القبس /21 (رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ) سورة آل عمران:191- رفض العبثية في الحياة

| |عدد القراءات : 70
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

(رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ)

موضوع القبس: رفض العبثية في الحياة([1])

درس بليغ من النبي (صلى الله عليه واله):  

نحن في جوار رسول الله (صلى الله عليه واله), وفي ضيافته، ونحب أن نقف عند محطة من حياته الشريفة (صلى الله عليه واله), ففي الرواية إنه (صلى الله عليه واله) كان إذا استيقظ من نومه([2]) في جوف الليل قلّب طرفه في السماء متأملاً, ويقرأ الآيات الكريمة العشر في أواخر سورة آل عمران, وهو يبكي {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ،رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ، رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ، رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } (سورة آل عمران : 190-194)

خُلقنا للمعرفة:


 {رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَذا بَاطِلاً سُبحَانَكَ} أيها الأحبة:

نحن لم نُخلق في هذه الدنيا عبثاً, وبلا غرض، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ، لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} (الأنبياء: 16 -17), فلا بد أن نلتفت إلى هذا الغرض الذي خلقنا من أجله, ليكون ماثلاً امامنا دوماً, ولنكرّس حياتنا من أجله، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56).

وورد في تفسير الآية, عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (خرج الحسين بن علي (عليهما السلام) على أصحابه فقال: أيها الناس إن الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه)([3]), ومما ورد في دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة  (إِلهِي عَلِمْتُ بِاخْتِلافِ الاثارِ, وَتَنَقُّلاتِ الأطْوارِ, أَنَّ مُرادَكَ مِنِّي أَنْ تَتَعَرَّفَ إِلَيَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ لا أَجْهَلَكَ فِي شَيْءٍ)([4]).

فالغرض من وجودنا هو التعرف إلى الله تبارك وتعالى, وعبادته بحقيقة العبادة، بأن يكون الله تبارك وتعالى كقطب الرحى الذي ندور حوله, وإلى هذا المعنى يُشير الطواف بالكعبة، وأن يكون تبارك وتعالى محور حياتنا في كل حركاتنا, وكل سكناتنا, ومشاعرنا, وعواطفنا, ومواقفنا التي نتخذها في حياتنا.

المعرفة غير التصومع:

وهذا لا يعني أن نترهب, ونعتزل الدنيا في الصوامع والكهوف، بل بالعكس, فإن هذا الهدف يدفعك إلى أن تخوض الحياة بكل تفاصيلها, وتمارسها بشكل طبيعي؛ لتؤدي رسالتك, ولكن عليك أن توظف كل ممارساتك لهذا الهدف، لقد كان الأنبياء والأئمة (عليهم السلام), عباداً مخلصين لله تبارك وتعالى, ومعصومين عن الالتفات إلى غيره, ومع ذلك فقد كانوا يمارسون حياتهم الطبيعية كأي إنسان، فلا منافاة.

فالعمل, والكسب يمكن أن يجعله الإنسان لاكتناز الأموال, وزيادة أرصدته في البنوك للمباهاة, والتفاخر, ولايخرج حقوقه الشرعية, فيكون وبالاً عليه، ويمكن أن يجعله للتعفف مما في أيدي الناس, وللإنفاق في وجوه البر والإحسان, ومساعدة المحتاجين, والحج, والزيارة, وتزويج المؤمنين, ودعم المؤسسات الخيرية, فينال رضا الله تبارك وتعالى, ويحقق الهدف.

والأكل مثلاً يمكن أن يجعله لحفظ البدن الذي هو واجب, وللتقوي على العبادة, ونحوها من الأهداف الصحيحة.

والزواج الذي فيه إشباع للشهوة, والغريزة يمكن وضعه في هذا السياق, بأن يجعل غرضه إقامة سنة الله تبارك وتعالى, وصيانة النفس, والزوجة من الحرام, وإدخال السرور على رسول الله (صلى الله عليه واله), وأمير المؤمنين (عليه السلام), وتكثير نسمات الموحّدين, وبناء أسرة صالحة, وإدخال السرور على امرأة مؤمنة, ونحوها من النيات المباركة.

وهذا إنما يتحقق حينما يكون الإنسان دائم الذكر لربه, مستحضراً وجوده المقدس, والإنسان غير المعصوم لا يكون كذلك على الدوام, ولكن ليجعله هدفه الذي يسعى لتحقيقه، ولو أدركته غفلة, أو انساق وراء شهوة, فليعد فور تذكره إلى ربّه, قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (الأعراف:201).

أوثق العُرى:

نحن أتباع أهل البيت (عليهم السلام), متمسكون بأوثق العُرى الموصلة لمعرفة الله تبارك وتعالى الدالة على عبادته, وأعظم الوسائل لنيل رضاه، والضامن الأكيد لسلامة المسير إلى الله تبارك وتعالى, والصائنة من الانحراف عن الصراط المستقيم، ففي تتمة رواية علل الشرائع المتقدمة (فقال له رجل: يا ابن رسول الله بأبي أنت وأمي فما معرفة الله؟ قال: معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته)([5]).

لأن من لا يعرف إمام زمانه, ولا يأخذ عنه فإنه لا يعرف الله حق معرفته، ومن يعتقد أن ربه يتركه بلا إمام يهديه فقد ضل سواء السبيل، وقد ورد في الدعاء, كما في رواية الكافي, عن أحمد بن هلال, عن زرارة بن أعين قال: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): ادع الله بهذا الدعاء: > اللهمَّ عرَّفني نفسَك، فإنَّك إن لم تُعرِّفْني نفسَك لم أعرف نبيَّك، اللهمَّ عرِّفْني رسولَك، فإنَّك إنْ لم تُعرِّفْني رسولَك لم أعرفْ حجَّتَك، اللهمَّ عرِّفْني حجَّتَك، فإنَّك إنْ لم تُعرِّفْني حجَّتَك ضللتُ عن ديني< قال أحمد بن الهلال: سمعت هذا الحديث منذ ست وخمسين سنة)([6]).

وابتغواْ إلَيه الْوسيلة:


قد أمر الله تبارك وتعالى باتخاذ هذه الوسيلة لنيل رضاه, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} (المائدة:35), وهي ولاية أهل البيت (عليهم السلام), ومودّتهم, كما دلت عليه الروايات, ويمكن استفادة هذا المعنى من القرآن الكريم بالجمع بين الآيتين الكريمتين {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (الفرقان:57) وقوله تعالى: {قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى:23), فالسبيل هي مودة أهل البيت (عليهم السلام), وقد أمرت آية سورة المائدة باتخاذه وسيلة.

كل مخلوق مُيسر لما خلق له:

ومن لطف الله تعالى بعباده, وحكمته في تدبير شؤونهم, وتغطية كل مساحات الحياة أنه نوّع الطاعات, والقربات الموصلة إليه, وأعطى لعباده إمكانيات, ومؤهلات مختلفة، فبعض أُعطي العلم النافع فهو يتقرب إلى الله بإرشاد الناس, وتعليمهم معالم دينهم, وهدايتهم، وآخر أُعطي المال ليتقرب إلى الله بإنفاقه في وجوه البر, والإحسان، وآخر أُعطي أخلاقاً كريمة يعاشر بها الناس, فيحبّه الله تبارك وتعالى.

فهذا التنوع في القناعات, والاختلاف في أداء الأعمال الموصلة إلى الله تعالى رحمة بالعباد, كما في الحديث النبوي الشريف: (اختلاف أمتي رحمة)([7]).

وهنا شقشقة أُريد أن أبوح بها؛ لأن مجتمعنا مبتلٍ بها في جميع البلدان, وليست خاصة ببلد - فقد بلغني أنها موجودة هنا في المملكة, وإيران, والبحرين, ولبنان, كما هي موجودة عندنا في العراق- وهي عدم التعاطي مع هذا التنوع بايجابية، بل بحساسية مفرطة, وسوء ظن تصل إلى حد التقاطع, وتبادل الاتهامات, والتسقيط, وربما التكفير في بعض الحالات والعياذ بالله، وهذه حالة مرفوضة, ولا مبرر لها من سيرة أهل البيت (عليهم السلام), وتعاليمهم وتُوقع أصحابها في الكبائر, مع ما فيها من حرمان للأمة من طاقات فاعلة, وحركات مؤثرة.

لقد شبّه رسول الله (صلى الله عليه واله) أمته بالسفينة التي تتحرك بحركة واحدة نحو ساحل الأمان, ولو شاء أحد أن ينفرد برأيه, ويخرج من حركة الأمة, ويقلع خشبته من السفينة؛ فإن الأمة تغرق, فلا بد من حركة تكاملية لعناصر المجتمع, يتمم بعضهم دور بعض, ويُشكّل كل واحد المساحة التي يستطيع التحرك فيها، وليست حركة تقاطعية عِدائية.

أجارنا الله تعالى وإياكم من مضلات الفتن...



([1]) كلمة ألقاها سماحة الشيخ (دام ظله) في المدينة المنورة, في موسم الحج: 1431هـ , وكان ذلك يوم الثلاثاء: 24/ذو القعدة هـ- الموافق: 2/11/2010م.

([2]) سنن أبي داود- ابن الأشعث السجستاني: 1/22/ح58.- الجامع الصحيح للسنن والمسانيد- صهيب عبد الجبار: 18/٢٢٨.

([3]) علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 1/9/ح1.

([4]) بحار الأنوار- المجلسي: 95/225.- مفاتيح الجنان- عباس القمي: 340.

([5]) علل الشرائع- الشيخ الصدوق: 1/9/ح1.

([6]) الكافي- الشيخ الكليني: 1/342.- مصباح المتهجد- الشيخ الطوسي: 411.- كتاب الغيبة- النعماني: 1/168.

([7]) معاني الأخبار- الشيخ الصدوق: 157.