فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ

| |عدد القراءات : 2247
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

 [فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ][1]

(الذاريات: 50)

          قال الله تعالى: [فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ] (الذاريات : 50)

          في هذه الآية الشريفة عدة دلالات وإرشادات نهتدي بها في حياتنا العملية وفي طريق التكامل إن شاء الله تعالى:

1-       إن الأمر بالفرار يعني التسليم بأننا في وضع يوجب الفرار منه؛ لأن الفرار والهرب لا يكون إلا من خطر وضيق وعسر ومشقة، فالأمر بالفرار يعني أننا واقعون فعلاً فيه أو أننا في معرض الوقوع فيه سواء التفتنا إليه أو لم نلتفت لغفلتنا وجهلنا بحقائق الأمور، وما يستوجب الفرار كثير مما نواجه في الدنيا وفي الآخرة، ففي الدنيا: الفرار من المشاكل والتعقيدات والأزمات والصعوبات والقلق والأخطار وقساوة الحياة، أما في الآخرة فالفرار من طول الموقف وسوء الحساب وشدة العقوبة والعذاب، وهذه كلها تلزم كل عاقل بأن يهرب منها إلى ملجأ يحميه ويوفر له الأمن والاستقرار والسعادة، وقد كرّر تعالى في هذه الآية والتي تليها [إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ] للتنبيه من الغفلة وإيقاظ العقول والتأكيد على هذه المخاطر.

2-       إن الأمر بالفرار يستلزم من الآمر تحديد المهرب والملاذ الآمن كما أن الدول حينما تقوم بعملية عسكرية لتطهير مدينة أو موضع من إرهابيين ومجرمين فإنها تحدد مسارات وملاجئ آمنة لخروج المدنيين الأبرياء، وقد حدّدت الآية الجهة التي نفرّ إليها وهي جهة النجاة الوحيدة إنه الله تبارك وتعالى ولا يوجد مفرّ إلا إليه [يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرّ، كَلا لا وَزَرَ ،  إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ، يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ] (القيامة : 10-13)، وهي بهذا المعنى تلتقي مع آيات عديدة [إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى] (العلق:8) [وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى [النجم : 42] (النجم:42) [إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ] (البقرة : 156). 
    وهذا المعنى الذي عبّر عنه الإمام السجاد (عليه السلام) في العديد من الأدعية والمناجاة كقوله (عليه السلام) في مناجاة الراجين (يا من كل هارب إليه يلتجئ، وكل طالب إياه يرتجي) وفيها (كيف أرجو غيرك والخير كله بيدك، وكيف أؤمل سواك والخلق والأمر لك) وفي مناجاة التائبين (إلهي هل يرجع العبد الآبق إلا إلى مولاه، أم هل يجيره من سخطه أحد سواه) وفي مناجاة المطيعين لله قال (عليه السلام): (فإنا بك ولك ولا وسيلة لنا إليك إلا أنت) وفي مناجاة المفتقرين (إلهي كسري لا يجبره إلا لطفك وحنانك، وفقري لا يغنيه إلا عطفك وإحسانك، وروعتي لا يسكّنها إلا أمانك، وذلّتي لا يعزها إلا سلطانك، وأمنيتي لا يبلغنيها إلا فضلك) إلى غيرها من الفقرات التي اغتنت بها الصحيفة السجادية المباركة وأدعية الإمام السجاد الأخرى الملحقة بها.

3-       ارتبطت الآية بفاء التفريع [فَفِرُّوا] فالأمر بالفرار إلى الله جاء تفريعاً ونتيجة على ما ذكر في الآيات السابقة التي ذكرت الأسباب الموجبة لكون الله تعالى الجهة الوحيدة التي نفر إليها، فالآية (47) بيّنت مثالاً لعظمة الله تعالى وقدرته [وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ] (الذاريات : 47) التي تعني في بعض الوجوه استمرار توسع الكون وتمدده وقد اكتشف العلم الحديث التوسع الهائل الذي تتجه فيه النجوم والمجرّات بسرعة تصل إلى 66 ألف كيلومتراً في الثانية([2])، والآية (48) بيّنت رعاية الله لخلقه وإغداقه النعم عليهم [وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ] (الذاريات : 48) فبسط لنا الأرض وجعل لها حركة هادئة مريحة وزودها بكل ما يوفر للإنسان السعادة والراحة والمتعة كما تفرش الأم مهد صغيرها وتجهّزه بكل وسائل الراحة والسعادة، ثم عطفت الآية التالية على ذلك بيان شكل من أشكال فقر المخلوقات -كل المخلوقات - ونقصها الذاتي واحتياجها إلى ربها الغني من خلال إظهار حاجتها إلى غيرها ووجود ما يضادها، [وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] (الذاريات : 49) إذ الزوجية هنا تعني أعم من الزوجية الجنسية كالذكر والأنثى، وزوجية السالب والموجب كشحنتي الإلكترون والبروتون في الذرة، وزوجية التضاد كالظلمة والنور أو زوجية الظاهر والباطن وغير ذلك؛ فالأشياء كلها إذن فقيرة ناقصة محتاجة في ذاتها.                
     فالفرار إلى الله تعالى لأن القدرة بيده والخير منه والسعادة عنده والكل محتاجون إليه. 
     فالآيات تقرر هذه الحقيقة وتدعو الناس إلى وعيها والالتفات إليها وتذكّرها دائماً لترتيب الأثر عليها وأخذ العبرة منها [لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ] فمن الطبيعي أن تتفرع الآية التالية عليها [فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ] (الذاريات : 50) فإن الله تعالى لشفقته على عباده وحبّه لهم ولطفه بهم لم يتركهم سدىً ولم يوكل أمورهم إلى الصدفة أو إلى حماقة الجهّال من البشر ولم يتركهم يجربون طريقة المحاولة والخطأ (
tryial & error) للتوصل إلى القوانين التي تكفل سعادتهم في الدنيا والآخرة وإنما أرسل إليهم منه الأنبياء والرسل لينذروهم ويبينوا لهم هذه الحقائق والمعارف كرماً منه وفضلاً [إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ].

4-       ولما كان الله تعالى أجلّ من أن تكون له جهة أو مكان أو حيّز يشغله فالفرار إليه ليس كالفرار إلى حصن أو أي مكان آمن يتوجه إليه الهارب، وإنما الفرار إليه يعني التمسك بالوسائل الموصلة إليه تبارك وتعالى وفعل ما يوجب قربه ورضاه وتجنب ما يسخطه سبحانه ويوجب غضبه؛ لذلك كانت الآية التالية كالبيان لمعنى الفرار ووسيلته [وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ] فالفرار إلى الله تعالى يستند إلى الإيمان به وتوحيده ويبدأ من نفي الشركاء عنه.     
     والفرار إلى الله يعني الهروب من المعاصي والذنوب وكل ما يسخط الله تبارك وتعالى إلى طاعته ورضاه، ويعني الهروب من عذاب الله تعالى وعقابه إلى رحمته ورضوانه، من مناجاة الراغبين للإمام السجّاد (عليه السلام): (وها أنا فارٌّ من سخطك إلى رضاك وهارب منك إليك).          
     والفرار إلى الله تعالى يعني الانقطاع عما سواه والتحرر من كل الآصار، والأغلال التي تعيق حركته نحو التكامل وتثقله إلى الأرض وتوجب عبوديته وأسره [وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ] (الأعراف:157).

والفرار يعني الهروب والتحرر من ذل اتّباع كل الآلهة والمعبودات التي تطاع من دون الله سواء كانت بشرية أو أصناماً حجرية أو أهواء وشهوات وغرائز أو أنظمة وقوانين من صنع البشر أو أعراف وتقاليد اجتماعية أو عشائرية أو سلطات وزعامات تحكم بغير ما أنزل الله، أو ضلالات أو أفكار مبتدعة أو أوضاع اجتماعية خارجة عما يريده الله تعالى بحيث صارت الدول التي تصف نفسها بالتحضر والعظمة تبيح الشذوذ الجنسي بين المثليين بقوانين رسمية تحت عنوان الحرية والديمقراطية وأمثالها، فالفرار يعني الهروب من كل هذه المعبودات المطاعة إلى الإله الواحد القهار وهو الله تبارك وتعالى.

بل المطلوب أكثر من ذلك وهو السعي الحثيث لتحرير البشرية منها وإزالتها وليس الانعزال السلبي فضلاً عن مداهنة أتباعها ومسايرتهم كالذي حصل قبل أيام حينما نجح بعض الإخوة في استصدار قرار من البرلمان يحظر تجارة المسكرات وتناولها في محلات علنية وهو موافق للدستور الذي يمنع من مخالفة ثوابت الإسلام، ومن ما يخالف الديمقراطية وقد نال القرار موافقة الأغلبية، فانبرت أصوات منبوذة لرفض القرار حتى قال أحدهم أن هذا القرار يثبّط عزائم الحشد الذي يقاتل داعش لأنهم يشربون الخمر وقاتلوا داعش لأنها منعتهم منها، ولم يمتلك أكثر مدعي الشعارات الإسلامية الشجاعة في نصرة الحق والإصلاح و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نهج أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) فكانوا على عكس ما أرادت منهم الآية الكريمة فاريّن من الله تعالى وليس اليه سبحانه فبئست الصفقة.

5-       ولما كانت هذه الوسائل على درجات، فإن الفرار إلى الله تعالى له درجات متصاعدة في الكمال، كما أن الابتعاد عنه تعالى له دركات في الانحطاط، فأُولى درجات الفرار وأساسها توحيد الله تعالى ونبذ الشركاء عنه، وأرقاها الانقطاع عما سواه حتى عن نفسه فيصبح مخلَصاً لله تعالى فاراً مما سواه، مستقراً عنده عز وجل [إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ] (القيامة:12).

6-       ووسائل الفرار إلى الله تعالى غير منحصرة فالقيام بكل عمل صالح ومثمر ومفيد للشخص أو المجتمع هو فرار إلى الله تعالى واجتناب كل فعل سيئ مضرّ لا ينسجم مع التعاليم الإلهية هو فرار إلى الله تعالى، وأساس كل ذلك التوحيد كما في الآية أعلاه ومفتاحه ولاية أهل البيت (عليهم السلام) والأخذ عنهم والتمسّك بنهجهم قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ] (المائدة:35) فهم (عليهم السلام) أوضح الوسائل إلى الله تعالى كما أفادت الروايات([3])، وقد ذكرت الروايات مصاديق أخرى، فقد روى الكليني في الكافي والصدوق في معاني الأخبار بالإسناد عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير الآية قال: (حجّوا إلى الله عز وجل) وهذا من باب ذكر بعض المصاديق وهي واسعة ولعل الحج هنا يراد به معناه اللغوي أي القصد إلى الله تعالى وتدل عليه رواية الشيخ الصدوق في (مَن لا يحضره الفقيه) بسنده عن زيد الشهيد عن أبيه الإمام السجاد (عليه السلام) قال: (يعني حجّوا إلى بيت الله، يا بني إن الكعبة بيت الله، فمن حجّ بيت الله قصد إلى الله، والمساجد بيوت الله، فمن سعى إليها فقد سعى إلى الله وقصد إليه)([4]).

          وقد دلّت بعض المنقولات على أن أوسع وسائل النجاة والفرار إلى الله تعالى إحياء ذكر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) والعمل على تحقيق أهدافه المباركة في إصلاح الأمة وإحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى قال الشاعر الشعبي (غير حسين ما عدنا وسيلة) أي أنه (عليه السلام) أيسر وأسرع سفن النجاة.

 

 

 

 



[1] ) ألقيت يوم الاثنين 6 صفر 1438 الموافق 7/11/2016.

([2]) تفسير الأمثل: 13/236 عن كتاب (حدود النجوم) لـ(فرد هويل).

([3]) راجع تفسير البرهان: 3/232.

([4]) راجع مصادرها في تفسير البرهان: 9/134.