الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح
بسم الله الرحمن الرحيم
الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح([1])
بالأمس كان هنا وفد من المصلين في جامع الرحمن في منطقة سبع البور شمال بغداد التي استهدفها تفجير انتحاري مجرم([2]) أثناء إقامة صلاة العشاءين فاستشهد (15) بينهم إمام المسجد وأخواه وجرح (25)، وكان مع الوفد عدد ممن أصيبوا في الحادث وقد أشاروا في حديثهم إلى أنّ عدد المصلين ازداد بعد هذا الحادث المروِّع، كما ازداد عدد السيارات التي تتوجه أسبوعياً من المنطقة لزيارة الإمامين العسكريين ورفع الغربة عن روضتهما المطهرة في سامراء.
ومن لطيف الصدف أن تكون زيارتهم في يوم ذكرى واقعة مشابهة حصلت في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) تسمى (حمراء الأسد) بعد معركة اُحُد بيوم أو أكثر وهي غزوة لا يعرف تفاصيلها إلاّ من ندر، وفيها درس ينطبق على الوفد الزائر وعلى واقعنا المعاصر وهو من دروس واقعة اُحُد وتداعياتها.
وقد تضمنت سورة آل عمران في القرآن الكريم دروساً ومواقف وعبر من معركة (اُحُد) التي عصى فيها بعض المسلمين أوامر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وركنوا إلى الدنيا فتحولّ النصر الذي تحقق على يد أمير المؤمنين (عليه السلام) في بداية المعركة إلى هزيمة للمسلمين فاستشهد (70) على رأسهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعاد المشركون متجهين إلى مكة، لكنّهم تلاوموا في الطريق بأنّهم لم يقضوا على النبي (صلى الله عليه وآله) ولا سيطروا على المدينة لاستئصال الدين الجديد فقرروا العودة باتجاه المدينة.
فنزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخبرهم بعزم قريش وأن تكليفه الخروج بمن معه لمواجهتهم وإراءتهم أن ما حلّ بهم يوم اُحُد لم يضعف عزيمتهم ولم يُقلل من قوّتهم واشترط أن لا يخرج معه إلاّ من شهد اُحُداً، وكانوا مثخنين بالجراح مفجوعين بأحبتهم ومهزومين معنوياً، فاستجابوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وخرجوا معه لملاقاة قريش المزهوة بالانتصار والتي تفوقهم عدة وعدداً وأعطى أبو سفيان أموالاً لبعض القوافل المتجهة إلى يثرب ليخوِّّف المسلمين ويرعبهم وأنّ قريش قد جمعت لكم الجموع لكنّهم أصرّوا على المضي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالوا: (حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران/173).
روى في الدرّ المنثور ((أنّ رجلاً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الأنصار كان شهد اُحُداً قال: شهدتُ مع الرسول (صلى الله عليه وآله) اُحُداً، أنا وأخٌ لي فرجعنا جريحين، فلما أذّن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي أو قال لي: تفوتنا غزوة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ مالنا من دابة نركبها وما منّا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكنت أيسر جرحاً منه، فكنت إذا غُلِب حملته عقبة ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى انتهى إلى حمراء الأسد وهي من المدينة على ثلاثة أميال فأقام بها ثلاثاً ثم رجع إلى المدينة)([3]) لأن أبا سفيان لما علم بخروج النبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه الموتورين في اُحُد خشي أن يقابلهم وهم قادمون للانتقام من قريش، مضافاً إلى شخصاً ممن أسلم حديثاً لكنه لم يعرف أبو سفيان بإسلامه توجّه إلى أبي سفيان وحذّره من ملاقاة المسلمين لأنهم خرجوا عن بكرة أبيهم لينتقموا من قريش وتسمى هذه الغزوة (حمراء الأسد) باسم الموضع الذي مكث فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) منتظراً قدوم قريش.
وإنما ذكرتُ ملخص الواقعة لأن القليل ممن يعرفها، ولا شك أن معرفتها توفّر بيئة لفهم الآيات المتعلقة بها ليستطيع تدبّرها وأخذ الدرس منها، قال تعالى (الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ) وهم من شاركوا في اُحُد وأصيبوا لكنهم استجابوا لدعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخرجوا معه (مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ) وهو القتل والجرح والآلام في معركة اُحُد (لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) فالقبول لا يكون إلا من الذين اتقوا والذين هم محسنون: (الذين قال لهم الناس) وهم من بعثهم أبو سفيان لإرعاب أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) وهم قريش (فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) وكان هذا دليل نجاحهم في الاختبار وصحة إيمانهم (فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ) وهو الأجر العظيم الذي ذكر آنفاً وانتصارهم على الخوف الذي زرعه فيهم الشيطان وأولياؤه، وفي تحوِّل هزيمتهم إلى نصر حيث راحوا يلاحقون قريشاً وفي تحوّل نصر قريش إلى هزيمة حيث جبنوا عن لقاء النبي وأصحابه وآثروا الرجوع إلى ديارهم (لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) إذ دفع الله تعالى عنهم قريش ولم يحصل قتال (وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران: 172-174).
إنّنا في العراق نصاب يومياً بالجروح والقروح حتى إنه لم يبق مكان آمن من التفجيرات والاستهدافات فما أحوجنا إلى استلهام هذا الدرس والاستفادة منه بأن لا نشعر بالإحباط واليأس مما يحلُّ بنا، بل نلملم جراحنا ونتقدم في العمل حتى نحصل على ما ذكرته الآية الشريفة (فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ) (آل عمران/174) فإن هذا هو ما نبحث عنه ونريده وهو هدفنا، وليس نريد شيئاً مما يريده أهل الدنيا حتى إذا فاتنا ينتهي كل شيء، وإذا تخلينا عن أهدافا وهويتنا بسبب هذه الأعمال الوحشية فقد أعطينا للعدو مراده، فالرد الصحيح هو بالمضي في العمل الرسالي الذي يرضي الله تبارك وتعالى ورفع الهمّة والعزيمة في التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
والمثال الآخر لهذه المواقف الربانية ما حصل في حسينية حبيب بن مظاهر القريبة من جامعة الإمام الصادق (عليه السلام) في حي القاهرة ببغداد وكان يرتادها جمع من طلبة الجامعة لأداء صلاة الظهرين ويطالعون دروسهم استعداداً للامتحانات، فامتدت يد الحقد والحسد والتكفير إلى هذه الفئة الصالحة وفجّر انتحاري نفسه وسط الجمع ثم تلاه آخر([4])، وكانت حصيلة التفجيرين (31) شهيداً و (57) جريحاً، والذي حصل بعد الحادث زيادة المصلين في الحسينية من الطلبة الجامعيين وأبناء المنطقة وتصدي أحد الفضلاء لإمامة الجماعة فيها.
إن هاتين الجماعتين خير مثال لقول أمير المؤمنين (عليه السلام) (بقية السيف أبقى عدداً وأكثر ولدا)([5]) لأنها استجابت لله ولرسوله بعد أن أصابهم القرح وقد وعد الله تعالى بأنهم يعودون بنعمة من الله وفضل أسوة بأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين خرجوا معه إلى (حمراء الأسد).
إن الوقائع التي يحكيها القرآن الكريم ليست حوادث تاريخية وقصصاً تذكر للتسلية والإطلاع بل هي دروس حيّة ورسالة هداية وإصلاح وثبات على صراط الحق لجميع الأجيال حتى يوم القيامة، ومنها هذه الآيات سورة آل عمران التي لم تكن مفهومة بهذا الشكل قبل أن نتعرف على بيئتها وظروفها، وعرفنا الآن إنها دعوة للثبات والاستمرار في الاستجابة لله ولرسوله في بناء النفس وإصلاح المجتمع ورفع المعنويات غير متأثرين بالمصائب والآلام.
([1]) من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع موكب السراج المنير من القرية العصرية في الناصرية يوم 17/شوال/1434 المصادف 25/8/2013.
([2]) وقع الحادث يوم السبت 12/شعبان/1434 المصادف 22/6/2013 وقد نشرت صحيفة الصادقين بيان سماحة المرجع عن الحادث.
([3]) الدر المنثور: 2/387.
([4]) وقع الحادث يوم الثلاثاء 8/شعبان/1434 المصادف 18/6/2013.
([5]) نهج البلاغة، قصار الحكم: 81.