خطبتا صلاة عيد الفطر لعام 1441 - أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ..

| |عدد القراءات : 272
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسمه تعالى

[أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ]([1]) (النمل : 62)

     المضطر من به ضُرّ ويعني سوء الحال وهو ما دلّت عليه نفس الآية [وَيَكْشِفُ السُّوءَ] والضرّ مقابل النفع كما أن الضرّاء مقابل السراء والنعماء، وقد يكون الضر مادياً كفقدان المال ونقص البدن بفقدان عضو فيه، أو معنوياً كنقص الإيمان أو العلم أو الأخلاق أو المكانة الاجتماعية. ومن جهة أخرى فإن الضر قد يمسّ الفرد كالأمثلة التي ذكرناها وقد يمس المجتمع كالحروب والأوبئة وفقدان الأمن وتسلّط الأشرار وانهيار الدولة والفوضى والخوف وتخريب الاقتصاد والبطالة وعدم العدالة الاجتماعية ونحو ذلك الذي قد يكون بسبب خارجي كالقهر والإكراه والتهديد أو الإغراء وقد يكون بسبب داخلي كالجوع المؤدي إلى الهلاك، قال تعالى: [فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (المائدة : 3) [فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (البقرة : 173)، فهذه كلها أشكال للضرّ.

     فالآية الكريمة تسأل عمَّن يجيب المضطر المنقطع إذا دعاه وطلب منه غير الله تعالى، وهي تقع ضمن سلسلة من الاستفهامات الاستنكارية والإقرارية، وهي تخاطب مراتب عديدة وواسعة ابتداءً من المنكرين لوجود الله تبارك وتعالى إلى المتخذين أنداداً وشركاء له سبحانه ويزعمون أن بيدهم تدبير الخلق إلى الذين يؤمنون بالله تعالى ويشهدون له بالوحدانية إلا أنهم معرضون عنه عاصون له متمردون عليه في غفلة لا يستحضرون وجوده تبارك وتعالى، فتستنطق الآية فطرة كل هؤلاء وتلفت نظرهم إلى هذه الحقيقة التي مهما أنكرها الإنسان بلسانه أو غفل عنها في حياته فإن وجوده وفقره واحتياجه الذاتيين ينطقان بها فالآية تقرّرهم بهذه الحقيقة كمقدمة للإيمان بالله تعالى وأنه وحده مدبّر الأمور، وبنفس الوقت تستنكر كفرهم وشركهم وتمردهم وهم بهذه الحاجة الحقيقية إلى الله تعالى، قال سبحانه: [وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ] (يونس : 12)، وقال تعالى: [وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً] (الإسراء : 67) [وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ] (الروم : 33) [فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ] (الزمر : 49) وقال تعالى: [وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ] (النحل : 53) وقد تكرر هذا المعنى كثيراً في القرآن الكريم.

     فالإنسان يدرك بفطرته عند وقوعه في الضرّ والبلاء الخانق وتقطّع الأسباب عنه أن قوة غيبية حكيمة رؤوفة حاضرة عنده ومطّلعة على حاله، وهي قادرة على أن تمدّ يد الرحمة إليه وتنقذه ولا يعجزها شيء وتجيبه إذا طلب منها التدخل لإنقاذه ولا تنتظر من أحد جزاءً ولا شكوراً، هذه الحالة التي يعيشها المسجون في الزنزانة الانفرادية المظلمة تحت التعذيب القاسي لجلاوزة الطواغيت([2])، أو مَن تحطمت به السفينة التي يركبها وهو في عرض البحر أو من تتعرض الطائرة التي يركبها في أعالي الجوّ إلى عطل يسقطها، أو مَن يعاني من آلام الأمراض الفتاكة وهو يقترب من الموت ونحو ذلك من صور الاضطرار التي أشار إليها دعاء الجوشن الصغير([3]).

     فالآية الكريمة تثير هذا الشعور العاطفي الوجداني لتقرّب الإنسان إلى الهداية والصلاح، وهو الأسلوب الذي اعتمده المعصومون (سلام الله عليهم) لإثارة الفطرة السليمة التي تدعو إلى الإيمان بالله تعالى والالتجاء إليه وحده، روي أن رجلاً قال للإمام الصادق (عليه السلام): (يا ابن رسول الله، دلّني على اللّه ما هو فقد أكثر علىّ المجادلون وحيّروني، فقال عليه السّلام: يا عبد اللّه، هل ركبت سفينة قطّ؟ قال: بلى، قال: فهل كُسِرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال: بلى، قال: فهل تعلّق قلبك هناك أنّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟ قال: بلى، قال الصادق عليه السّلام: فذلك الشيء هو اللّه القادر على الإنجاء حين لا منجي و على الإغاثة حيث لا مغيث)([4]).

     وروى في الدر المنثور أن رجلاً سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله): إلى مَ ندعو؟ قال (صلى الله عليه وآله): ادعُ إلى الله وحده الذي إن نزل بك ضرّ فدعوته كشف عنك، والذي إن ضللت بأرض قفر فدعوته رد عليك، والذي إن أصابك سنة فدعوته أنزل لك)([5]).

     والإنسان المنصف حينما يقرأ هذه الآية الكريمة يشعر بالخجل حقيقة أمام الله تعالى من الجحود والانحطاط الذي وصل إليه البشر بحيث يتوسل الله تبارك وتعالى بهذه الحقائق الواضحة ويثير هذه المشاعر الوجدانية لكي يهديه إلى الإيمان به تعالى هذه الحقيقة التي بيّنها القرآن الكريم في أكثر من آية قبل أن يسأل عنها؛ قال تعالى: [وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ] (الأنعام : 17) (يونس:107).

     لذا لا نستغرب من أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا ارتعد عجباً واستنكاراً من جحود الناس وتمرّدهم حين سماعه هذه الآية والآيات التي معها [أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ] (النمل : 60) والتي بعدها وكلها تنتهي بالسؤال [أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ]، روى ابن شهرآشوب عن أنس بن مالك قال: ((لما نزلت الآيات الخمس في طس: [أَمَّنْ جَعَلَ الأرضَ قَرَاراً] انتفض عليّ عليه السلام انتفاض العصفور، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: ما لك يا علي؟ قال: عجبت -يا رسول الله- من كفرهم وحِلم الله تعالى عنهم. فمسحه رسول الله صلى الله عليه وآله بيده ثم قال: أبشِر فإنه لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق، ولولا أنت لم يُعرف حزب الله))([6])، وسيأتي بيان الوجه في الإجابة بهذه البشرى.

     وإنما ذكرت الآية [المُضطَرَّ] لأن الإنسان ينقطع في حال الاضطرار وتقطّع كل الأسباب والوسائل إلا الله تبارك وتعالى فتساعده هذه الحالة على تحقيق شرط إجابة الدعاء وهو التوجه الخالص الصادق إلى مَن بيده مقاليد الأمور فحينئذٍ يتطابق لسان مقاله بالدعاء مع حاله المتوجه فطرياً إلى الله تعالى، أي يتطابق الطلب التكويني بالفطرة مع الطلب التشريعي وهو التوجه بالدعاء حتى تتحقق الإجابة بإذن الله تعالى.

     فاستجابة الدعاء وكشف الضر والسوء يتطلب عدة أمور:

1- الانقطاع إلى الله تعالى والتوجه بصدق إليه سبحانه، وتساعد حالة الاضطرار على تحقيق هذه الحالة.

2- صدور الدعاء والطلب [إذَا دَعَاهُ] ليستجاب له، وأن يكون الطلب متوجهاً إلى الله تعالى دون سواه [دَعاهُ]، ولكن هذا لا يلزم منه أن الله تعالى لا يعطي إلا بطلب فنعمه ابتداء وإحسانه تفضّل (يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة)([7]) فالجملة [إذَا دَعَاهُ] تبيّن المقتضي لا العلة التامة، ويمكن أن لا تكون شرطية لها مفهوم أصلاً وإنما هي مسوقة لبيان تحقق الموضوع على تعبير الأصوليين.

3- أن يكون الطلب لجلب الخير ودفع الضر والسوء [وَيَكشِفُ السُوءَ] أي لما فيه مصلحة العبد، فلو دعا على خلاف مصلحته فإنه لا يستجاب له.

     فالتفصيل المذكور في هذه الآية يبيّن ما أجملته الآيات الأخرى من شروط الإجابة كقوله تعالى: [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] (غافر:60) وقوله تعالى: [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ] (البقرة:186).

     إن الاضطرار حالة تقرّب المسافات في طريق التكامل وتؤهل العبد لمقامات عليا إن أحسن اغتنام هذه الفرصة، فالوقوع في الضرّ والبلاء وإن كان فيه مشقة على النفس وشعور بالضيق، إلا أن حالة الاضطرار الناتجة عنه نعمة على العبد، تعيده إلى الله تبارك وتعالى وتنقذه من الغفلة التي يقع فيها بسبب انهماكه في الأمور الدنيوية وهذا وجه لفهم ما ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (الاضطرار عين الدين)([8])؛ لأن الإنسان يصل بالاضطرار إلى الحقيقة.

     ولو كان الإنسان ذا بصيرة لعلم أنه في كل آنٍ من آناته ومع كل نفس هو في حالة اضطرار؛ لفقره الذاتي واحتياجه في كل شيء ولكنه لاعتياده على النعم فهو يغفل عن هذه الحقيقة ولا يلتفت إليها إلا إذا وقع في الضر [وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ] (يونس : 12).

     ومما ذكرناه من أن بعض الضرّ والسوء اجتماعي يحيق بالأمة كلها يُعرف أحد وجوه المناسبة بين هذا الجزء من الآية وما يليه من قوله تعالى: [وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ] فإنه تبارك وتعالى لا يخلّصكم فقط من الضرّ الاجتماعي كتسلّط الأشرار وفقدان الأمن والعدالة الاجتماعية وانتشار الفوضى والظلم والفساد والخوف وانعدام فرص الحياة الحرة الكريمة، وإنما يجعلكم أنتم -الثلة الصالحة- خلفاء الأرض وحكّامها ووارثيها كما خلّص بني إسرائيل من طغيان فرعون وأورثهم أرضهم وديارهم.

     وهذا الاستخلاف خاص يضاف إلى الاستخلاف العام وهو أصل جعل الإنسان خليفة الله في أرضه [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] (البقرة:30) وتسخير كل ما في الأرض من موارد وإمكانيات تحت تصرّف الإنسان وفي خدمته [وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] (الجاثية:13) فكيف يغفل الإنسان عن ربِّه الذي أغدق عليه كل تلك النعم. ولذا يتساءل في نهاية الآية بتعجّب واستنكار من الغفلة عن الله تعالى الذي أفاض كل هذه النعم، قال تعالى: [أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ] (النمل:62).

     ولعل هذا الوجه لارتباط السياق أقرب من غيره([9]) لظهور الآية في الاستخلاف الخاص الذي وعد به تبارك وتعالى، قال سبحانه: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ] (النور : 55).

     ومما يقرّب هذا الوجه أنه أكثر انطباقاً على قضية الإمام المهدي (عليه السلام) الذي فُسِّرت به الآية كما سيأتي.

     مضافاً إلى ما سنذكره من وجه انتفاضة أمير المؤمنين (عليه السلام) حين سماعه قوله تعالى: [وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ] فهذه قرائن ثلاث تقرّب ما ذكرناه.

     إن خلافة الله تعالى في الأرض التي وعد عباد الله الصالحون الواعون الرساليون بالتمهيد لها وممارستها وحمل لواء التوحيد مهمة عظيمة ومسؤولية شاقة يستشعرها أهلها روى الشيخان المفيد في أماليه والشيخ الطوسي عنه في أماليه بالسند عن عمران بن الحصين قال: ((كنت أنا وعمر بن الخطاب جالسين عند النبي صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام جالس إلى جنبه إذ قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله: [أمن يجيب المضطر  لما نزلت الآيات الخمس في طس: [أَمَّنْ جَعَلَ الأرضَ قَرَاراً] انتفض عليّ عليه السلام انتفاض العصفور، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: ما لك يا علي؟ قال: عجبت -يا رسول الله- من كفرهم وحِلم الله تعالى عنهم. فمسحه رسول الله صلى الله عليه وآله بيده ثم قال: أبشِر فإنه لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق))([10]).

     وعن بريدة قال: ((قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) إلى جنبه: [أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ]، قال: فانتفض علي (عليه السلام) انتفاضة العصفور، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): لِمَ تجزع، يا علي؟ فقال: كيف لا نجزع وأنت تقول: [وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ]؟ قال: لا تجزع، فوالله لا يبغضُك مؤمن ولا يحبك كافر))([11]).

     وقيل في وجه هذا الجواب أنه لطمأنة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وأنه سيقوم بمسؤولية الخلافة على أحسن وجه ((حيث ضمنت عدله في الحكم لحد (لا يبغضك مؤمن ولا يحبّك منافق) فإن الحكم غير العادل يبغضه المؤمن ويحبّه المنافق))([12]).

     فانتفاضة الإمام (عليه السلام) من جهتين: حين سمع قوله تعالى: [أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ] لإصرارهم على الكفر والعصيان مع طول حلمه تعالى، وحين سمع قوله تعالى: [وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ] لثقل مسؤولية هذه الخلافة.

     لذا كان الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) المصداق الأكمل للآية الكريمة بحسب الروايات الشريفة الآتية، وفي دعاء الندبة (أين المضطر الذي يجاب إذا دعى)([13]) وذلك لأنه:

     1- من (التامّين في معرفة الله)([14]) فهو مستحضر لحقيقة الاضطرار والانقطاع إلى الله تعالى دائماً وليس في أوقات الضيق والشدة فقط.

     2- ولأنه (عليه السلام) واقع في أوسع ضرّ وألم وأذى بسبب ما يطّلع عليه من عصيان وتمرّد الناس وانحرافهم عن الحق والهدى حتى من المحسوبين عليه، ولانتشار الظلم والفساد في البر والبحر، ولتألمه لما تعانيه البشرية عموماً وأتباعه ومواليه خصوصاً من الظلم والعدوان والحرمان.

     3- ولأنه بقية الله وخليفته في أرضه الذي وعده الله بالاستخلاف والتمكين في الأرض ليقيم دولة الحق والعدل، ويقضي على الظلم والفساد والجور.

     روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال في حديث: (والله لكأني أنظر إليه وقد أسند ظهره إلى الحجر، فينشد الله حقه، ثم يقول: يا أيها الناس: مَن يحاجّني في الله، فأنا أولى الناس بالله، أيها الناس: من يحاجّني في آدم فأنا أولى الناس بآدم، أيها الناس من يحاجّني في نوح فأنا أولى الناس بنوح، أيها الناس: من يحاجّني في إبراهيم فأنا أولى الناس بإبراهيم، أيها الناس من يحاجّني في موسى فأنا أولى الناس بموسى، أيها الناس من يحاجّني بعيسى فأنا أولى الناس بعيسى، أيها الناس من يحاجّني بمحمد (صلى الله عليه وآله) فأنا أولى الناس بمحمد (صلى الله عليه وآله)، أيها الناس من يحاجني بكتاب الله فأنا أولى الناس بكتاب الله. ثم ينتهي إلى المقام فيصلّي عنده ركعتين). ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): وهو المضطر الذي يقول الله فيه: [أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ] فيه نزلت وله)([15]).

     وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (إن القائم (عليه السلام) إذا خرج دخل المسجد الحرام فيستقبل القبلة ويجعل ظهره إلى المقام، ثم يصلي ركعتين، ثم يقوم فيقول: يا أيها الناس، أنا أولى الناس بآدم، يا أيها الناس، أنا أولى الناس بإبراهيم، يا أيها الناس، أنا أولى الناس بإسماعيل، يا أيها الناس، أنا أولى الناس بمحمد صلى الله عليه وآله، ثم يرفع يديه إلى السماء ويدعو ويتضرع حتى يقع على وجهه، وهو قوله عز وجل: [أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ)([16]).

     وإذا عشنا بصدق معنى الاضطرار لظهور الإمام (عليه السلام) وإقامة دولته المباركة ودعونا بتعجيل ظهور الإمام (عليه السلام) فإن الآية المباركة ستجري حتماً [وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ] (الروم : 4).

     إن كلمات المعصومين (عليهم السلام) وأدعيتهم تفوح بعطر الاضطرار والانقطاع إلى الله تبارك وتعالى عن المخلوقين ومن ذلك ما روي من دعاء النبي (صلى الله عليه وآله) في يوم بدر حينما واجه المشركين الذين يفوقونه أضعافاً بالعدد والعدة ودعى به الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء (اللَهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي‌ فِي‌ كُلِّ كَرْبٍ، وَأَنْتَ رَجَائِي‌ فِي‌كُلِّ شِدَّةٍ، وَأَنْتَ لِي‌ فِي‌ كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِـي‌ ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ. كَمْ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فِيهِ الْفُؤَادُ، وَتَقِلُّ فِيهِ الْحِيلَةُ، وَيَخْذُلُ فِيهِ الصَّدِيقُ، وَيَشْمَتُ فِيهِ الْعَدُوُّ، أَنْزَلْتُهُ بِكَ، وَشَكَوْتُهُ إلَيْكَ، رَغْبَةً مِنِّي‌ إلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، فَفَرَّجْتَهُ عَنِّي‌، وَكَشَفْتَهُ، وَكَفَيْتَهُ. فَأَنْتَ وَلِي‌ُّ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَصَاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ، وَمُنْتَهَي‌ كُلِّ رَغْبَةً)([17]).

     ودعاء الإمام السجاد (عليه السلام) (يا من تحَلّ به عقد المكاره) الذي كان يدعو به أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، روى السيد ابن طاووس في مهج الدعوات أن اليسع بن حمزة القمي كتب إلى الإمام الهادي (عليه السلام) يشكو إليه ما حلّ به من وزير الخليفة العباسي وما يتخوفه من القتل، فكتب إليه: لا روعٌ عليك ولا بأس فادعُ بهذا الدعاء يخلّصك قريباً ويجعل لك فرجاً، فإن آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) يدعون به عند نزول البلاء وظهور الأعداء وعند تخوّف الفقر وضيق الصدر، فدعى به في صدر النهار فما مضى شطره حتى أطلِقَ وأُكرِم.

     ودعاء الإمام الكاظم (عليه السلام) وهو يعاني أشد أنواع العذاب النفسي والجسدي في الطامورة([18]) الظلماء حيث لا يتميز الليل من النهار في حبس هارون العباسي وهو يناجي ربّه (يا سيدي نجني من حبس هارون، وخلصني من يده، يا مخلص الشجر من بين رمل وطين وماء، ويا مخلص اللبن من بين فرث ودم، ويا مخلص الولد من بين مشيمة ورحم، ويا مخلص النار من بين الحديد والحجر، ويا مخلص الروح من بين الأحشاء والأمعاء، خلصني من يدي هارون)([19]).

     ومن نداءات الاستغاثة عند الاضطرار التي لا يُخذل الداعي بها (يا غياث المستغيثين أغثني، حكى المرحوم الشيخ أحمد الوائلي حادثة في تأثير هذا النداء، أن ملكاً أصبح في يوم حزيناً كئيباً ضيّق الصدر ولم يعرف سبباً لذلك فحاول مساعدوه ومستشاروه أن يفعلوا كل ما يستطيعون لتعديل مزاجه وإدخال السرور عليه وإزالة الغم عنه فلم يفلحوا، فأمرهم أن يعدّوا السفن ليخرج في نزهة بَحرية لعل وضعه يتحسّن، فهيأوا له ما يحتاج وانطلقوا في رحلة في عرض البحر، فسمع نداء استغاثة من إنسان فأمر رجاله بالنزول إلى البحر والبحث عنه حتى وجدوه وأنقذوه، وجاؤوا به إلى الملك فسأله عن حاله وقال: كنّا في سفينة فاضطرب البحر وانكسرت وغرق الركاب إلا أنا كنت أستغيث بالله تعالى وأصيح: (يا غياث المستغيثين أغثني) حتى جئتم فأنقذتموني.

 

 



([1] خطبتا صلاة عيد الفطر السعيد لسنة 1441 هجـ الموافق 25/5/2020، وقد أقام سماحة الشيخ المرجع الصلاة بعدد محدود في مكتبه مراعاة للإجراءات الوقائية من فايروس كورونا.

([2] قال المرحوم علي شريعتي في بعض مذكراته: ((فعندما ضيّقوا عليّ الخناق وجعلوني وحيداً فريداً، وجعلوا دنياي لا تتعدى عدّة أشبار في عدة أشبار مظلمة وضيقة، وقطعوني عن العالم والعالمين، بعيداً عن الأحياء، وفرّت من خيالي الأسماء والذكريات، كنت أشعر حتى في غياهب الخلوة، وفي الغيبة المطلقة، حيث لم يكن شيء ولم يبق ثمة شيء، كنت أشعر وكأنّي أملك شيئاً، وأن هناك وجوداً ما حتى في تلك الأجواء الغيبية المجرّدة، شعرت في تلك الظروف الخالية من الناصر والمعين، بأن هناك عيناً ترعاني، وتحرسني وأنني أُرى ويُشعَر بي، وأن هناك وجوداً له حضور في خلوتي، وهناك من يسدّ عليَّ خلّتي، وأن هناك ناصراً يبصرني وأنا في تلك الأجواء من غياهب النسيان، ويحقن في شراييني الاستذكار والوجود والحياة والنور، حتى أنني أحياناً أسلّم عليه، وأخجل منه، وأغض طرفي عنه، وأنتبه إلى أعمالي وسلوكي وحركاتي وأفكاري، وأتحبب إليه أحياناً وأنا وحيد في ذلك القبر، يسرّني رضاه عني، فأتباهى وأُسَرُّ، وأشبع أنانيّتي، فأشمخ وأمتلئ زهواً وقوّة وأغدو واضحاً وصالحاً)) (أطروحة حياة: 211 عن الأعمال الكاملة لشريعتي: 1/269).

([3] مفاتيح الجنان: 106. بحار الأنوار: 48، 219. عيون أخبار الرضا: 1/87، ح13، الباب 7: جلّ من أخبار موسى بن جعفر عليهما السلام.

([4] بحار الأنوار: 3/41، ح 16 عن تفسير العسكري: 21، معاني الأخبار: 4 باب 5، ح5.

([5] تفسير ابن كثير: 3/382.

([6] البرهان في تفسير القرآن: 7/172، ح 61 عن مناقب ابن شهرآشوب: 2/125.

([7] من الدعاء المعروف في شهر رجب وأوله: (يا من أرجوه لكل خير).

([8] جامع السعادات: 3/293، وأورده (الفرقان في تفسير القرآن: 21/274 عن تفسير بيان السعادة: 3/177).

([9] كالذي ذكره السيد الطباطبائي (قدس سره) في الميزان، قال: ((الذي يعطيه السياق أن يكون المراد بالخلافة الخلافة الأرضية التي جعلها الله للإنسان يتصرف بها في الأرض وما فيها من الخليقة كيف يشاء كما قال تعالى: [وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة] (البقرة: 30). وذلك أن تصرفاته التي تصرف بها في الأرض وما فيها بخلافته أمور مرتبطة بحياته متعلقة بمعاشه فالسوء الذي يوقعه موقع الاضطرار ويسأل الله كشفه لا محالة شيء من الأشياء التي تمنعه التصرف أو بعض التصرف فيها وتغلق عليه باب الحياة والبقاء وما يتعلق بذلك أو بعض أبوابها ففي كشف السوء عنه تتميم لخلافته. ويتضح هذا المعنى مزيد اتضاح لو حمل الدعاء والمسألة في قوله: [إذا دعاه] على الأعم من الدعاء اللساني كما هو الظاهر من قوله تعالى: [وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها] (إبراهيم: 34)، وقوله: [يسأله من في السماوات والأرض] (الرحمن: 29)، إذ يكون على هذا جميع ما أوتي الإنسان ورزقه من التصرفات من مصاديق كشف السوء عن المضطر المحتاج إثر دعائه فجعله خليفة يتبع إجابة دعائه وكشف السوء الذي اضطره عنه)) (الميزان في تفسير القرآن: 15/385).

      وملخّص ما ذكره (قدس سره) أن كشف الضرّ والسوء فيه معالجة لنقصه واستعادة لقواه التي تمكّنه من ممارسة وظيفة الخلافة في الأرض ويكون زوالها بمثابة إزالة الموانع عن ممارسة الإنسان وظيفته في خلافة الأرض وهو معنى خلاف ظاهر الجعل.

([10] البرهان في تفسير القرآن: 7/173، ح4 عن أمالي المفيد: 307، ح5 وأمالي الطوسي: 1/75.

([11] المصدر نفسه، ح5 عن تأويل الآيات: 1/401، ح3.

([12] الفرقان في تفسير القرآن: 21/279، الهامش.

([13] مفاتيح الجنان: 536.

([14] من الزيارة الجامعة الكبيرة.

([15] كتاب الغيبة للنعماني: 181، ح 30.

([16] تفسير البرهان: 7/173-174.

([17] بحار الأنوار: 45/4، ورواه الكليني في الكافي: 2/579،  باختلاف يسير في الألفاظ.

([18] كان بعض السجون التي حُبس (عليه السلام) فيها على هذا الحال كما ورد في زيارته (عليه السلام) والصلاة عليه التي أوردها السيد ابن طاووس في مصباح الزائر (اللهم صلِّ ... والمعذَّب في قعر السجون وظُلَمِ المطامير) (بحار الأنوار:99/17).

([19] بحار الأنوار: 48/219 عن عيون أخبار الرضا: 1/193.