالتزام بالشريعة؟.

          وللعلم فإن أهل الباطل يحاولون جاهدين لاستدراج أهل الحق حتى يكونوا مثلهم، كما لو وُجد موظف نزيه مثابر في عمله يخدم الناس بإخلاص فإنهم يقومون بكل وسائل الضغط والترغيب والترهيب ليتخلى عن مبدأيته ويصبح مثلهم، ليعطوا المبررات لأنفسهم ويتخلصوا من محاسبة الضمير وليصبغوا أفعالهم بالشرعية، فالعزلة والاعتزال الذي حثت عليه الآيات الكريمة والروايات الشريفة يعني إبقاء الخط الفاصل بين المنهجين والسلوكين والرؤيتين.

الثالث: أن يكون الاعتزال بمعنى الانقطاع عما سوى الله تعالى وعدم التمسك بأي سبب من المخلوقات، عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (لا يكون العبد عابداً لله حق عبادته حتى ينقطع عن الخلق كلهم إليه فحينئذٍ يقول: هذا خالص لي، فيقبله بكرمه)([10]).

          فذِكرُ الله تعالى والتمسك بالنبي وآله الكرام (صلوات الله عليهم وسلامه) وولاية أهل البيت (عليهم السلام) هو الكهف الذي نكون فيه دائماً ونأوي إليه باستمرار وان كنّا في أوساطهم ، قال تعالى: [وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً] (الكهف:16).

          روى لي السيد الشهيد الثاني (قدس سره) هذه القصة ويبدو أنها حصلت له بعد معاناة اعتقاله عام 1974 قال: ((إنني يوماً فتحت القرآن الكريم لأجد فيه منزلتي أمام الله سبحانه أو قل – بالتعبير الدنيوي- (رأي) الله فيَّ، فخرجت هذه الآية من سورة الكهف: [وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً]، إن كل هذه الآية مفهومة لي بحسب حالي يومئذٍ إلا قصة (الكهف) الذي يكون من المطلوب أن آوي إليه، أي كهفٍ هذا؟ وذهبت إلى الحرم العلوي (على ساكنها السلام) عسى أن ينفتح لي هناك عن هذا المعنى، وبدأت بزيارة (أمين الله) حتى وصلت إلى قوله (عليه السلام): (اللهم فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك راضية بقضائك.. إلى قوله: يا كريم) وقد حصل لي في تلك اللحظة (حدس) قوي بأن الكهف الذي يجب أن أدخله هو هذا، أي أن تصبح نفسي على هذه الأوصاف وتجانب ما سواها، وقد عرضت ذلك على (مولاي) فأقرّه وقال بصحته))([11]).

          وفي ضوء ما تقدم يندفع الإشكال وأن المعاشرة مع الآخرين أفضل من العزلة إذا كانت مثمرة ونافعة ويؤدي فيها الفرد وظائفه ولا تستدرجه المجاملات إلى الوقوع في المعاصي؛ لأن الاختلاط مع الآخرين يوفر فرصاً عظيمة للطاعة كقضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم وهدايتهم وإرشادهم و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك.

          روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على اذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على اذاهم) وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لرجل أراد الجبل ليتعبد فيه: (لصبرُ أحدكم ساعة على ما يكره في بعض مواطن الإسلام خير من عبادته أربعين سنة)([12])، وعليه أن يكون يقظاً ملتفتاً حتى لا يتسبب اختلاطه مع الناس بالوقوع في المعاصي أو تشويش فكره بفضول الكلام، وأن يلتزم بمبادئه والأفعال الموافقة للشريعة ويعتزل سلوكياً الآخرين ويحذر من مناهجهم ورؤيتهم.

          أما من لا يملك الشجاعة والمعرفة والقدرة على أداء وظائفه مع الآخرين فالحل المناسب له تقليل اختلاطه بالناس والاقتصار على مقدار الضرورة وأن يحرص على مجالسة ومحادثة من يقرّبه إلى الله تعالى، روي الإمام الصادق (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (قالت الحواريون لعيسى (عليه السلام): يا روح الله، مَن نجالس؟ قال: من يذكّركم الله رؤيته ويزيد في علمكم منطقه ويرغّبكم في الآخرة عمله)([13]) وفيه إشارة إلى أن من لم تستفد منه هذه الأمور فلا تضيّع وقتك([14]) وعمرك الثمين بمجالسته أو محادثته عبر الإنترنت وأجهزة الاتصال ومصاحبته، فكيف بمن تكون مجالسته سبباً لعكس هذه الصفات كما هو حال أغلب الناس مع الأسف؟ لذا ورد في بعض الأحاديث: (فرَّ من الناس فرارك من الأسد)([15]).

          إن المؤمن له أنس بربّه لا يستوحش معه ولا يحتاج إلى غيره إلا بمقدار الضرورة، وينفر من مخالطة الناس أزيد من ذلك ومجاملتهم ومداهنتهم، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (ما من مؤمن إلا وقد جعل الله له من إيمانه أنساً يسكن إليه حتى لو كان على قلّة جبل لم يستوحش)([16]) وروي عنه (عليه السلام) قوله: (خالط الناس تخبرهم ومتى تخبرهم تَقْلِهم – من القلى أي البغض والاجتناب-).

 فترجيح الاختلاط او العزلة وتحديد مقدارهما يدور مدار ما يقربّك الى الله تبارك وتعالى ويجنّبك معصيته ولا يحرمك من طاعته .

          وعلى أي حال فإن الاعتزال فترة محددة أمر مفيد، فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعتزل الناس في غار حراء في مكة، أما في المدينة فقد كان يطوي فراشه ويشد مئزره للعبادة في العشرة الأواخر من شهر رمضان.

          ولأجل تحقيق هذا النقاء وتصفية الباطن لله تعالى شُرّع الاعتكاف في المساجد، وقد وردت الأحاديث في فضله وآثاره المباركة.

ونثني هنا على المبادرة التي يقوم بها جمع كبير من الشباب وطلبة الجامعات منذ عدة سنوات بإقامة العشر الأواخر من شهر رمضان إلى جوار أمير المؤمنين (عليه السلام) ويُنظَّم لهم برنامج عبادي وتثقيفي مفيد بفضل الله تبارك وتعالى.

الخطبة الثانية :

بسم الله الرحمن الرحيم

أمير المؤمنين (عليه السلام) ومكر طلّاب الزعامات([17])

كان من أقوى الأسلحة التي فتكت بجيش أمير المؤمنين (عليه السلام) ومجتمعه وأوهنت دولته وأضعفتها هو مكر الاعداء وخُدعهم حتى عبّر عنه بقاصم الظهر قال (عليه السلام) (ما قصّم ظهري إلا رجلان : عالم متهتك وجاهل متنسك ,هذا ينفّر عن حقه بهتكه ,وهذا يدعو الى باطله بنسكه)[18] ومحل الشاهد هو الاول وهو الذي عنده علم وفكر وفطنة إلا انه يستخدمها في المكر وخداع الناس وإبعادهم عن الحق.

وقد واجه الامام (عليه السلام)  الوان المكر والخداع من اول لحظة لتحملّه مسؤولية الإمامة وقيادة الأمة بعد وفاة رسول الله(9) عندما نفى زعماء الانقلاب موت رسول الله (9) وهددوا بالقتل كل من يقول بذلك حتى لا تتوجه الأمة الى الخليفة الشرعي وليكسبوا الوقت حتى يعدّوا العدّة ويهيئوا الأمور لمن يريدون وهذا ما حصل، وقد تناولته في خطاب سابق.

والى أيام خلافته وتصدّيه لشؤون الأمة حين واجه العتاة والدهاة والماكرين كمعاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة كخدعة رفع المصاحف في معركة صفّين التي شقّت جيش الإمام (عليه السلام) فنشأت فرقة الخوارج، وكان (عليه السلام) يلام على انه ليس بمستوى دهائهم وانه غير مؤهل لقيادة الدولة لان الدهاء والخداع من مقومات السياسة وتدبير السلطة ,فيتأسف (عليه السلام) لهذه الانتكاسة في الأمة وانقلاب الموازين في تصوراتها، قال (عليه السلام) (ولقد أصبحنا في زمانٍ قد اتخذ أكثر أهله الغدر كَيساً – أي الفطنة والذكاء -، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم - قاتلهم الله - قد يرى الحُوّل القُلّب – وهو البصير بتحولات الأمور وتقلبيها - وجه الحيلة , ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين)([19]) فيصف نفسه بأنه عارف بالأمور ووجوهها وعواقبها ويعرف كيف يحقق مراده ويصل الى مطلوبة لكن كثيراً من تلك الوسائل مخالفة لأوامر الله تعالى ,فيتركها لله تعالى وهو قادر عليها ,لكن خصومه لا يتورعون في دينهم وليس عندهم تقوى تحدّد له بوصلة سلوكهم فيقتحمون تلك الوسائل الشيطانية .

ومن كلام له (عليه السلام) في نفس السياق قال (عليه السلام) (واللـه ما معاوية بأدهى منّي ، ولكنه يغدرُ ويفجُرُ . ولولا كراهيةُ الغدر لكنت من أدهى الناس . ولكن كلّ غَدرة فَجرة وكلّ فَجرة كَفرة ، ولكلّ غادرٍ لواءٌ يُعرف به يوم القيامة . واللـه ما أُستغفل بالمكيدة ولا أُستّغمز بالشديدة)[20]

فالإمام (عليه السلام) وإن كان لا يستعمل الدهاء والمكر لأن فيه سخط الله تعالى إلا ان ذلك لا يعني أنه مغفّل تنطلي عليه المكائد ولا يلتفت اليها ,ولا انه ممن يضغط عليه ويستضعف بالقوة ليغيّر مبادئه التي يؤمن بها .

ويعلل الإمام (عليه السلام) في الخطبة السابقة سبب رفضه لتلك السياسات بقوله (ولا يغدِرُ من عَلِم كيف المرجِع) أي أن من علم أن مآل الأنسان إلى الموت والدنيا إلى الفناء ثم يحشر ليحاسب على أعماله فانه لا يقدم على ما يضّره في اخرته.

وهذا التباين الذي ذكره الإمام (عليه السلام) بين سياسته وسياسة خصومه يمثّل المفارقة الدائمة بين المنهجين ولا يختص بزمان دون زمان حتى زماننا الحاضر ,واليكم بعض الأساليب الماكرة التي تدَّبر اليوم لخداع الشعوب والسيطرة عليها والتحكم فيها وسوقها الى ما يريده الحكام:

1-  ما يسمى بالمصطلح ( ركوب الموجة) بان يستغل السياسيون مطالب حقيقية ومشروعة للشعب فينادي بها لكسب الجماهير اليه والتقوّي بهم للضغط على خصومه لتحصيل مكاسب اكبر سواء كانوا داخل الحكومة او خارجها، كمطلب تحسين الخدمات وإيجاد وظائف للعاطلين او معالجة الخروقات الأمنية او الغاء الرواتب التقاعدية الباهظة للبرلمانيين وأمثالهم وهي مطالب مشروعة نؤيدها وندعمها لكن جهات شبابية مجهولة تحاول تحريك الناس تحت عنوان هذه المطالب لأغراض معينة على راسها السيطرة على توجيه المجتمع والتحكم بحركته وانتزاع قيادته لتكون بيد جهات خفية تعمل على مواقع التواصل الاجتماعي وبدعم داخلي وخارجي مالياً واعلامياً وسياسياً وليضغطوا بذلك على الجهات الفاعلة على الارض حتى تسير في ركابهم .

2-   الهاء الشعوب بالألعاب والمتع واللهو والعبث لأشغالهم عّما يجري من فساد وظلم وطغيان وتحويل انتباههم الى اللهو واللعب بدلاً من القضايا الحيوية والاهداف الحقيقية والحركة الواعية البناءة الى ترفض ظلم وفساد اولئك الحكام ,وهذه السياسة يسمونها (استراتيجية الالهاء)[21] وتشمل سيلاً لا ينتهي من الالعاب والبطولات والمسابقات والمهرجانات ونحو ذلك.

3- خلق المشاكل وافتعال الازمات لتمرير سياسات معينة تكون مرفوضة في الوضع الطبيعي مثلاً يريدون تخفيض دعم السلع الاساسية او الضمان الاجتماعي او الخدمات العامة كالصحة والتعليم فيخلقون ازمات مالية ليقنعوا الشعب بضرورة اتخاذ هذه الاجراءات.

     او يريدون مثلاً وضع الشعب تحت المراقبة والتجسس عليه وجمع المعلومات التفصيلية عنه وتقييد حرياته وحركته، او اعتقال وتصفية المعارضين، فيفتعلون مشكلة أمنية كتفجيرات مثلاً او اظهار اعترافات شبكة تجسس وهمية وهكذا مما يجعل اتخاذ تلك الاجراءات أمراً مقبولاً وتسمى هذه السياسة (ابتكر المشاكل ثم قدّم الحلول)

4-   استراتيجية التدرّج :باعتماد التدريجية في تطبيق التكتيكات حتى يصلوا الى النتيجة التي يريدونها ولو فعلوها مباشرة لأحدثت ضجة وثورة عارمة كبعض الاجراءات الاقتصادية والاجتماعية ,وقد تطول المدة او تقصر بحسب أهمية القضية مثلاً يريدون تقليل الرواتب فيتركون حالة البطالة تزداد ويستقدمون عمالة اجنبية رخيصة فيرضى المواطن بأقل ما يمكن.

5-   استثارة العاطفة بدل الفكر لتعطيل حالة الوعي والتأمل والتحليل وتمييز ما هو عقلاني عن غيره فيفقد الأنسان قدرته على النقد البنّاء الذي يقود عملية الاصلاح كما ان استعمال المفردات العاطفية يسمح بالمرور الى اللاوعي حتى يتم زرعه بأفكار ورغبات ومخاوف ونزعات او سلوكيات.

6- إبقاء الشعب في حالة جهل وحماقة بطريقة يكون غير قادر على استيعاب الطرق المستعملة للتحكم به واستعباده بان تكون نوعية التعليم المقدّم للطبقات السفلى هي النوعية الافقر حتى تبقى الهوّة المعرفية التي تفصل الطبقات السفلى عن العليا غير مفهومة من قبل الطبقات السفلى.

7-  التعويض عن الثورة ورفض الظلم والفساد بالإحساس بالذنب بجعل الفرد يعتقد انه المسؤول الوحيد عن تعاسته وان سبب مسؤوليته تلك هو نقص في قدراته وقابلياته او تقصير في جهوده فيقوم بامتهان نفسه بدل التحرك للتغيير والاصلاح.

ولا يخفى عليكم سريان بعض هذه الاساليب الى الشعائر الدينية وهو ما نبهنا عليه في خطابات سابقة.

 هذه نماذج من وسائلهم لترويض الشعوب وتسييرها في ظل الديمقراطيات الشكلية مستفيدين من ماكنة إعلامية مؤثرة وتمويل ضخم مصدره ما سرقوه من أموال هذه الشعوب المغلوبة على أمرها.

     وأما المكر المستخدم لتحصيل المواقع الدينية المقدّسة فهو لا يقل دهاءاً عن هذه ويقترب من جملة منها كالذي ذكرناه من فعل الانقلابيين بعد رسول الله (9) او ما تقوم به بعض الجهات المتنفذّة بصناعة الزعامة التي يريدون ويسوّقونها الى الاتباع والمريدين الذين لا يتمكنون من المناقشة والتأمل لطول سياسة التجهيل المتبعة معهم ولأنهم اوهموهم بأن في ذلك خروجاً عن الدين ونحو ذلك فيسلّمون بالنتيجة وهذه أخطر حالات المكر التي تتعرض لها الأمة وهي راضية بحالها مستسلمة للأغلال التي كبلّوها بها ولا تسمع الى العلماء المخلصين العاملين الواعين.

2

1

([1]) الخطبة الأولى التي ألقاها سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف) لصلاة عيد الفطر السعيد يوم الجمعة عام 1434 الموافق 9/آب/2013 م.

([2])  من لا يحضره الفقيه: 1/522، ح 1485.

([3])  بحار الأنوار: 70/115 عن الخصال للصدوق: 1/138.

([4])  نهج البلاغة:

([5])  راجع مصادرها في ميزان الحكمة: 6/17.

([6])  سفينة البحار: 6/233 عن كمال الدين.

([7])  ميزان الحكمة: 6/506.

([8])  ميزان الحكمة: 6/18.

([9])  سفينة البحار: 6/233.

([10])  بحار الأنوار: 70/112 عن عدة الداعي: 233.

([11])  قناديل العارفين: 153.

([12])  نقلها عن مصادرها في ميزان الحكمة: 6/19.

([13])  سفينة البحار: 6/235.

([14])  عن الإمام الباقر، عن آبائه عليهم السلام في وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام قال: (يا علي من لم ينتفع بدينه ولا دنياه فلا خير لك في مجالسته..) مكارم الأخلاق، وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام).

([15])  في مصباح الشريعة: روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (قال عيسى بن مريم عليهما السلام: اخزن لسانك لعمارة قلبك، وليسعك بيتك وفرّ من الرياء وفضول معاشك، وابك على خطيئتك، وفرّ من الناس فرارك من الأسد والأفعى، فإنهم كانوا دواء فصاروا اليوم داء، ثم الق الله متى شئت) نقلاً عن بحار الأنوار: 67/110.

([16])  الحديث وما بعده في بحار الأنوار: 70/111 عن عدة الداعي: 232.

[17] ) الخطبة الثانية التي ألقاها سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف) لصلاة عيد الفطر السعيد يوم الجمعة عام 1434 الموافق 9/آب/2013 م.

[18]) غرر الحكم /9665

[19] )نهج البلاغة : 115 الخطبة (41)

[20] نهج البلاغة : 432 الخطبة (198)

[21] بعض هذه الكلمات لخصّها أحد الاخوة الواعين من كتاب (أسلحة صامتة لحروب هادئة) لعالم الاجتماع الأمريكي (افرام نعوم تشومسكي)