ولا نتخوف قارعةً حتى تحل بنا

| |عدد القراءات : 1547
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسمه تعالى 

ولا نتخوف قارعةً حتى تحل بنا([1])

   قصار كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) تختزن الكثير من الحكمة والهداية والاصلاح والرقي والسمو وتختزل الكثير من التجارب الانسانية لأنها تُعطي النتائج جاهزة ويوجد كتاب أسمه (غرر الحكم) للآمدي جمع فيه من قصار الكلمات ما يفوق بحجمه كتاب نهج البلاغة فلا تقصروا بالاستفادة من هذه الكلمات وتحليلها وتطبيقها على ما تعانيه الانسانية من مشاكل وما تصبو اليه من آمال وطموحات .

ومن تلك الكلمات ما جعلناه عنواناً لحديثنا وهي فقرة من الخطبة (32) في نهج البلاغة والتي يصف فيها الامام (عليه السلام) فساد الزمان وهو (عليه السلام) لا يعني بالزمان الايام والساعات المتتالية وتعاقب الليل والنهار وحركة الافلاك لأنها لا يصح وصفها بالفساد باعتبارها ظواهر كونية تسير وفق قوانين دقيقة لا تتخلف عنها فهي مطيعة لله تبارك وتعالى ومنفذة لأرادته تماماً ولا تحيد عن أمره (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس -40) وإنما يريد بفساد الزمان فساد أهله، ويذكر بعض معالم الفساد :-

قال (عليه السلام):- (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا فِي دَهْرٍ عَنُودٍ- أي مشاكس ومخالف لما يُراد منه- وَزَمَنٍ كَنُودٍ –أي كافر بالنعمة- يُعَدُّ فِيهِ الْمُحْسِنُ مُسِيئاً، وَيَزْدَادُ الظَّالِمُ فِيهِ عُتُوّاً- أي قسوة وطغيانا- لا نَنْتَفِعُ بِمَا عَلِمْنَا وَلَا نَسْأَلُ عَمَّا جَهِلْنَا وَلَا نَتَخَوَّفُ قَارِعَةً حَتَّى تَحُلَّ بِنَا) ولنتعلم من أسلوب الموعظة الحسنة عند الامام (عليه السلام) فأنه لم يعزل نفسه عن معالم الفساد عند اهل الزمان حتى لا يوجب نفورهم وعنادهم فيتحدث بضمير المتكلم وكأنه مخاطب قبل غيره بما يقول، وهو عليه السلام سيد المعصومين وأكمل الخلق أجمعين بعد أخيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

ومحل الشاهد قوله (عليه السلام) (وَلَا نَتَخَوَّفُ قَارِعَةً حَتَّى تَحُلَّ بِنَا) والقارعة:- الأمر المهول والداهية العظيمة، من القرع وهو الضرب بقوة ومنه قرع الباب، ومن أسماء يوم القيامة في القرآن الكريم (القارعة) لأنها تقرع الناس فتذهلهم وتبهتهم فينطلقون مذعورين، وتطلق ايضاً على كوارث الدنيا قال تعالى (لاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ ) (الرعد-31).

وهذه الحكمة الكبيرة التي تشخّص مرضاً فردياً واجتماعياً سائداً رغم خطورته وهو اننا لا نحذر الأخطار ولا نتوقاها ونتحرز منها رغم الانذارات المتكررة ووجود بوادرها ومقدماتها ونبقى سادرين في الغفلة والعناد والمكابرة والجهل حتى تقع الكارثة وتحل بنا وحينئذٍ نفزع الى الحلول والاستغاثة والتشبث من الغرق بأي وسيلة فلا نجدها لأن وقتها قد فات ولا ينفع الندم والحسرة، ولا نستفيد من التجربة، وكلما تكررت الحالة يكون الموقف نفسه.

هذا هو حال الافراد تعظهم وتنذرهم وتنصحهم فلا يأخذون بشيء من ذلك حتى يقع المحذور كالطفل حينما تحذره من مواضع الخطر كلمس الكهرباء أو النار وتناول الأشياء الضارة لكنه لجهله يصرّ على العناد والاقتحام فيصيبه الضرر وقد يكون قاتلاً (ولات حين مندم).

 وهذا هو أيضاً حال المجتمعات والكيانات يصرون على المضي في طريق الخطأ والخطيئة إلا أن يحترقوا بنارها فيطلبون النجدة للخالص فلا يسعفهم الحل ولا يستمعون الى القادة المخلصين الحريصين عليهم الناصحين لهم الذين يريدون لهم الخير والسعادة فإن مثل هؤلاء القادة ينبهون الأمة الى الخطر قبل وقوعه ويشخصون المشكلة بقراءتهم الدقيقة واستشرافهم المستقبل بنور الله تبارك وتعالى ووعي المعطيات والظروف الموجودة ويقدمون الحلول ليتجنبوا وقوع المشكلة ويمنعون من حصولها كالطبيب الحاذق الذي يُشخص المرض قبل استفحاله ويحذّر ويقدّم النصائح ليتجنب وقوعه([2]) ، لكن الناس وزعاماتها المصطنعة لا تعي ذلك ولا تريد أن تتنازل عن بعض مصالحها وامتيازاتها فتجتهد في إبقاء الناس على حالة الغفلة والجهل والتخلف والقداسة الموهومة حتى تقع الكارثة فيندفعون الى إيجاد الحلول نفاقاً وإدامة لنفوذهم وهيمنتهم.

والوضع في العراق حافل بالأمثلة والشواهد الكثيرة على ذلك فقد كنا نقرأ الكوارث الحالية التي يمر بها البلد منذ عشر سنوات لأننا كنا نقرأ المنهج الخاطئ والسلوك السيء الذي سيؤدي الى الكارثة حتماً فقد أُبتلي قادة البلاد بالأنانية والاستئثار وسوء الادارة والتخطيط والاستبداد، والمضي في المشاريع الخطيرة - كتقسيم البلاد والتحريض الطائفي وتهديم مؤسسات الدولة وتذويب الهوية الوطنية والتبعية للأجنبي – دون إدراك عواقبها الوخيمة أو أنهم يدركونها لكنهم لا يفكرون إلا بمصالحهم الضيقة، وهذه المجلدات كتاب (خطاب المرحلة) حافلة بتلك الخطابات والبيانات، لكنهم لم يصغوا اليها ولم يأخذوا بها بل كانوا يُعادونني من أجل تلك المواقف المخلصة ويصفون كلماتي بأنها مثالية لا واقع لها، أو يصفونني بأني أسبق الزمن وأقدّم الحلول قبل أوانها، وأنهم لا يجدون مبرراً للأخذ بها ؟ عجباً لهم ! أليس من مواصفات القائد الناجح  استشراف المستقبل وقراءة الأمور قبل وقتها لإتخاذ التدابير اللازمة([3]) .

وهذه كانت واحدة من مشاكل المعصومين (عليهم السلام) مع الناس، فأن كلماتهم تتضمن الكثير من هذه الخلاصات الجاهزة التي لا ندركها إلا بعد تجارب انسانية طويلة، فلنلتفت اليها ولندرسها ونستفيد منها لنوفّر علينا الجهود الكبيرة والخسائر الباهظة.

مثلاً بعض الدول الاسلامية أتخذت قراراً بالتشجيع على تحديد النسل وتقليل الانجاب لمصالح توهمتها وبعد عشرين عاماً أدركت أنها أخطأت وأنها سائرة في طريق الفناء والاندثار فأصدرت القرارات للتشجيع على الانجاب وتكثير النسل وتقديم المكافاءات، بينما الاحاديث الشريفة التي تحث على الانجاب وكثرة النسل توفر الجهود عليهم وتعطيهم النتائج مسبقاً، ولا نريد الاستغراق في الأمثلة لأنها تفوق الحصر .

 

 



[1] ) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع الاساتذة والمفكرين والباحثين في مركز ابداع للبحوث والدراسات الاستراتيجية في البصرة وجمع أخر من النخب يوم السبت 13 ذق 1436 الموافق 29/8/2015.

[2] ) حدث السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) أن شخصاً مرَّ بدار فسمع من داخله صوتاً فقال ان صاحب هذا الصوت سيموت بعد ثلاثة أيام وقد حصل ذلك فعلاً ، ولما سُئل هل انه يعلم الغيب، أجاب لا، لكننا نفهم الحالة على انه شَخّصَ صوت المتحدث علةً في قلبه او جهازه التنفسي لا تمهله كثيراً فهكذا القائد الحاذق يقرأ الأحداث ويقدم الحلول .

[3] ) أقطتعنا حديث سماحته (دام ظله) هنا حول الوضع الراهن في العراق  ونشرناه في بيان مستقل.