معالم مدرسة الوعي والإصلاح في سيرة السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس)

| |عدد القراءات : 696
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسمه تعالى 

معالم مدرسة الوعي والإصلاح

في سيرة السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس)[1]

تمرّ علينا في مثل هذه الأيام الذكرى التاسعة والثلاثون لاستشهاد المرجع الديني والمفكر الإسلامي الفذّ السيد محمد باقر الصدر (قدس الله نفسه) فيحسُن أن نتوقف عند هذه الذكرى لنأخذ منها الدروس والعبر ونستمد العزم والهمة من سيرة السيد الشهيد الصدر (قدس)، صحيح ان المعصومين (عليهم السلام) هم المثل الأعلى والأسوة الحسنى الا ان الناس يحتاجون إلى تجربة حسية معاشة تقرِّب لهم سيرة المعصومين (عليهم السلام) وسنتهم لتؤثر فيهم، والسيد الشهيد (قدس) شاهد على ذلك.

نقل أحد طلبته القريبين [2] منه أنه اعتقل معه عام 1979 والقيد يربط يده الشريفة بيدي فراني مرتبكاً خائفاً لأن بطش وقسوة جلاوزة النظام في التعذيب والقتل لا نظير لها فاراد تهدئتي وتسكين روعي وقال (إنما هي موتة واحدة وقد بعناها واشترى) في إشارة إلى قوله تعالى (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً) (التوبة:111) فقد باع نفسه وكل ما لديه إلى الله تعالى وقبل تبارك وتعالى بالصفقة وقبض الثمن النفيس الذي يستحق التضحية، فلماذا الخوف والقلق؟

وروى[3] رفيق محنته في الأيام الأخيرة الشيخ محمد رضا النعماني أنه (قدس) قال له: اراك تكثِر من الاوراد وزيارة عاشوراء لدفع القتل عني، وأنا أرى في الموت في سبيل الله تعالى لذة.

اقدم (قدس) على التضحية بنفسه الشريفة بكل اطمئنان وسرور لأنه رأى أن الأمة تعاني من حالة موت الإرادة وفقدان البصيرة حيث عمل النظام البعثي على سلب حريتها وكرامتها وإطفاء نور بصيرتها بالبرامج الافسادية التي شملت جميع فئات الشعب رجالاً ونساءاً، كباراً وصغاراً، شباباً وطلبة وفتياناً، ومهنيين وعمال وموظفين من خلال اذرع اخطبوطية ذات أسماء وعناوين تناسب الشريحة المستهدفة، ورأى (قدس) أن الكتابة والبيان والمنشورات لم تعد قادرة على بعث الحياة في الأمة وأن لابد من التضحية بنفسه عسى أن يوقظها بدمه الشريف، وهو (قدس) كان يقرأ نهضة الامام الحسين (عليه السلام) هكذا ويرى ان التاريخ عاد من جديد واحيا البعثيون طريقة بني أمية في التسلط على رقاب الناس.

فهذا اول معالم مدرسة الوعي والإصلاح التي يتربع (قدس) على زعامتها وهي الاقدام على التضحية، وهو في ذروة المجد والدنيا تلمع ببريق زخارفها له حيث اتسعت مرجعيته وتجاوزت حدود العراق إلى الخليج وإيران ولبنان وأوروبا وغيرها واتبعه قطاع واسع من الشباب الجامعي والمثقفين والنخب وأصبحت له قاعدة حوزوية رصينة بعد ان صار عدد من طلبته أساتذة فضلاء في الحوزة العلمية، وأخذت كتبه صدى عالمياً في الشرق والغرب.

تجرد (قدس) عن كل هذا وتخلى طواعيةً عنه ليلبي نداء الواجب المقدس، ولم يتقاعس أو يخلق لنفسه المبررات.

تجرد عن كل هذا لأنه أصلاً كان زاهداً فيه ولم تكن الدنيا بكل مظاهرها المادية والاعتبارية هدفاً مقصوداً له وبدا ذلك واضحاً في محاضرته الأخيرة عن حب الدنيا ولم يكن يريد ابراز نفسه حتى انه عرض طبع كتابيه (اقتصادنا) و (فلسفتنا) باسم جماعة العلماء وكان يكره المدح والثناء على شخصه وربما وبّخ بعض المتحدثين اذا ذكروا ذلك.

فهذا هو المعلم الثاني لهذه المدرسة الشريفة، ومنه ننتقل إلى الثالث لأن الدافع الى التضحية والزهد في الدنيا هو الإخلاص لله تبارك وتعالى والذوبان فيه وتسخير كل الإمكانيات لإعلاء كلمته ونشر دينه المتمثل برسالة الإسلام العظيم فكان هدفه هذا ويفرح بمقدار تحققه لذا كان سروره عظيماً بانتصار الثورة الإسلامية في إيران على يد السيد الخميني (قدس).

كان همّه إيصال الإسلام إلى جميع البشر واقناعهم به وبقدرته على حل مشاكل البشرية وقيادة الحياة ووضع آليات لتحقيق هذا الهدف كنشر الحوزات العلمية في جميع البلدان فكان يطمح لاستقطاب طلبة إلى الحوزة العلمية من نفس الأوروبيين المسلمين وليس ممن هاجر إليهم، واهتم بنوعية الطلبة فسعى إلى اجتذاب حملة الشهادات الجامعية ونحو ذلك من المشاريع.

وهذا يقودنا إلى الرابع وهو الارتقاء بمستوى الحوزة العلمية وعطائها وقدراتها لتكون قادرة على مواكبة التحديات وإيجاد الحلول لكل المشاكل لأننا نؤمن بان الإسلام دين خالد وانه خاتم الأديان فلابد أن يجيب على كل سؤال ويحل كل مشكلة ويضع القوانين المتكاملة لكل شؤون الحياة، والحوزة العلمية هي الواجهة الدينية التي تقصد في ذلك، ومن مكارم منهج أهل البيت (عليهم السلام) فتح باب الاجتهاد لتتحقق المواكبة، فعلى الحوزة العلمية أن تلتفت إلى أن من مهامها الأساسية كونها حاضرة في كل قضايا الأمة وخبيرة بشؤونها ومطلّعة على العالم من حولها وقادرة على تحمّل مسؤولياتها انطلاقاً من قول الامام الصادق (عليه السلام) (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس) فليس من المعقول ولا من المقبول أن تهان مقدساتنا ويستهزأ بها وتُسَنّ القوانين لمخالفة الشريعة علناً ونحن في بلد المقدسات والأنبياء والأئمة  المعصومين (عليهم السلام) من دون رد حاسم من قبل الحوزة.

وهكذا كان السيد الشهيد الصدر (قدس) فحينما اكتسحت الماركسية وعقيدة الالحاد عالمنا الإسلامي في خمسينيات القرن الماضي سارع إلى تأليف كتابيه الجليلين (اقتصادنا) و (فلسفتنا) ليبين الوجه المشرق المتكامل لدين الإسلام في مقابل الأنظمة الوضعية الناقصة فأصبحت النجف حاضرة في العالمين الشرقي والغربي ــ الذين كانا  يتسيدان الأرض ــ بفضل هذه الجهود الثمينة بعد ان كانت النجف لا تثير اهتمامهم لأن نتاجها في الفقه والاصول لا يعنيهم، واذا بالمفكرين والساسة والاقتصادين من الشرق والغرب ينهلون من فكر السيد الشهيد واطروحاته القيمة.

وحينما عقد مؤتمر في السبعينيات لمناقشة وضع البنوك في الدول الإسلامية وكيفية تصحيح عملها وفق الشريعة الإسلامية كتب بحثه القيم (البنك اللاربوي في الإسلام).

وروى الشيخ النعماني أنه (قدس) شرع بكتابة دستور للجمهورية الإسلامية قبل انتصار الثورة وقبل عودة السيد الخميني (قدس) إلى إيران فسأله النعماني بأن هذا سابق لأوانه ولا نعرف مصير الاحداث، فأجاب (قدس) بأني اريد من المتظاهر الإيراني عندما يسأل عن مطلبه ويجيب اننا نريد حكم الإسلام أن يقدم دستوراً رصيناً يتكفل ببيان رؤية متكاملة عن الدولة والحكم في الإسلام.

إن وصف هذه المدرسة بالوعي والإصلاح لا يعني اهتمامها بهما على حساب التحصيل العلمي والابداع في علوم الحوزة العلمية لأن هذه العلوم أساس الاجتهاد الذي هو من شروط القيادة الإسلامية، فقد كان السيد الشهيد الصدر (قدس) متألقاً فيها حتى وصفه تلميذه السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس) بانه أعلم الأولين والآخرين عدا المعصوم (عليه السلام)، وتحظى نظرياته باهتمام بالغ من لدن العلماء والمحققين، وفي علم الأصول لم يكتفِ بعرض آراء السيد الخوئي (قدس) ومناقشتها باعتبارها أحدث إنجازات الحوزة كما جرت عليه السيرة  وانما أعاد عرض آراء الاعاظم الثلاثة أساتذة السيد الخوئي (قدس) وهم النائيني والعراقي والاصفهاني (قدس الله سرهم) وناقشهم بينما هذب السيد الخوئي وحذف الكثير من التفاصيل لسبب أو آخر.

فاذا أردنا أن نقدِّم نموذجاً لقيادة حوزوية عالمة بزمانها قادرة على النهوض بمشروع الإسلام والانطلاق به إلى العالم كله وان يلبي احتياجاتها وتطلعاتّها فلا نجد أفضل من السيد الشهيد الصدر (قدس) لذا علينا أن ندرس هذه التجربة الغنية الفذة واذا عجزنا عن تقديم بديل بنفس عبقرية السيد الصدر (قدس)، فلنكن بمجموعنا السيد الصدر بأن يتكفل كل فرد أو مجموعة جانباً من هذه العبقريات الفذة، وبانضمام بعضها إلى بعض يتحقق الهدف.

وهكذا كان ينظر (قدس) إلى المرجعيات المتعددة والتوجهات المختلفة في الحوزة العلمية على أنها تتكامل فيما بينها وكما عنون بحثه في سيرة الأئمة (عليهم السلام) بأنهم (تنوع أدوار وهدف مشترك) ولا مبرر مطلقاً للتقاطع والتخاصم وابدى ألمه وامتعاضه بل وسخريته من ابتلاء الحوزة بهذا الصراع وما يلزمه من تسقيط وافتراء وهدر للجهود والأموال والاوقات ومع ما يؤدي إليه من انشقاق وتناحر وتقاطع وكان يقصد هذا الصراع من محاضرته الأخيرة عن حب الدنيا والتي قال فيها (مَنْ منّا عرضت عليه دنيا هارون العباسي ولم يقتل الامام موسى بن جعفر (عليهما السلام) ) ونحن نتصارع على أمور مادية واعتبارية وهمية لا تلبث أن تندثر بخروجنا من هذه الدنيا، لذا كان (قدس) يتسامى على الرد على الذين خاصموه وسعوا إلى تسقيطه بمختلف الأساليب ومضى نقياً عفيفاً طاهراً.

هذه جملة من معالم مدرسة الوعي والإصلاح في الحوزة العلمية نستحضرها عندما نستثير سيرة الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر (قدس) ونستعيد ذكراه وان الروايات والمواقف التي نقلها طلبته ومريدوه كثيرة وهي غنية بهذه المعاني والتي جعلت ذكره حياً رطباً وكأنه لم تمر عليه أربعون عاماً، لأنه أخلص لله تعالى. 

 



[1] - من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع طلبة البحث الخارج في النجف الاشرف يوم الأثنين  2/شعبان/1440 المصادف 8/4/2019

[2] - هو السيد محمود الخطيب

[3] - في كلمته التي القاها بنفس المناسبة في مركز عين للبحوث والدراسات المعاصرة يوم السبت 30 رجب 1440 المصادف 6/4/2019