إنبعاث الحياة المعنوية
(وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ)
إنبعاث الحياة المعنوية[1]
قال الله تبارك وتعالى: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج:5)
صورة طبيعية محسوسة للإنسان تكرّر ذكرها في القرآن الكريم، وهي واحدة من الآيات الإلهية الدالة على قدرة الله تعالى ككثير من الآيات الأخرى التي لا تعدّ ولا تحصى، ولكن عامة الناس يغفلون عنها ولا تمثّل لهم شيئاً ملفتاً للنظر او ابداعاً يحفزهم على التأمل والتفكير بسبب طول الفتهم معها وتكرّرها عليهم في حياتهم، والشيء اذا أصبح مألوفاً فقد بريق اعجازه وابهاره لدى عامة الناس الا من اعطاه الله البصيرة والفهم.
وهذه واحدة من تلك الآيات حيث ترى الأرض قاحلة جرداء لا حياة على ظاهرها فينزل الله تعالى عليها الماء فتتحرك فيها الحياة وتنبت انواعاً من الأشجار والنباتات المختلفة في الاشكال والاثمار والفوائد، فمن الذي وهبها الحياة وهيأها لهذا العطاء غير الله تعالى.
ومثلها قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ) (السجدة:27) والجرز: الأرض التي لا نبات فيها من الأصل، وغيرها من الآيات التي سنذكر بعضها وهي تركز على هذا المشهد لانه محسوس ومدرك بالوجدان ولا يصعب على المتلقي فهمه، وينتقل ذهنه بسهولة الى الغرض من التذكير بهذه الآية الإلهية لأخذ الدروس والعبر، كما تضرب الأمثال لتوضيح مقصود المتكلم، قال تعالى (وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (إبراهيم:25) وقال تعالى (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت:43) وقال تعالى (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر:21).
وسيق هذا المشهد الطبيعي مثالاً لإيصال اكثر من معنى ظاهري وباطني.
الأول/ معنى ظاهري مصرّح به في الآيات القرآنية وهو جواب الكفار والملحدين والمنكرين للمعاد الذين يرفضون الايمان ببعث الانسان من قبره وتعرضه للحساب على اعماله ويعتبرون ذلك مستحيلاً، وقد حكى القران الكريم جملة من تشكيكاتهم، قال تعالى (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يس:78-79) وقال تعالى (وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) (مريم:66-67)
ويصورون للعامة ان ما يذكره الأنبياء أوهام وخرافات فيحرضون الغوغاء ضدّهم قال تعالى حاكياً مقالتهم (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) (المؤمنون:35- 38)
بمثل هذا الصخب والتضليل واجهوا دعوات الأنبياء (عليهم السلام) فيأتي الله تعالى بهذا المثال لتقريب الجواب والقاء الحجة عليهم ضمن عدة حجج لاثبات المعاد ولم تقتصر على هذه في حوار عقائدي طويل استغرق آيات كثيرة خصوصاً في القرآن المكي، قال تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (فصلت:39)
وقال تعالى (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) (فاطر:9)
وقال تعالى (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الروم:50)
وقال تعالى (فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأعراف:57)
وفحوى هذه الحجة: انه اذا جاز احياء الأرض الميته بإخراج النبات منها بعد سقيها الماء، جاز احياء الأجساد الميتة بقدرة الله تعالى، لان حكم الامثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد فكما الأرض الميتة توضع فيها النواة او البذرة التي فيها حقيقة النبات وشفرته الحياتية، وتسقى بماء انزله الله تعالى من السماء، كذلك الابدان الميتة المتأكلة يرسل اليها حقيقة الحياة المتمثلة بالروح ويسقيها بماء الرحمة واللطف والعدالة ليعيد اليها الحياة.
وفي كلتا الحالتين فان البدن مادة مضافة لأصل الحقيقة ومهما بليت وتلا شت فأنه يمكن تجميعها وإعادة تشكيلها، كما لو بردت قطعة من الحديد وتحولّت الى ذرات متناثرة فانه من السهل تجميعها من جديد بواسطة قطعة مغناطيس فلماذا يستكثرون ذلك على الخالق العظيم، لهذا كان الرد في بعض الآيات بسيطاً وواضحاً ومخجلاً للمنكر كقوله تعالى فيما نقلناه من سورة يس آنفا (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) فهو لم يكن الا كروموسومات في حيمن وبيضة الوالدين واكتسب مادة من غيره ليصبح هذا المخلوق العظيم.
ويلاحظ أن نسبة الحياة الى الأرض مجازاً والا فانها تنسب الى النبات حقيقة كقولنا جرى الميزاب ونعني الماء النازل منه بعلاقة الحالّ والمحل.
على ان احياء الأموات وبعثهم من القبور اقوى ملاكاً واشد حاجة لإقامة العدل ومكافأة المحسن ومعاقبة المسيء وإنصاف المظلوم من الظالم وإعادة الحقوق الى أهلها، اما تزيين الأرض بأنواع النباتات فانه فضل وكرم وإحسان من الله تعالى.
الثاني: معنى خفي يلتفت اليه أهل المعرفة وهو ضرب المثال للنفس الامارة بالسوء التي غلبت عليها الذنوب، وللقلب الذي أماتته الشهوات وران عليه صدأ الغفلة والمعاصي (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين:14) فانها كالإرض الميتة القاحلة الجرداء ومن كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام) (ومن قلّ ورعه مات قلبه)[2] وفي دعاء للإمام السجاد (عليه السلام) (وأمات قلبي عظيم جنايتي)، فاذا سقاها الله تعالى بنور المعرفة والبصيرة وامطر عليها ماء الرحمة واللطف انبعثت فيها حياة الايمان وانجذبت الى عالم المعنى واستيقظت من غفلتها (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) فتدفقت منها الآثار الصالحة على الجوارح وشملت بركاتها الآخرين.
ورمزية الأرض للنفس والماء للمعرفة تشبيه معروف لدى أهل المعنى، ولذا حملنا في بعض خطاباتنا[3] مضمون الخبر الشريف عن عصر الظهور بأن (الأرض تخرج كنوزها وانها ليست من الذهب أو الفضة )[4] على هذا المعنى أي ان النفوس تطهر وتزكو حتى تبرز معادنها العلوية الأصيلة.
وهذه الرمزية لها شواهدها في القران الكريم كقوله تعالى (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) (عبس:24) حيث فسّرتها الروايات بالعلم والمعرفة ممن يأخذها[5] وهكذا بقية الآيات.
وهذا المعنى واضح الانطباق على المثل المذكور فعندما تقرأ قصة توبة بشر الحافي على يد الامام موسى بن جعفر (عليه السلام) تستحضر هذه الصورة القرآنية بوضوح حيث تجد قلب بشر ونفسه كأرض قاحلة خالية من الحياة المعنوية لانها مهملة متروكة فعبثت بها العاديات فانغمس صاحبها في المعاصي والملاهي والفجور، ولكن الغارس الماهر عرف انها أرض صالحة للزراعة وانبعاث الحياة فيها، فلما وضع البذرة الطيبة فيها بقوله( لو كان سيدكِ عبداً لاستحيا من مولاه) وسقاها بألطافه المعنوية دبّت الحياة في تلك الأرض الهامدة وانقلب بشر اللاهي العابث العاكف على المعاصي المغتّر بالدنيا الميّت معنوياً الى بشر العارف البصير الزاهد في هذه الدنيا الزائفة، الحي اليقظ بالمعارف الإلهية.
وعلى العكس من هذا فان قلب البعض يكون (كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) (البقرة:74) فلا ينبت فيها زرع، بحيث ان نفس الآيات المباركات تنزل على الأول فيّزداد ايماناً وتسليماً وتنزل على الثاني فيزداد عتّواً واستكباراً (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً) (الإسراء:82)
وضرب الله تعالى لهذين بنفس مثال الارض فوصف الاول (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة:265) اما الثاني (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (البقرة:264) والصفوان: الحجر الاملس، والوابل: المطر عظيم القطر، والطل: المطر صغير القطر، والجنة: البستان، والربوة: المكان المرتفع يكون شجره انضر وثمره اكثر.
هذه الانبعاثة للحياة المعنوية هي وظيفتنا في عصر الانتظار والترقب بأن نجعل أنفسنا ارضاً صالحة للحياة عندما تتلقى النبتة الطيبة وينزل الله تعالى عليها ماء الرحمة، فاذا تحققت فانها الفرج الحقيقي وانفتاح القلب والنفس على الامام المهدي الموعود صلوات الله وسلامه عليه، فكما ان الأرض لها ربيع تهتز فيه وتربو كذلك القلوب، من كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام) (وتعلموا القرآن فأنه أحسن الحديث، وتفقّهوا فيه فأنه ربيع القلوب)[6] ومن كلام له (عليه السلام) (وانما ذلك ــ أي الموت والحياة ــ بمنزلة الحكمة التي هي حياة للقلب الميت وبصر للعين العمياء)[7].
وبين أيدينا شهر رمضان وهو من أعظم المناسبات لإحياء القلوب وإزالة ما ران عليها بسبب الغفلة والمعاصي وهو الربيع الذي تزدهر فيه الحياة لكل الاعمال الصالحة، وقد منَّ الله تعالى به على عباده ليتعرضوا فيه الى موجبات رحمته ونفحاته القدسية.
وللكلام تفصيل في أسباب موت القلوب وحياتها نسأل الله تعالى التوفيق لبيانها.
[1] - القيت يوم الجمعة 22 شعبان 1438 المصادف 19/5/2017 بمناسبة النصف من شعبان واستقبال شهر رمضان
[2] - نهج البلاغة: من قصار الكلمات، رقم 349
[3] - خطاب المرحلة: 7/290 بعنوان (كونوا من الكنوز التي يكشف عنها الامام (عليه السلام))
[4] - بحار الانوار ج52/ح 83/ ص 344 (قال الامام الصادق (عليه السلام): إذا قام القائم حكم بالعدل وارتفع في أيامه الجور ، وأمنت به السبل ، وأخرجت الارض بركاتها ، ورد كل حق إلى أهله ، ولم يبق أهل دين حتى يظهروا الاسلام ، ويعترفوا بالايمان ، أما سمعت الله سبحانه يقول : (وله أسلم من في السموات والارض طوعا وكرها و إليه يرجعون) (آل عمران:83) وحكم بين الناس بحكم داود ، وحكم محمد صلى الله عليه واله فحينئذ تظهر الارض كنوزها وتبدي بركاتها ، ولا يجد الرجل منكم يومئذ موضعا لصدقته ولا لبره ، لشمول الغنى جميع المؤمنين)
[5] - راجع الروايات في تفسير البرهان: 10/107
[6] - نهج البلاغة، خطبة 110
[7] - نهج البلاغة، خطبة 133