فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا - لا تهولنّكم قوة الباطل فإنها إلى فناء

| |عدد القراءات : 127
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

{فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} (مريم /84)

لا تهولنّكم قوة الباطل فإنها إلى فناء[1]

يشعر المؤمنون والعاملون الرساليّون بالإحباط واليأس أحياناً عندما يرون الباطل يتسلط ويتفرعن، والفساد ينتشر، وتصبح للظالمين دولة تملك المال والاعلام والسلطة وكل أدوات الحرب الناعمة والخشنة، ولا تتورع عن استخدام أي وسيلة حتى القذرة منها لتحقيق أهدافها، وحينئذٍ ينكمش المؤمنون وينزوون ويتخلون عن واجبهم في الدعوة الى الله (تبارك وتعالى) وهداية الناس وإرشادهم وإصلاحهم.

فتأتي هذه الآية الكريمة وآيات كثيرة غيرها لتحليل هذه الظاهرة وعلاجها لتقول : إنّ هذا الشعور ناشئ من العجلة، فكأن المؤمنين يستعجلون النصر وتحقق النتائج التي يسعون من أجلها، ويريدون أن ينزل الله تعالى العقوبة على كل ظالم بمجرد صدور الظلم منه فلما تتأخر عليهم يشعرون بالإحباط والضيق، وهذا خلاف سنة الله تعالى الجارية في خلقه {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} (فاطر/45) فتنهى الآية الكريمة عن الانبهار بدولة الباطل والشعور بالإحباط لعدم نزول العذاب (فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) لعدم وجود المسوغ للعجلة ، ففي دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) (وإنما يعجل من يخاف الفوت وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف) [2] والمفروض أننا مؤمنون نعتقد جازمين بأنّ الله تعالى لا يفوته شيء وهو قوي ومقتدر قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (إبراهيم/42)  وقال تعالى: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} (مريم /94-95) فإمهالهم وبال عليهم، قال الله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (آل عمران/178) وستقودهم شياطينهم إلى الهلاك فلماذا العجلة.

ويتضمن الجزء الثاني من الآية تعليل عدم صحة الاستعجال بقوله تعالى (إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) فإن الله تعالى بهذا الإمهال يريد أن يقيم الحجة البالغة عليهم ويدعهم يستوفون مدّتهم كاملة ، وهم في كل لحظة تمرّ عليهم في الدنيا ومع كل نفس يلتقطونه يزدادون إثماً واستحقاقاً للعقاب، والله تعالى يعدُّ عليهم هذه الأنفاس حتى تنتهي، إذ المعدود ينقصه العدّ وتتأكل به، ففي التعبير كناية عن انتهاء أعمارهم ورجوعهم الى الله تبارك وتعالى، وكأن الله تعالى يملك في خزائنه لكل منهم عدد أنفاسه المكونة لعمره ويطلقها لهم واحداً بعد واحد حتى تنتهي، روى الشيخ الكليني بسنده عن عبد الأعلى قال: ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام: قول الله عز وجل: " إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا " قال: فما هو عندك؟ قلت: عدد الأيام، قال: إن الآباء والأمهات يحصون ذلك، قال: لا ولكنه عدد الأنفاس) [3] فتصوروا أنّ آثامهم بقدر أنفاسهم فضلاً عما لو لوثوها بجرائمهم ومعاصيهم، فإن عدَّ الأنفاس في الحقيقة هو عدَّ للأعمال المثبتة في صحيفة الحياة حتى تتم الصورة التي يؤول اليها في آخرته ((فكما أن مكث  الجنين في الرحم مدة يتم  بها خلقة جسمه  كذلك مكث الانسان في الدنيا لأن يتم بها خلقة نفسه وأن يعدَّ الله ما قدّر له من العطية ويستقصيه))[4] لذا لا يصح استعجال الجزاء ثواباً وعقاباً لأن في استيفاء المدة اكتمالاً لحسنات المحسن فيثاب عليها، ولسيئات المسيء فيعاقب عليها.

ولذا جاءت هذه الآية الكريمة متفرعة بقرينة الفاء على الآية التي قبلها { أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} (مريم/83) أي تهزهم وتدفعهم بقوة وازعاج نحو الشر والفساد وتحرضهم على اتباع الباطل فتزيدهم ضلالاً إلى ضلالهم، وليس ذلك من باب الإكراه حتى تسقط المسؤولية عنهم، وإنما لأنهم هم من مكّنوا هذه الشياطين من أنفسهم وأطاعوهم وانقادوا لهم قال تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} (النحل/100) ، روى علي بن ابراهيم في تفسير هاتين الآيتين قال: (لما طغوا فيها وفي فتنتها ، وفي طاعتهم ، مدّ لهم في طغيانهم وضلالهم ، وأرسل عليهم شياطين الإنس والجن (تؤزهم أزا) أي تنخسهم نخسا وتحضّهم على طاعتهم وعبادتهم فقال الله: "فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا " أي في طغيانهم وفتنهم وكفرهم)[5].

والخطاب في الآية وإن كان موجهاً إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) الا انه في الحقيقة لنا من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة) والا فان هذه الحقيقة ماثلة امام القادة المعصومين (عليهم السلام) على نحو اليقين، وكشاهد على ذلك نذكر ما كتبه الامام الكاظم (عليه السلام) من سجنه إلى هارون العباسي وقال فيه: (إنه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء إلّا انقضى عنك معه يوم من الرخاء حتّى نفضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون)[6].

هذا ما نفهمه من الآية الكريمة على المستوى الحركي ونتيجته النهي عن التبرّم وضيق الصدر والتقاعس والانزواء عندما يطول الزمن بالظلم وتتمكن دولة الباطل، وان على العاملين الرساليين الاستمرار في أداء واجباتهم ولا تكن نظرتهم ضيقة محدودة تقتصر على مساحة صغيرة من الزمن بل لينظروا الى الأفق البعيد.

ويمكن أن نفهم منها على الصعيد المعنوي والأخلاقي بأن الإنسان يجب أن يكون متيقظاً ملتفتاً عارفاً بقيمة وقته لأنه ليس مغفولاً عنه، فإن الله سبحانه يحصي عليه أعماله ويعدّ عليه أنفاسه التي وصفها أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (نفسُ المرء خطاه إلى أجله)[7] فكلّما أمدّه الله سبحانه وتعالى بنفس فكأنما قربّه إلى أجله حتى إذا استنفدها وانتهت مدته جاءه الأجل وعُرِض للحساب أمام الله تعالى ، وكما يعدّ الله تعالى للإنسان أنفاسه فإنه يحُصي عليه أعماله فلا يغتر الإنسان العاصي الغافل عن الله تعالى بإمهال الله تعالى له.

روى علي بن إبراهيم في تفسير الآية قال: (نزلت في مانعي الخمس والزكاة والمعروف، يبعث الله عليهم سلطاناً أو شيطاناً، فينفق ما يجب عليه من الزكاة والخمس في غير طاعة الله[8] ويعذبه الله على ذلك) [9].

فاذا علم الانسان أن كل شيء محسوب حتى أنفاسه فانه سيكون متيقظاً حاضر الذهن مراقباً لنفسه فيما يقول ويفعل.

ولا تخلو الآية من إشارة الى قُصر عمر الانسان مهما طال لأنه عبارة عن عدد من الأنفاس مهما كثُرت فأنها تنقص بالعدّ، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (كُلُّ مَعْدُودٍ مُنْقَضٍ وكُلُّ مُتَوَقَّعٍ آتٍ)[10] لذا ورد في الحديث عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): (أكبر ما يكون الانسان يوم يولد، وأصغر ما يكون يوم يموت)[11].

فلابدّ أن يتدارك الانسان عمره ويراجع نفسه ويعيد ترتيب ملفاته كما يقال، وسيجد الله تعالى قريباً اليه رحيماً به ويساعده على تغيير كل حياته نحو الأفضل، روى الشيخ الصدوق بسنده عن الامام الصادق عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول الله (ص) قال: (من أحسن فيما بقي من عمره، لم يؤاخذ بما مضى من ذنبه، ومن أساء فيما بقي من عمره أخذ بالأول والآخر)[12]، وهي فرصة عظيمة يوفرّها الله تعالى لعباده رحمةً بهم.

ويشير أمير المؤمنين (عليه السلام) الى القيمة العظيمة لهذا الانقلاب والانعطاف في حياة الانسان في أي لحظة تحصل من حياته ويصفها بأنها (لا قيمة لها) أي لا يمكن تقييمها لعظمتها، قال (عليه السلام): (بقيةُ عمر المرء لا قيمة لها: يُدرِكُ بها ما قد فات ويُحيي بها ما مات)[13] .

والغريب أن نجد بعض الناس يقضون هذه البقية الثمينة من أعمارهم بعد تقاعدهم عن العمل في المقاهي وعلى أرصفة الطرق باللهو والعبث والأحاديث الفارغة بل المحرمة فيخسرون هذه الفرصة الثمينة وفي الوقت الضائع بل القاتل.

ونحن اليوم في آخر جمعة من شعبان وهو من أعظم المناسبات لإجراء هذه المراجعة لاستقبال شهر رمضان بقلوب نقية ونفوس مقبلة على الطاعة، روى أبو الصلت الهروي قال: (دخلت على الامام الرضا (عليه السلام) في آخر جمعة من شعبان، فقال لي: يا أبا الصلت، إن شعبان قد مضى أكثره،  وهذه آخر جمعة فيه، فتدارك فيما بقي تقصيرك فيما مضى منه، وعليك بالإقبال على ما يعنيك، وأكثر من الدعاء والاستغفار، وتلاوة القرآن، وتب إلى الله من ذنوبك، ليقبل شهر الله إليك وأنت مخلص لله عز وجل، ولا تدعنَّ أمانة في عنقك إلا أديتها، ولا في قلبك حقداً على مؤمن إلا نزعته، ولا ذنباً أنت مرتكبه إلا أقلعت عنه واتق الله وتوكّل عليه في سرّ أمرك وعلانيتك (ومن يتوكل على الله فهو حسبه ان الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدراً، وأكثر من أن تقول فيما بقي من هذا الشهر " اللهم ان لم تكن قد غفرت لنا في ما مضى من شعبان فاغفر لنا فيما بقي منه)[14]، ونحن ندعو بما علمنا الامام الرضا (عليه السلام).

 



[1] - كلمة سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) التي القاها على جمع من الأعضاء الفاعلين في ملتقى العلم والدين من عدة محافظات يوم الجمعة 26 شعبان 1442 الموافق 9/4/2021 وقد افتتح حديثه هذا بقراءة سورة الفاتحة الى روح الشهيد السيد محمد باقر الصدر في ذكرى استشهاده وكل شهداء الإسلام.

[2] الدعاء الثامن والاربعون من الصحيفة السجادية  في يوم الجمعة والأضحى .

[3] الكافي:  ج3 / ص 259 / ح 33 .

[4] - الميزان في تفسير القرآن: 14/108

[5] تفسير القمي ج2 / ص55 ، البرهان ج6 / ص216 / ح 8 .

[6] كشف الغمة ج ٣ /ص ٣.

[7] نهج البلاغة / قصار الكلمات / رقم 74 .

[8] شرحنا هذه الفكرة في قبس الآية {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} راجع : من نور القرآن ج2 ص 91

[9] تفسير القمي : ج2/ ص53 ، البرهان ج6/ ص216 / ح 9 .

[10] نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ١ - الصفحة ١٩٧

[11] من لا يحضره الفقيه ج1/ ص194

[12] أمالي الصدوق :111

[13] بحار الانوار: 6/138 / ح46

[14] - مفاتيح الجنان: 171 أعمال ما بقي من شعبان.