خطاب المرحلة: (360) على المرجعيات الدينية

| |عدد القراءات : 1370
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

على المرجعيات الدينية والقيادات السياسية أن تتنازل لمن هو أكفأ (1)

من الصفات الرئيسية التي أكد الأئمة المعصومون (عليهم السلام) على توفّرها في من يسوس أمر الأمة ويتولى القيادة والإدارة في أي موقع كان خصوصاً الفقهاء والأمراء، أي المرجعية الدينية والسلطة الحاكمة: أن يكون (مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه) كما في الحديث المروي عن الإمام العسكري (عليه السلام).

ومن أعلى موارد اختبار وجود هذه الصفة وأشدّها: تنازله عن الموقع إلى غيره ممن يراه أكفأ منه وأقدر على القيام بوظائف هذا الموقع، أما لتفوّق هذا البديل، أو لعجزه هو عن مواكبة التحديات وتحمّل المسؤوليات التي تتوسّع وتتعقّد بمرور الزمن، ومثل هذه الخطوة تحتاج إلى قوة قلب للتغلب على هوى النفس التي تصرّ على التمسّك بموقع النفوذ والجاه والسلطة والحصول على مزيد من الامتيازات.

وقد عشنا تجربة مرجعية السيد الشهيد الصدر الثاني (قده) ورأينا فيه هذه الصفة فكان يخالف هوى نفسه ويؤدي ما يراه حجة بينه وبين ربّه وما فيه رضا الله تبارك وتعالى، كتصديه لصلاة الجمعة المباركة ووقوفه بين الجماهير المؤمنة وما يكلّفه ذلك من عنت وشقّة ومواجهة للسلطة وجهد مضاعف يضاف إلى مسؤوليته العلمية والعملية الكثيرة، لكنّه نهض بهذه المسؤولية كغيرها ولم يستسلم لما تهواه النفس من حياة الدعة والراحة.

وكانت عنده هذه الصفة بأعلى مستوياتها بحيث نعلم أنّه لو امتدّ به العمر ورأى بديلاً أفضل منه –كما كان يصرّح بأنه يسعى لإيجاده وتربيته- فإنه يتنازل له بكل رحابة صدر، وكان يربي طلاّبه ومريديه على ذلك.

كنّا معه (قده) مرّة وتذاكرنا أموراً من هذا القبيل وربّما ذكرنا كيف أنّ السيد الشهيد الصدر الأول (قده) كان يخالف هواه ويقهر نفسه حينما قرّر أن يطبع كتابيه (فلسفتنا) و (اقتصادنا) باسم جماعة العلماء ونحوه ولا يذكر انّه هو المؤلف، لأنّ هدفه إعلاء كلمة الله تعالى ورفعة الإسلام، فأكبر السيّد (قده) هذا الموقف، وسأل متحدياً: من يستطيع أن يقوم بمثل هذا؟ فقلتُ: أنّه فعل لا يحتاج إلى كثير مؤونة معتبراً ذلك أمراً طبيعياً عند المخلصين لله تعالى، فقال السيد (قده) باللهجة الدارجة: ((نعم أنت تسويها)) أي أنّه يُتوقّع منك القيام بمثل هذا الصنع.

بل قد وقع مني فعلاً مثل ذلك حينما طبع السيد الشهيد الصدر (قده) كتاب ما وراء الفقه طلب منّي أن يجعل كتابي (الرياضيات والفقه) في المجلد الثامن لمناسبته لكتاب الميراث، فقلت له: ((سيدنا آنه بخدمتك، وليكن من فصول الكتاب ولا حاجة لذكر اسم كاتبه))، لكنّه (قده) أصرّ على أن يكتب اسم المؤلف رعاية للأمانة العلمية وقال: (لانّ القرّاء يعلمون أنّه ليست لي القدرة على تقديم مثل هذه المطالب الرياضية).

وعلى أيّ حال فقد شهد تأريخ المرجعية الشيعية بمثل هذه المواقف النبيلة من ذوي النفوس الكبيرة كالشيخ يوسف البحراني (قده)([2]) الذي كان مرجعاً للشيعة ومقره في كربلاء المقدّسة، وكان من معاصريه الشيخ الوحيد البهبهاني (قده)([3])، وفي أحد الأيام قام البهبهاني وسط الجمع واستأذن الشيخ البحراني في الكلام وقال: أنا حجة الله عليكم وأنا من يجب أن ترجعوا إليّ لأنّني أنا الأعلم، فما كان من الشيخ البحراني إلاّ أن أيّد كلامه بكل انشراح ورحابة صدر ودعاه إلى تسلّم المسؤولية والجلوس في موقعه.

كما أن ّ الشيخ الوحيد نفسه حينما شعر في سنينه الأخيرة أنّ مسؤولية المرجعية أكبر من أن ينهض بها دعا أبرز تلامذته ووزّع عليهم مسؤوليات المرجعية، ورجع هو يدرّس الكتب المتوسّطة في السلّم الدراسي الحوزوي وهو كتاب (شرح اللمعة).

أقول هذا الكلام بمناسبة القرار الأخير لبابا الفاتيكان وزعيم الكنيسة الكاثوليكية حينما جمع المجلس الكنسي وأعلمهم بعزمه على الاستقالة وأمهلهم إلى نهاية شهر شباط الحالي/ 2013 وقال: ((بعد أن راجعت ضميري مرات عدّة أمام الله، وقد وصلت إلى التأكّد من أن قواي لم تعد تحتمل القيام بمهام الكنيسة البطرسية بسبب تقدّمي في العمر)).

وقال: (( في عالمنا اليوم، الذي هو عرضة لتغيرات هائلة، ويهتز بأسئلة ذات صلة عميقة بحياة الإيمان)) ووصف قواه بأنّها ((وهنت وتدهورت إلى الدرجة التي أدركتُ فيها عدم قدرتي على الوفاء بالتزاماتي الموكلة إليّ لإدارة شؤون الكنيسة)).

أقول: هذا موقف كبير ينم عن شعور بالمسؤولية تجاه الموقع الذي هو فيه، والمفروض أن تكون كل المرجعيات الدينية والقيادات السياسية الحاكمة هكذا، أما التشبّث بالموقع حتّى لو بلغ به العمر عتيا، ويصبح وجوده كعدمه، ولا يعي ما حوله، ولم يعد قادراً على مجاراة تحديات عصره والقيام بمسؤولياته التي يتطلّبها موقعه لا التي هو قرّرها لنفسه،  فهذه حالة بائسة ومتردّية، وسيصبح عقبة في طريق الإصلاح، لأنّ عملية الإصلاح والتغيير تمرّ عبر مصادر القرار، فإذا كان مصدر القرار عاجزاً فسوف تتوقف هذه العمليّة، وهذا واحد من الأسباب التي أدّت إلى ما نحنُ فيه من التردّي والفوضى والظلم وضياع الحقوق والله المستعان.



([1]) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع عدّة وفود زارته بينها عدد من مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة يوم الخميس 10/ع2/1434 المصادف 21/2/2013.

([2]) مؤلف كتاب (الحدائق الناضرة) الموسوعة الفقهية الجليلة التي لا زالت من مصادر البحوث العليا ومربي عدد كبير من الأعاظم، توفي عام 1186.

([3]) مرجع الشيعة ومن أعظم الأساتذة الذي شهدتهم الحوزات العلمية، فقد تخرّج على يديه جملة من الأعاظم كالسيد بحر العلوم والشيخ كاشف الغطاء والمحقق النراقي صاحب مستند الشيعة والسيد علي الطباطبائي صاحب الرياض، توفي عام 1206 هـ.