خطاب المرحلة (495) الامام الرضا رائد حوار الحضارات

| |عدد القراءات : 227
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save
 

 

(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال-30)

الامام الرضا رائد حوار الحضارات([1])

 

كثيرة هي الأسباب والدواعي التي يمكن ان يكون المأمون العباسي قد فكّر فيها حتى اتخذ قرار استقدام الإمام الرضا (×) من المدينة المنورة الى مرو([2]) حيث كان يقيم مع جيشه، ونذكر بعض هذه الأسباب باختصار مقدمة لبيان خاطرة إنقدحت في ذهني:

1-  إعطاء شرعية لسلطته لان المأمون وسلفه يعترفون بأن المستحق الشرعي لولاية أمر الأمة هم الأئمة المعصومون (^) من ذرية علي وفاطمة (صلوات الله عليهما) وقالها هارون العباسي صريحة لولده المأمون عندما سأله عن سرّ تعظيمه للإمام الكاظم (×) وإكرامه (هذا إمام القلوب وأنا إمام الابدان) فقد أخذوا سلطتهم بالسيف وقهر إرادة الأمة والأساليب الشيطانية فرأى المأمون ان وجود الامام الرضا (×) معه في هرم السلطة يضفي الشرعية له.

2- إخماد الثورات المسلحة التي كانت تنفجّر في بلدان إسلامية عديدة رفضاً لسلطة بني العباس الظالمة الجائرة وكان الثوار يكنّون الاحترام والتقديس للأئمة المعصومين (^) وشعار كثير منها الدعوة لمبايعة الرضا من آل محمد (’) ويعتبرونهم القادة القادرين على تحقيق الإصلاح والعدالة الاجتماعية وإقامة دين الله تعالى، فعندما يكون الإمام الرضا في السلطة فأنه يسلب مبررات هذه الثورات باعتبار تحقق الهدف ظاهراً.

3- بعث رسالة تحذير وتهديد الى بني العباس المقيمين في العاصمة بغداد الذين استاؤوا من مقتل الخليفة الأمين على يد جيش أخيه المأمون في بغداد – وهو عباسي الابوين – وتولّي أخيه المأمون – أمه فارسية – وتقريبه للفرس – حيث كان رئيس حكومته الفضل بن سهل الفارسي – وإضعاف سطوة العباسيين ونفوذهم ومن يواليهم من العرب فقرّروا خلع المأمون ومبايعة رجل منهم خليفة في بغداد، فأراد المأمون بجعل الامام الرضا (×) ولياً للعهد أن يقول لهم إن لم تقبلوا بي خليفة فأن الأمر صائر الى أعدائكم التقليديين وهم آل علي (^)، وكان المأمون يعلم أنه لا يستطيع دخول بغداد عندما قرّر العودة اليها من (مرو) ومعه الامام الرضا (×) فقرّر التخلص منه في الطريق فقتله بالسم في طوس حيث مشهده الشريف.

4- الحط من شأن الأئمة المعصومين (^) ومنزلتهم العظيمة في قلوب الناس فأراد أن يقول للناس ان هؤلاء الأشخاص لم يعارضونا ويخرجوا علينا كالإمام الحسين (×) من أجل إحقاق الحق وإقامة دولة العدل وإنما هم طلاب زعامة ودنيا لذلك ما إن عُرضِت على أحدهم ولاية العهد حتى قبلها.

5- وضع الامام الرضا (×) تحت المراقبة المستمرة لمحاصرته وحجبه عن الناس لتحجيم دوره، أما بقاء الامام (×) في المدينة فأنه يتيح له فضاءاً من الحركة واللقاء بالناس من مختلف البلدان الإسلامية الذين يأتون لأداء الحج والعمرة وهذا كله يؤدي الى المزيد من التعريف به و بآبائه الكرام وتوسيع قاعدته.

هذه الأسباب وربما توجد غيرها مما لم استحضرها جالت في ذهن المأمون، وهي ليست خافية عن الامام الرضا (×) ولذا كان موقفه الإصرار على رفض العرض الحكومي، والمأمون يعلم ان الامام (×) سيرفض لأنه يترفع عن الدنيا وأهلها وتضيق نفسه بالحضور في مجالسهم فأرسل مع مبعوثه جيشاً ضخماً لجلب الامام (×) كرهاً، وقد تحدثت الروايات([3]) عن العاطفة الجياشة والبكاء والالم الذي ملأ الامام (×) وهو يودّع قبر جده رسول الله (’) وجدته فاطمة (÷) والأئمة الطاهرين (^) في البقيع ثم الكعبة المشرّفة في مكة ومعه ولده الامام الجواد (×) وهو في السادسة من عمره ويسأله عن سبب هذه اللوعة والحزن فيخبره انه فراق لا يعقبه لقاء وأمر أهله([4]) وذويه بإقامة المآتم لفراقه للإشعار بالمصير الذي سيلاقيه وغادر الامام (×) الى مرو مع جيش الظلمة.

والسؤال الآن: إذا كان الامام (×) يعلم بمكر المأمون وخدعه والاهداف الخبيثة من استقدام الامام (×) وعرض ولاية العهد عليه فلماذا وافق؟

والجواب الذي تذكره المصادر ان الامام (×) أكره على ذلك وهو جواب صحيح وهذا الموقف الرافض لولاية الجائر من المسلّمات في مدرسة اهل البيت (^) وقد أبلغه الإمام للأمة من خلال الفعاليات العاطفية التي ذكرناها آنفاً ومن خلال التصريحات التي ذكرها لبعض المعترضين على موقفه([5]) وقد ردّ الامام (×) بشدة عرض المأمون الخلافة عليه ثم ولاية العهد حتى هدّده بالقتل، والامام (×) لا يخشى الموت وإنما يعمل بما يأمره الله تعالى من المحافظة على الحياة او الاقدام على الشهادة.

وهنا حضرتني خاطرة نستفيد منها درساً عملياً حاصلها: أن الدولة الإسلامية بلغت في عهد هارون وابنه المأمون سعة ونفوذاً وقوة هيمنت بها على أغلب أجزاء العالم المعروف يومئذٍ من حدود الصين شرقاً الى اسبانيا غرباً وأصبحت مقصداً لكل الشعوب والأمم الموجودة وشهدت مدنها حراكاً علمياً وفكرياً وعقائدياً قوياً مدعوماً ببذل سخي من الدولة، وانفتح المسلمون على كل الحضارات المعروفة وتوافد علماؤهم على العاصمة وكان هؤلاء يتحدثون بعقائدهم وتشكيكهم في أصول الإسلام بكل حرية وعزّزتها حركة الترجمة الواسعة لكتب الاغريق والرومان والاقباط والصينيين والهنود والفرس وغيرهم ولم يكن المجتمع المسلم محصناً ليقدر على مواجهتها فاضطربت عقيدة كثيرين واصبح الالحاد علناً والسلطة غير مكترثة بذلك بل تؤيده كما هو ديدن الطواغيت لان انتشار الثقافة الإسلامية الواعية الصادقة ومبادئ الدين الحق يهدّد سلطانهم الجائر.

ولما كان الامام (×) احرص الناس على حفظ عقائد المسلمين وتقويم سلوكهم ومعالجة الانحراف في المجتمع رأى ان من الضروري ان يكون في قلب الحدث وان يدير الحوار الحضاري بنفسه مع علماء الأديان والطوائف والحضارات الأخرى والتي كانت تجري في عاصمة الدولة الإسلامية ولم يكن علماء العامة المتواجدون في البلاط العباسي بالمستوى الذي يؤهلهم لإدارة الحوار بل كانوا من المتزلفين للسلطة اما العلماء الصادقون المخلصون فقد كانوا في زوايا الإهمال او مصيرهم القتل و السجن والتشريد، ولذلك حوَّل الامام (×) ببركة التخطيط الإلهي الفعل الظالم العدواني الى عمل إيجابي مبارك يحصّن عقائد الامة ويهديها ويصلح حالها، ورأى (×) ان وجوده في المدينة بعيدا عن هذا الغزو الثقافي والاخلاقي والعقائدي يضعف شوكة المسلمين ويذهب عزتهم وكرامتهم ويفقدهم دينهم، وان التواجد في عاصمة الدولة مهم ومثمر من دون ان يحقق للظالم أهدافه حيث افشلها الامام (×) برفض ولاية العهد بشدة وحينما قبلها كان القبول مشروطاً بان لا يأمر ولا ينهى ولا ينصب ولا يعزل ولا يلي شيئا من أمور السلطة ليثبت عمليا انه ليس جزءا منها فالإمام (×) ثبَّت أولا هذه الحقيقة في ذهن الامة ثم انطلق لإداء رسالته، ومن يراجع كتابي (عيون اخبار الرضا) و(الاحتجاج) وغيرها يجد الكم الهائل من المناظرات والحوارات التي اجراها الامام الرضا (×) مع علماء اليهود والانصار والمجوس والزرادشت والصابئة والملحدين ومختلف الأيدولوجيات وتفوق الامام (×) عليهم وافحامهم، وبذلك أسس الامام (×) لحوار حضارات واسع النطاق ومبني على أسس علمية رصينة قبل ان يدعو الغرب اليه اليوم بعد اكثر من الف عام ويسميه احياناً (صراع الحضارات) لان منهجه وتفكيره يفترض سلفاً المغالبة والنزاع والتسلط، لا الحوار والاقناع والتعايش بسلام.

فالمأمون العباسي فكّر بأمور ففشل فيها والامام الرضا (×) أراد غيرها فحققها بفضل الله تعالى مصداقاً لقوله تعالى (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال/30) مما اوغر قلب المأمون وزاد من حقده ولم يجد بداّ من استعمال سلاح العاجزين الفاشلين وهو القتل والتصفية الجسدية ليزيح الامام الرضا (×) عن مسرح الحياة .

وهذا الدور من الامام الرضا (×) يشابه ما قام به جده امير المؤمنين (×) في التصدي لتشكيكات علماء اليهود ومن ورائهم بعد وفاة رسول الله (’) مستغلين اقصاء القيادة الحقّة ونقصان تربية اغلبية المسلمين علميا واخلاقيا مما دعا الخلافة المتقمصة الى طلب النجدة من امير المؤمنين (×) في كل ازمة تمر بها، وقد فصلنا الكلام فيها في كتاب (دور الائمة في الحياة الإسلامية).

والدرس العملي الذي نستفيده من هذه القراءة لحركة الامام الرضا (×) ان نكون حاضرين في ساحات الحوار والمواجهة مع كل الاتجاهات الفكرية المطروحة سواء على صعيد الكتب والمجلات والصحف او على مواقع التواصل الاجتماعي وشبكات الانترنت او الفضائيات والقنوات المرئية والمسموعة والمؤتمرات والندوات وسائر الفعاليات، وان لا نغيب عنها وان نقصدها ونذهب اليها ولا ننتظر دعوة المشاركة فيها ولم يعد كافيا ان نمنع تداول كتاب ما ونحو ذلك، فقد غزونا في عقر دارنا بألقاء الشبهات والشكوك والضلالات الموجهة للإسلام والقران الكريم والى نبي الإسلام محمد (’) والائمة الطاهرين (^) بل اصل الاعتقاد بالله تعالى .

فهل نقابلهم بالإهمال والتقصير والاستمرار في الجهل، ام بالتعب في تحصيل العلوم والمعارف المطلوبة ثم مواجهتهم بالحجج الدامغة والأدلة القويمة بأذن الله تعالى (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) (الأنعام /149) .

إنَّ مسؤوليتنا اليوم أكبر من أي زمان مضى وهذه ضريبة الاستعداد لاستقبال اليوم الموعود بقدر ضخامة التحدي.



([1]) كلمة القاها سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في 13 ذو القعدة 1437 الموافق 17/8/2016 في جمع من أهالي ناحية الشيخ سعد من محافظة واسط.

([2]) تقع الآن في جمهورية تركمنستان التي كانت خاضعة للاتحاد السوفيتي، فتحها المسلمون في خلافة عثمان، منها خرج أبو مسلم الخراساني (المنجد في الاعلام).

([3]) روى الصدوق بسنده عن مخول السجستاني قال: لما ورد البريد باشخاص الرضا عليه السلام إلى خراسان كنت أنا بالمدينة فدخل المسجد ليودع رسول الله (ص) فودعه مرارا كل ذلك يرجع إلى القبر ويعلو صوته بالبكاء والنحيب فتقدمت إليه وسلمت عليه فرد السلام وهنأته فقال : ذرني فاني أخرج من جوار جدي (ص) وأموت في غربة وأدفن في جنب هارون قال : فخرجت متبعا لطريقه حتى مات بطوس ودفن إلى جنب هارون. عيون أخبار الرضا ×: 2/ 217.

([4]) وبإسناده عن الوشاء قال: قال لي الرضا ×: إني حيث أرادوا الخروج بي من المدينة جمعت عيالي فأمرتهم أن يبكوا علي حتى أسمع ثم فرقت فيهم اثنى عشر ألف دينار ثم قلت : أما إني لا أرجع إلى عيالي أبداً. العيون: 2/ 217.

 وروى الحميري في الدلائل، عن أُميّة بن علي، قال: كنت مع أبي الحسن × بمكّة، في السنة التي حجّ فيها، ثمّ صار إلى خراسان، ومعه أبو جعفر × وأبو الحسن × يودّع البيت، فلمّا قضى طوافه، عدل إلى المقام، فصلّى عنده، فصار أبو جعفر × على عنق موفّق –أحد خدّام الإمام وخواصه- يطوف به، فصار أبو جعفر × إلى الحجر، فجلس فيه فأطال، فقال له موفّق: قُم جعلت فداك. فقال: ما أُريد أن أبرح من مكاني هذا إلاّ أن يشاء الله، واستبان في وجهه الغمّ. فأتى موفّق أبا الحسن × فقال: جعلت فداك، قد جلس أبو جعفر × في الحجر، وهو يأبى أن يقوم، فقام أبو الحسن × فأتى أبا جعفر × فقال له: قم يا حبيبي، فقال: ما أُريد أن أبرح من مكاني هذا. قال : بلى يا حبيبي. ثمّ قال: كيف أقوم، وقد ودّعت البيت وداعاً لا ترجع إليه! فقال: قم يا حبيبي، فقام معه. كشف الغمة: 3/ 155، بحار الأنوار: 49/ 120.

([5]) راجعها في وسائل الشيعة: 12/145 كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ، باب 48، وراجع التفاصيل في كتاب (فقه المشاركة في السلطة).