القبس /2 {وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا} سورة البقرة:143 - الوسطية و الاعتدال في الإسلام

| |عدد القراءات : 85
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا}

 موضوع القبس: الوسطية و الاعتدال في الإسلام

من المفاهيم التي اُختطفت وحُرِّفت عن معناها الحقيقي (الوسطية) والاعتدال حيث أصبحت تعني - وفق الثقافة المستوردة - التخلي عن التعاليم الدينية التي تراها القوى المستكبرة متشددة لأنها تضّر بمصالحها وتكشف خططها الخبيثة الماكرة وتوقظ الشعوب، حتى فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعتبرونها تشدّداً ومخالفة للحريات الشخصيّة بحسب زعمهم ونحو ذلك من الاصنام التي صنعوها وفرضوا على الناس عبادتها وتقديسها وقنّنوا لها القوانين وألبسوها ثياباً جذابة كالديموقراطية والحريات العامة وحقوق الانسان والدولة المدنية, ونحو ذلك, ليخدعوا بها الناس ويفرّغوا محتواهم العقائدي حتى يحوّلوهم إلى عبيد خانعين لهم منقادين لسياساتهم، مستفيدين من تطرف بعض الحركات والمجاميع المدعّية للإسلام والتي وصُفت بالإرهاب فحمّلوا هذه المفاهيم الأخلاقية والاجتماعية اوزار الصراعات السياسيّة.

وقد انخدع بهذا جملة من الإسلاميّين ورجال الدين, فاقتنعوا بأن الدولة المدنية لابد أن تكون بعيدة عن الدين، وعلى القيادة الدينية أن لا تتدخل في السياسة ولا تُمارس وظيفتها في ارشاد الأمة وتوجيهها نحو الصلاح.

والوسطيّة مفهوم قرآني, وليس من ابتداعاتهم حتّى نأخذ مفهومه وحدوده منهم.

قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا} (البقرة:143) وقال تعالى في نفس المعنى {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} (الحج:78), فاستحقاقها لمقام الشهادة على الناس تفرع على اجتبائها لتكون الأمة الوسط أي خير الأمم وأفضلها، حيث قال اهل اللغة: الوسط من كل شيء (افضله واعدله)([1]), وفي مجمع البيان (الوسط: العدل، وقيل الخير)([2]).

ومنه يظهر الوجه في جعلهم شهداء على الناس لأنهم الأفضل من بين الأمم كما ان الأنبياء اصبحوا شهداء لأنهم الأفضل، فتتفرع الشهادة عن الأفضلية, كما تفرعت عن الاجتباء في آية سورة الحج المتقدمة.

والوسطية يمكن ان يكون لها أكثر من منشأ:

1- الوسطية بمعنى الأفضلية والخيرية ويتفرع عليها الوسطية في المرتبة بين النبي (صلى الله عليه واله) وعامة الناس فالأمة الوسط لها مقام الشهادة على الناس كافة ويكون الرسول (صلى الله عليه واله) عليهم شهيدا.

2- الوسطية بمعنى التوسّط في الاعتقاد والسلوك بين الافراط والتفريط, فليسوا هم غارقين في الماديات وملذات الجسد كاليهود والمشركين, ولا في الرهبانية التي تقفز على الواقع ولا تعترف بحاجات الجسد كالنصارى.

والجماعة التي تلتزم بالمعنى الثاني هي التي تستحق المرتبة المذكورة في المعنى الأول فلا منافاة بين المعنيين([3]).

وعلى هذا فالأمة الوسط لا تشمل كل من ادعى الإسلام ظاهراً وإنما فئة خاصة من الأمة، وإنما اُضيف الوصف إلى كل الأمة لأنها ضمت هذه الفئة وأنها فيهم, كتفضيل بني إسرائيل على العالمين, بمعنى أن هذه الفضيلة فيهم ولا يلزم منه اتصاف كل واحد منهم بها.

روى العياشي في تفسيره عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: (قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة:143), فإن ظننت أن الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين، أفترى أن من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية، كلا لم يعن الله مثل هذا من خلقه، يعني الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم (عليه السلام) {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران:110) وهم الأمة الوسطى وخير أمة أخرجت للناس)([4]).

ويقف على رأس هذه الأمة الشاهدة أهل البيت (عليهم السلام) ففي عدة مصادر ومنها الكافي بسنده عن بريد العجلي قال: (سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} (البقرة:143), فقال: نحن الأُمة الوسطى ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه)([5]).

وفي حديث آخر: (الينا يرجع الغالي وبنا يرجع المقصِّر)([6]).

لأن الشهادة على شيءٍ تتطلب حضوراً عنده ومعاينة له فالشهادة على اعمال الناس لا تحصل الا للمعصومين (عليهم السلام).

ويمكن أن يتسع مفهوم الأُمة الوسط, لتشمل الدعاة إلى الله تبارك وتعالى, والعاملين الرساليين, الذين يجسدون تعاليم الإسلام في حياتهم.

اذا فهمنا الشهادة على الناس بمعنى الحجة وممارسة الرقابة والشهادة على إمكانية ان يكون الانسان مستقيماً ومتوازناً في حياته، وهم يؤدّون هذا الدور.

فيقال يوم القيامة لمن عصى وقصّر في فعل الطاعة واجتناب المعصية معتذراً بصعوبة ذلك على الانسان المملوء بالشهوات والغرائز، فيقال له ألم يكن فلان صالحاً وهو انسان مثلك فيكونون شهداء على الناس بهذا المعنى.

فالوسطية تعني فيما تعني التسليم لله تعالى والانقياد له والاستقامة على الدين والاعتدال في المسيرة والعدل في الحكم والإحسان الى الناس ونبذ كل انحراف وزيغ وضلال {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل:90).

وبهذا نفهم ورود الآية في سياق الحديث عن تحويل قبلة المسلمين في المدينة من بيت المقدس إلى مكة المكرمة، ففي الآية التي سبقتها {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة:142), فكأن الأمر بالصلاة إلى بيت المقدس أولاً كان يستهدف سحق انانية العرب وعصبيتهم الجاهلية, وتحقيق معنى الطاعة والعبادة الخالصة لله تعالى وتحقيق معنى الأمة الوسط، فيما يصف الأُمم السابقة {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} (البقرة:145).

ان الأمة الوسط هي الأمة المتوازنة، فهم أهل الرأي الوسط الذي يجمع حسنات الآراء الأُخرى ويتجنب سلبياتها، وهم أمة وسط لأنهم عادلون منصفون يعطون لكل ذي حق حقه، سواء على مستوى التعامل مع أنفسهم أو الآخرين أو في حقوق الله تعالى أو حقوق الناس، ففي الدر المنثور بسنده عن جمع من الصحابة عن النبي (صلى الله عليه واله) أن {وسطاً} تعني (عدلاً)([7]).

وهم أهل الاعتدال والتوازن في قوانينهم فلا يحيفون على الفرد لحساب المجتمع - كالنظام الاشتراكي- ولا العكس كالرأسمالي, وهم متوازنون في علاقتهم فلا يذوبون في الآخرين ولا ينغلقون على أنفسهم وهكذا.

وشاء الله تعالى أن يجعلها وسطاً في حسابات التاريخ والجغرافية أيضاً.

فعلى الأول: هي وسط بين عصور الجاهلية والتخلف وعصور الرشد والنضج على كل الأصعدة العلمية والفكرية والأخلاقية والاجتماعية.

وعلى الثاني: تحل هذه الأمة وسط الأرض ومنها تمرّ خيرات الأرض وعطاء أهلها المادي والمعنوي من الشرق إلى الغرب, ومن الشمال إلى الجنوب وبالعكس.

ومن هنا يتبيّن ان لا وسطية الا في الإسلام الأصيل, وليس في الثقافات المستوردة من المستكبرين, فلا وسطية وهم يتبعون شهواتهم واهواءهم وما تمليه عليهم شياطينهم, قال تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} (النساء:27), والميل خلاف الوسطية, فهم أبعد ما يكونون عنها.

ولكنهم يُريدون أن يبتزونا بهذا التحريف للمصطلحات لنتخلى عن هذه الجوهرة العظيمة _ أعني الإسلام_ ، بل الآية تؤكِّد ان المسلمين هُم الأُمة الوسط - أي النموذج الأمثل والأفضل- التي يجب ان ترجع إليها الأمم الأخرى وتتبعها, وليس العكس.

فليثقوا بأنفسهم وبما عندهم، على ان لا يتكئوا على امجاد الماضي والتفاخر بمآثر الصالحين من دون عمل صالح يستحقون به هذا المقام.

دلالة الآية على وجود الامام المهدي (عج) وحياته:

ومن الآيات القرآنية التي يُستدل بها على وجود الامام المهدي الموعود (#) واستمرار حياته قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة:143), وتوضيح الاستدلال يكون من خلال عدّة نقاط:

1- ان الآية الكريمة جعلت للأمة الوسط مقام الشهادة على الناس, أي يشهدون على أعمالهم عند الله تعالى.

2- ان الناس جميعاً من الأولين والآخرين مشمولون بهذه الشهادة, ولا يستثنى أحد من الشهادة على اعماله, لعدم الفرق بين واحد وآخر وشمول الجميع بقانون الثواب والعقاب.

فلابد أن يكون واحد من الأمة الوسط موجوداً في كل زمان وفي كل جيل, ليؤدي الشهادة على الناس، ولا يخلو زمان من شاهد على الاعمال, لأنه يعني وجود أمة من الناس لا يُشهد على أعمالهم.

3- الشهادة تتطلب حضوراً ومعاينة, ليشهد عن حس ووجدان وليس عن سماع أو إخبار من الآخرين أو تخمين أو ظن, وهو معنى الشهادة، ولا تتيّسر القدرة على معاينة كل اعمال الناس والاطلاع عليها الا للمعصومين (عليهم السلام), وهو مفاد قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (التوبة:105), فالأمة الوسط التي تشهد على اعمال الناس يوم القيامة هم الأئمة المعصومين (عليهم السلام).

وقد دلّت الروايات على ذلك, كالحديث الذي رواه الشيخ الكليني في الكافي بسنده عن بريد العجلي قال: (سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} (البقرة:143), فقال: نحن الأُمة الوسطى ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه)([8]).

فنتيجة هذه المقدمات وجود المعصوم (عليه السلام) في كل زمان, ليشهد على أعمال الناس, وليس هو في زماننا الا الامام المهدي (عجل الله فرجه) لعدم وجود غيره.

 



([1]) كتاب العين - الخليل الفراهيدي:7/279.

([2]) تفسير مجمع البيان - الشيخ الطبرسي: 1/416.

([3]) ذكر هذا الاشكال السيد الطباطبائي (قده) قال: (إن كون الأمة وسطاً إنما يصحّح كونها مرجعاً يرجع إليه الطرفان، وميزاناً يوزن به الجانبان لا كونها شاهدة تشهد على الطرفين فلا تناسب بين الوسطية بذاك المعنى والشهادة وهو ظاهر، إذ لا يترتب شهادة الرسول (صلى الله عليه واله) على الأمة على جعل الأمة وسطاً، كما يترتب الغاية على المغيى والغرض على ذيه) الميزان- السيد الطبطبائي:1/315.

([4]) تفسير العياشي: 1/ 63 ح114.

([5]) الكافي- الكليني:2/146.

([6]) تفسير نور الثقلين- الشيخ الحويزي:1/134.

([7]) الدر المنثور- جلال الدين السيوطي: 1/144- تفسير القرطبي- القرطبي: 2/153.

([8]) الكافي- الكليني:1/ 146/ح2.