القوى الناعمة والمنبر الحسيني

| |عدد القراءات : 4049
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

 

بسمه تعالى

القوى الناعمة والمنبر الحسيني[1]

          بدأ في السنين والعقود الاخيرة تداول مصطلح "القوى الناعمة" ووضعت الكتب لشرحه والياته وقوة تأثيره، وهم يقصدون به الادوات والوسائل التي يستطيعون بها التأثير على الاخر وغزوه واختراقه وتطويعه للأجندة المرسومة له من دون استعمال السلاح والماكنة العسكرية.

وحينما يطلقون هذا المصطلح فانهم يريدون منه بشكل رئيسي "الاعلام" ويسمونه بالسلطة الرابعة بكل ادواته المؤثرة، ومن الواضح ان تأخر استعمال هذا المصطلح لا يعني ان هذه القوة الناعمة لم تكن مستعملة واكتشفت الان، فمنذ الازمنة الاولى كانوا يستفيدون منها بالإعلام المضلِل وقلب الحقائق وتزييف الوقائع وبث الاشاعات لإحباط الخصم وتثبيط معنوياته واحداث حالة الرعب والارباك لديه وتشويش افكاره ومعتقداته وتحويله الى اداة طيّعة لما يريدون منه.

ومن الشواهد التاريخية على ذلك التورية التي كان يستعملها النبي (صلى الله عليه واله وسلم)  حين يخرج الى غزواته ليضلل الخصم، ومنها المكر والخداع الذي كان يمارسه الاعداء حتى مزّقوا جيش امير المؤمنين والامام الحسن (عليهما السلام)  فقعدوا عن القتال، ومنها الاشاعات الكاذبة التي كانوا يبثّونها كإشاعة مجيء جيش الشام واستباحته لدماء واعراض اهل الكوفة حين حاصر مسلم بن عقيل والالاف من الموالين عبيد الله بن زياد في قصر الامارة، فانتشر الرعب في اوساط اهل الكوفة وانسحبوا وتركوا مسلما وحيدا ولم يكن مع ابن زياد داخل القصر الا بضع عشرات([2]) ، لانهم لم يتعاملوا مع الاشاعة بالتصرف الصحيح لجهلهم وحماقتهم وأنانيّتهم.

وقد بين القران الكريم علاج هذا التأثير للإعلام المضاد والاشاعات ومنع تداعياته بالتثبّت والتبّين والرجوع الى  اولياء الامور العارفين الذين لا تهجم عليهم اللوابس والشبهات ولا تنطلي عليهم الحيل، قال تعالى [وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً] النساء 83 و قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] الحجرات 6 فليس من الصحيح التصديق مباشرة بالأقاويل وترتيب الاثر عليها واتخاذ المواقف على طبقها، فهذا الاندفاع والانفعال والتأثر قبل التثّبت حماقة، وقيل عن امير المؤمنين (عليه السلام)) كفى بالمرء حمقا ان يصدّق كل ما يسمع او كل ما يُقال( .

ومن المعالجات التي وردت في مدرسة الاسلام للإشاعة وتطويقها واخمادها باجتثاث مصدرها ومادتها، لان لكل اشاعة مادة تساعد على التصديق بها تكون كالجناحين التي تطير بهما الاشاعة وتنتشر في اواسط الناس كما قيل في المثل الشعبي "ماكو دخان بلا نار" فاذا اردت منع انتشار الدخان فلا بد من اطفاء النار وايقاف الاحتراق، وذلك من خلال الشفافية والوضوح وكشف الحقائق امام الراي العام، ورد في سيرة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) انه كان يسير في شوارع المدينة فرأى عمته صفية بنت عبد المطلب فسلّم عليها وتفقد احوالها فمّر عليهما احد اصحابه (صلى الله عليه واله وسلم) فبيّن له النبي (صلى الله عليه واله وسلم) انها عمته صفية فقال الصحابي: "اننا لا نشك فيك يا رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ولا نتهمك بشيء، لكن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) اراد حسم مادة التهمة وسوء الظن والشك والريبة فوضّح له الحقيقة، عن امير المؤمنين قال: ( من وقف نفسه مواقف التهمة فلا يلومن من اساء به الظن)([3]).

قبل ايام سرت اشاعات ان الإرهابين استهدفوا مطار بغداد ولم يستطيعوا الوصول اليه مما سبب في انتشار حالة من القلق والتخوف من احتمال وصول الارهابيين الى قرب العاصمة  واضطراب الوضع الاقتصادي وتخوفت الشركات الجنبية من التعامل مع بغداد، وما كان لهذه الاشاعة ان تؤدي هذه النتائج لولا وجود مادة تغذيها، وهي تصريحات رئيس اركان الجيوش الامريكية الذي صرّح([4]) بان طائرات الاباتشي الامريكية احبطت هجوما لمسلحي داعش كانوا يتقدمون باتجاه ابي غريب ومطار بغداد وان الطيارين عرضوا انفسهم للخطر لانهم قاتلوا على ارتفاع منخفض، ولم يذكر الجنرال كيف علم بهدف المسلحين، وهل تنصّت على مكالمات لهم او وقعت بأيديهم وثائق او افادات متعقلين، لا يوجد شيء من ذلك، وكل الذي حصل وجود معارك على بعد حوالي 25 كيلومترا عن ابي غريب وكانت للإرهابيين حركة وقدّر الجنرال انهم يريدون استهداف المطار.

فهذه هي مادة الاشاعة، والجنرال ديمبسي يعرف عدم وجود قيمة لكلامه لكنه اراد ان يوصل عدة رسائل من خلال تصريحاته لا تخفى على القادة والمسؤولين، ولا بد من الاشارة الى ان القوة الناعمة تشمل ادوات اخرى كثيرة غير الاعلام، بعضها مُلتفتٌ اليها، وبعضها غير مُلتفت، ومن القسم الاول: الفن فانه مؤثر في ثقافة الاخر وسلوكه وحتى معتقداته وسياسته اذا استطاع انتزاع الاعجاب والتأثر، وتستطيع الدول اليوم ان تحقق من خلال الانتاج الفني من التأثير في الدول الاخرى وجذبها الى سياساتها واقناعها بأجنداتها ما لم تستطع تحقيقه بالاحتلال العسكري الذي يكون عادة مبغوضا ومرفوضا.

ينقل اصحاب الشركات السياحية ان عدد السوّاح الى تركيا تضاعف بعد انتشار المسلسلات التلفزيونية التركية المدبلجة رغم ما تضمنته من الفساد والانحراف والجريمة، ويلاحظ تأثر شعوب المنطقة بالجمهورية الاسلامية وانجذابهم اليها وتقليد شعبها في بعض سلوكياتهم من خلال الاعمال الدرامية والتاريخية التي انتجتها.

 اما القوى الناعمة غير الملتفت  اليها في هذا العلم والتي لم تأخذ حقها من الدراسة والبحث لان القائمين على هذا العلم في الغرب من البعيدين عنها لانغماسهم في الماديات، مضافا الى انهم يستهدفون من القوى الناعمة تحقيق مآربهم الشخصية ومصالحهم على حساب استعباد الشعوب والسيطرة عليها، فلا يلتفتون الى القوى الناعمة الايجابية التي تجلب الخير والسعادة للبشرية وتصليح احوال الناس وتصنع لهم حياة سعيدة طيبة يكونون فيها احرارا كراما.

ومن تلك القوى (الدعاء)   الذي ورد فيه انه يدفع البلاء وقد ابرم ابراما أي تمت كل مقدمات نزوله وتنفيذه على ارض الواقع، فهذه وسيلة غيبية للتأثير في الحوادث.

وكذلك (الصدقة) التي تفعل نفس  الفعل، عن الامام الصادق قال: (داووا مرضاكم بالصدقة وادفعوا البلاء بالدعاء واستنزلوا الرزق بالصدقة)([5]) فقد يعجز الطب بكل تكنولوجيته المتطورة عن العلاج لكن الله تعالى يمن بالشفاء والعافية بسبب دعاء او صدقة.

ومن القوى الناعمة المؤثرة في الاخرين وجذبهم (الاخلاق الحسنة)، من وصية النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لعمه العباس بن عبد المطلب (انكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم)([6]) وقد دخل كثير في الاسلام والايمان بسبب تأثرهم بأخلاق وسيرة ائمة الاسلام وقادته وعلمائه، روي عن الامام الصادق (عليه السلام) قوله: (كونوا دعاة للناس بغير السنتكم ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير فان ذلك داعية)[7]

ومن القوى الناعمة (المنبر الحسيني والشعائر الحسينية) التي اثبتت انها قوة عظيمة للجذب الى الحق والتأثير في الشعوب لأنها تستمد قوتها من قوة مواقف الامام الحسين (عليه السلام) النبيلة وتضحياته العظيمة ومبادئه السامية ويكون التأثير أكبر لو أتعب الخطباء أنفسهم ليكونوا أهلاً لتحمل مسؤولية الانتساب الى هذا الموقع الشريف.

 اننا بفضل الله تبارك وتعالى وبركة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وآله المعصومين (عليهم السلام) نمتلك الكثير مما ينفع الانسانية لو التفتنا اليه واستثمرناه لكن انهزام المسلمين داخلياً وفقدانهم الثقة بأنفسهم وانبهارهم بالغرب جعلهم يغفلون عن الجواهر التي بأيديهم ويتلقفون القشور من الاخرين، لذا ينبغي بالمفكرين والباحثين اغناء هذا العلم بما ورد عن المعصومين (عليهم السلام) في مجال القوى الناعمة الايجابية ولتكن الخطوة التأسيسية من خلال هذا العرض السريع الذي ذكرناه.



[1]) من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع العاملين في اذاعة الامل في محافظة ميسان يوم الاثنين 25/ذ ح/1435 هـ المصادف 20/10/2014 م

([2]هنا نصح سماحة المرجع (دام ظله) في كلمته خطباء المنبر الحسيني ان يرتقوا الى مقام المنبر الحسيني السامي بصاحبه (عليه السلام) فيجددوا في خطابهم ويحدثوه ليتناولو القضايا الحيوية التي تهم الامة ومن ثم ربطها بقضية الامام الحسين (عليه السلام)والتعريج على مصيبته وعدم اجترار نفس المادة التاريخية، فيتحدث الخطيب مثل هذا الحدث عن القوى الناعمة والاشاعة واثارها السلبية وكيفية تحصين المجتمع منها ثم يخلص الى اثر الاشاعة في افشال حركة مسلم بن عقيل (عليه السلام) ويعرج على المأساة.

[3] )بحار الانوار: 75 / 90 ح4

[4] ) من اخبار يوم 12/10/2014

[5] )الكافي: 4 / 3 ح5

[6] )بحار الانوار : ج68  ص 383و أمالى الصدوق ص 9

[7] )وسائل الشيعة: 15 / 245 ح13