وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ-تحديات العراق المعاصر

| |عدد القراءات : 11332
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسمه تعالى 

(وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ)

الأحزاب22

تحديات العراق المعاصر[1]

          لعل من السمات البارزة في مسيرة الإمام الصادق (عليه السلام) ونحن نعيش ذكرى استشهاده، وهكذا في سيرة كل الائمة الطاهرين (عليه السلام)، وهم قادة الإسلام الذين وهبهم الله تعالى للبشرية هو مواكبتهم لتحديات عصرهم، ولا أقول أنهم كانوا بمستوى تحديات عصرهم بل فوق ذلك لأنهم محيطون بعصرهم وما سبقه وما لحقه، ولكن الذي نريد أن نفهمه نحن هو أن نكون بمستوى تحديات عصرنا تشخيصاً وعلاجاً.

ويمكن أن ننظم استطلاعاً للرأي العام واستبياناً لتصور الناس عن هذه التحديات والمشاكل التي يواجهها العراق المعاصر ونعني به عراق ما بعد احتلال عام 2003، وسيكون هذا الاستطلاع مصدراً مفيداً للتعرف عليها لأنه سيجمع رؤى متعددة ومن زوايا مختلفة للامور، وإن كان الكثير منها ملتفتاً اليه وواضحاً.

وما دمنا شخّصنا الموضوع بأنه عراق ما بعد الاحتلال، إذن فالاحتلال هو أول هذه التحديات وقد قلنا في عدة خطابات منذ الأيام الاولى للاحتلال أنه لا يقتصر على الاحتلال العسكري لأن مجيء القوات المحتلة ومكثها انما هو أداة ووسيلة لفرض واقع جديد له عدة أبعاد منها الهيمنة على القرار السياسي ودمج العراق في نظامهم العالمي الجديد، وتبعية الاقتصاد لنظامهم الحر كما يصفون والاستحواذ على خيراته، والافساد الأخلاقي وتبديل الثقافة والتقاليد  التي يبنى عليها سلوك الفرد والمجتمع، والانسلاخ من القيم والمبادئ،  وتصل حتى التغيير الديمغرافي لأجل مصالح معينة وبقيت هذه الأخطار تنخر في جسد العراق وشعبه حتى بعد رحيل القوات العسكرية للمحتلين.

وجاء مع هذه التحديات التي جلبها الاحتلال الإرهاب الذي اتخذ من مقاومة الاحتلال غطاءاً لخداع المغفلين حتى يلتحقوا به وينفذوا جرائمه، ووفر هذا التحديان بيئة مناسبة لانخراط الكثير من الشباب في جماعات العنف التي تمارس القتل والخطف والابتزاز والسرقة والاعتداء على الممتلكات العامة

ورغم خطورة هذه التحديات الا أن الأخطر منها –كما وصفت في الخطاب الفاطمي عام 1429[2].

هو فساد المتسلطين الماسكين بمفاصل الدولة واستئثارهم بالمال العام وسرقته تحت عناوين وهمية وتهريبه الى خارج العراق وقد تفننوا بهذا بشكل لا نظير له في التاريخ ولا في الجغرافيا كما يقولون .

ورافق هذه المسارات تدمير ممنهج لمؤسسات الدولة  المدنية والعسكرية لإضعافها وجعلها عاجزة عن القيام بمسؤولياتها في حفظ النظام وحماية المواطنين وحقوقهم والنهوض بالبلاد والقيام بالمشاريع التنموية ومحاسبة المفسدين، ليغطوا بذلك على فشلهم وفسادهم وشغلوا الناس بنزاعاتهم وصراعاتهم ونشر غسيلهم التي لا يُرجى منها أي خير سوى لي بعضهم ذراع بعض وابتزازه وقضم كمية أكبر من كعكة العراق كما يصفونها، فكان هذا الفساد هو المموّن للإرهاب والعامل المساعد على انتشاره وتجذّره، وأسوأ ما خلّفه الاحتلال وجاء به سياسيو العصر الجديد .

وكان التحدي الخطير الآخر تبعية أغلب الطبقة الحاكمة لأجندات أجنبية ينفذونها على حساب العراق ومصالح أهله أما لأنه يعتقد أن هذه الدولة تحميه وتمكِّنه وتدعمه أو لأن الكثير منهم كانوا في خارج العراق ويعتاشون على مساعدات تلك الدول ويحمل بعضهم جنسية تلك الدول أو جواز سفرها ولازالت عائلته مستقرة فيها فهو يدين بالولاء لها وهمُّه تسخير ما يستطيع من موارد العراق لمصلحة تلك الدول حتى وهو في أعلى المواقع في قيادة البلاد.

وقد نبهنا الى هذه الأخطاء والاخطار قبل عشر سنوات وطالبنا بإصلاحها وقدمنا الخطط الكفيلة بذلك إلا أنني كنت الوحيد الذي أتكلم أما الآخرون - من الزعامات الدينية والسياسية - فكانوا سكارى بمغانم السلطة والدنيا التي حصلوا عليها  بعد الاحتلال واجتمعوا على معاداتي وتسقيطي وإقصائي لأنهم لا يريدون ارتفاع صوت من يوقظ الناس من جهلهم وغفلتهم.

ونبهنا أيضاً من أول يوم الى الغزو الاخلاقي لإفساد المجتمع من خلال إغراقه بالتقنيات الحديثة لوسائل التواصل الاجتماعي والانترنت وإباحة كل شيء من دون فلترة أو تشفير وهو مالا تجده حتى دول الغرب المتحللة التي تتخذ الاجراءات لتحصينهم من بعض ما يعرض من الانتاج المدمّر لكل القيم أما العراق فمستباح لكل شيء، واوردنا في عدة خطابات عشرات المضّار لإباحة هذه الوسائل .

ومن مشكلات العراق المعاصر عملية التجهيل والتضليل وتسطيح العقول للناس لأن الجاهل يسهل قياده حيث يشاؤون مما أدى الى نقص معرفي وثقافي عام وصل حد التخلف أحياناً ومن المؤسف ممارسة القيادات لذلك حتى بعض الزعامات الدينية ومحاربة من يوقظ الناس وينبهها الى حقوقها ومصالحها وتسقيطه وافتراء الشبهات عليه لخوفهم من يقظة الناس ووعيهم وبصيرتهم في الامور، وأصبح الكتاب وأدوات المعرفة الاخرى آخر ما يثير اهتمام الناس وشغفهم رغم أن الكتاب أرخص الأشياء سعراً وأعظمها فائدةً ولعل أوضح مثال إعادة انتخاب الناس للفاسدين والظالمين بعد أن يعضّوا على أصابع الندم لانتخابهم في المرحلة السابقة ويقولون سنقطع أصابعنا التي تلوّنت بحبر الانتخاب، هكذا يُساق الشعب الى الظلم والخراب والقتل طائعاً مختاراً بفعل ما تقوم به الجهات الدينية والسياسية من مكر وخداع وتجهيل وتقديس الأصنام .

وإن أخطر المشاكل التي صنعوها للعراق وأقذرها فتنة الحرب الطائفية التي لا ثمرة فيها ويخرج الجميع منها خاسرين وتمتاز بالقسوة وفقدان البصيرة وعدم التورع عن ممارسة ابشع الاساليب الوحشية لانها تجري بأسم الدين والمذهب وتُرّوج على انها حرب مقدسة .

والمشكلة الخطيرة الاخرى مشروع تقسيم البلاد التي تؤدي الى تمزيق أهله وإدخالهم في صراعات دموية مدمرة لا نهاية لها، فتتحارب هذه القومية وتلك وهذه الطائفة وتلك وهذا الاقليم وذاك وهذه المحافظة وتلك وهذه العشيرة وتلك، مع ضعف الدولة وعجزها عن إطفاء هذا الاتون الملتهب، بل أن الكثير من السياسيين والانتهازيين وأصحاب الأجندات الهدّامة يغذّون هذه الصراعات لأنهم يعتاشون عليها وتديم وجودهم ونفوذهم.

وفي خضم هذه الصراعات انمحت الهوية الوطنية ولم يبق شعور بالانتماء الى العراق أو تدفق الاحساس بالوطنية ولم يعد يوجد ما يوحد العراقيين ويلهب مشاعرهم الا بعض الحالات النادرة، بل لا يستحي بعضهم من الحديث عن عدم وجود أي شيء إسمه العراق.

ومنها سوء ادارة اقتصاد البلد وعدم وجود خطط مدروسة لاستثمار ثرواته، فضاع بسبب ذلك مئات المليارات من الدولارات واقصي المتخصصون والخبراء المهنيون، وهذا ما حصل في كل مؤسسات الدولة التي عبثت بها الاحزاب ورؤساؤها من امراء الحروب وآخر ما تفتقت عنه شيطنة الفساد عند المتسلطين هو عرض قطاع الكهرباء للخصخصة وان حاله لا ينصلح الا بإحالته الى المستثمرين، هذا بعد صرف اكثر من 35 مليار دولار من اموال الشعب على هذا القطاع، ولنا تجربة مؤلمة مع احالة مؤسسات الدولة الى القطاع الخاص الذي قامت به وزارة الصناعة وعقود التراخيص لوزارة النفط وبيع اموال وعقارات الدولة حيث تباع بسعر التراب الى المستثمرين ويأخذ المسؤول عمولته من السحت الحرام ثم يحسبها المستثمر بمليارات الدولارات في فاتورة حسابات المشروع الاستثماري ليستوفوا اجور عالية من الشعب المسكين، فهل التفت المتظاهرون المتحمسون لحقيقة ما يجري .

هذه وغيرها بعض مشكلات العراق والتحديات التي تواجهه بل الطعنات التي توجه اليه من القريب قبل البعيد ومن أبنائه قبل أعدائه، ومن الجار والأخ قبل الغريب والأجنبي لأنهم ينفّذون طوعاً وبذلةِ التبعية وبيع الضمائر والولاءات أجندات أعداء العراق، فتتابعت عليه النكبة بعد النكبة والجرح على الجرح والكارثة على الكارثة، وحينما أتصور العراق بهذه الحالة ينتقل ذهني الى الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء وهو ينزف دماً قد أصابته مئات الجراحات لأن الطعنة على الطعنة والضربة على الضربة والرمية على الرمية، لكنه (عليه السلام) كان واقفاً شامخاًُ أبياً عزيزاً منتصراً وأعداؤه مهزومون خائفون مرعوبون قلقون من مستقبلهم المظلم، وهكذا العراق يبقى ثابتاً شامخاً عصياَ على الأعداء بإذن الله تعالى وبما ضمَّ في ترابه من أجساد الائمة الطاهرين والأنبياء العظام (صلوات الله عليهم اجمعين) والمشاهد المشرفة، وبوجود ثلة مؤمنة مخلصة شجاعة تمتلك الهمة العالية والروح الكبيرة .

وهنا أمام هذا الحشد المرعب من الأعداء المجرمين مصاصي الدماء وناهبي ثروات الشعوب وأعداء الحياة والحضارة والإنسانية الذين تحزّبوا وأعدّوا عدتهم للهيمنة على العراق واستعباد أهله واستئصال كل غيور حر شريف علينا أن نستلهم موقفنا مما حكاه الله تعالى من سورة الأحزاب من ثبات وشموخ النبي (صلى الله عليه واله) وأصحابه الآخذين بسنته المباركة، حيث يصف الله تعالى أعداء الإسلام وإحاطتهم بالمدينة وحصار أهلها للانقضاض عليهم والرعب والهلع الذي أصاب المسلمين، قال تعالى: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) (الاحزاب 10-11) هكذا حاصر عشرة الاف مقاتل من المشركين واحلافهم من اليهود وعشائر العرب المسلمين في المدينة متوعدين اياهم بالقتل والتدمير فماذا كان موقف المؤمنين إزاء هذه الأجواء التي تنخلع لها القلوب، قال تعالى: (َلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) (الاحزاب 22) ومن ملاحظة السياق والمضمون يظهر أن المراد بما وعدهم الله بقوله تعالى في سورة البقرة – وهي من أوائل السور نزولاً في المدينة (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) (البقرة 214) فتلاحظ أن آية الأحزاب أكدت تحقق ما وعدت به آية سورة البقرة من اشتداد البلاء حتى يُزلزل المؤمنون ويفقدون الأمل بنزول النصر، لكن الله تعالى يطمئنهم ويبشرهم بأن نصر الله قريب.

وهذا ما حصل فقد تبدّلت بعد واقعة الأحزاب موازين القوى وتحولت لصالح المسلمين، فوقع صلح الحديبية بعد عام أي في السنة السادسة وهو ما وصفه الله تعالى بالفتح المبين  وفي السابعة أدى النبي (صلى الله عليه واله) عمرة القضاء ثم فتح مكة في الثامنة وانتهت سطوة المشركين ونفوذهم.

إن هذا الدرس من سورة الأحزاب لا يختص بالنبي (صلى الله عليه واله) وأصحابه الذين كانوا معه فالقران خالد مستمر بإداء دوره الى يوم القيامة فيشمل كل حالة مماثلة، اذ قال الله تعالى {مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم }البقرة214 اي انها سنة جارية في الامم جميعاً ومنها ما يتعرض له العراقيون من اشتداد البلاءات وكثرتها وتحزب شياطين الإنس والجن عليه، لأنه مركز النور ومنطلق الهداية للعالم أجمع، فيخاف الجميع من نهضته وقيامه وكل منهم ينطلق من زاويته في النظر الى ما يقلقه من العراق، فعلينا ان نستلهم الموقف مما ذكره الله تعالى في سورة الاحزاب

 



[1] من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع الوجبة الثانية من الطلبة والشباب الذين يقضون فترة المعايشة الصيفية مع الحوزة العلمية في النجف الاشرف ومجموعة ناشطين في مؤسسات المجتمع المدني يوم الثلاثاء 18 شوال 1436 الموافق 4/8/2015

[2] راجع خطاب المرحلة 161 (اعداء الشعب ثلاثة: الاحتلال، الارهاب، فساد الحكومة) المجلد 6 من كتاب خطاب المرحلة. ص 139