القبس /29 (لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ) سورة النساء:114 - مسؤولية الكلمة وأهمية تأثيرها

| |عدد القراءات : 72
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

(لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ)

موضوع القبس: مسؤولية الكلمة وأهمية تأثيرها

(النجوى) هو الحديث المتخفي، وتبيّن الاية الكريمة أن كثيراً من الكلام الذي يتهامس به الناس ويتداولونه في مجالسهم لاخير فيه لذا فانهم يتحدثون به خفية وتدعوهم الاية الى ان تكون احاديثهم مثمرة ومنتجه لذا استثنت الاية وقالت (الا من امر بصدقة او معروف او اصلاح بين الناسوبهذا المضمون وردت الاية الأخيرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (المجادلة:9) فالمشكلة ليست في اسرار الحديث واخفائه وانما في مضمونه ومؤداه والغرض منه، اذ من المعلوم ان بعض احاديث الخير والمعروف والإصلاح تجري سراً وفي الكتمان لمصلحة ما، كالاصلاح بين الزوجين، وكاحاديث الوعي الإسلامي في زمن الطواغيت ونحو ذلك.

 فعلينا ان ندرك أهمية (الكلمة) فانها من أوسع القنوات الموصلة إلى رضا الله تبارك وتعالى فمن خلالها تكون النصيحة وبها تتم الموعظة وتجري الهداية ويتحقق الإصلاح وينتشر العلم والمعرفة وتُبنى الحضارة وتتقدم الإنسانية وتتكامل التربية فهي وعاء لهذه الطاعات العظيمة وغيرها.

ورد في الرواية انه سئل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن الكلام والسكوت أيهما أفضل؟

فقال (عليه السلام): لكل واحد منهما آفات، فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت، قيل: كيف ذلك يا ابن رسول الله (صلى الله عليه واله) قال: لان الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما بعثهم بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت، ولا توقيت النار بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام، ما كنت لاعدل القمر بالشمس، إنك تصف فضل السكوت بالكلام ولست تصف فضل الكلام بالسكوت)([1]) ففهم الإمام من حاله انه واقع في شبهة أن السكوت واعتزال الناس ومقاطعتهم أفضل لما بلغه من الأحاديث الشريفة التي تحثّ على السكوت وقلّة الكلام فبيّن له الإمام (عليه السلام) أن الكلام إذا كان خالياً من السوء والفحشاء فهو أفضل بالتأكيد وقال له: وهل بُعثَ الأنبياء إلا بالكلام، قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أمر بِصَدَقَةٍ أو مَعْرُوفٍ أو إصلاح بَيْنَ النَّاسِ} (النساء:114) حتى عُدّت (الكلمة الطيبة صدقة)([2]) في بعض الأحاديث.

وفي المقابل فإن الكلمة السيئة لها ضرر بليغ ومدمّر وإن كثيراً من الكبائر التي وعد الله بها النار مرتبطة بالكلمة كالغيبة والنميمة والبهتان والكذب والافتراء والسب والشتم والإيذاء وإشاعة الفاحشة وغيرها لذا ورد في الحديث (وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم)([3]) وألّف العلماء والمربّون والأخلاقيون كتباً في (آفات اللسان).

لذلك خصص المشرع الأقدس حصة كبيرة من تعاليمه لتهذيب هذه الكلمة وتوجيهها لتكون نافعة بنّـاءة فرسم ملامح الكلمة الطيبة {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بإذن رَبِّهَا} (إبراهيم:24-25) وحذر من ضرر الكلمة الخبيثة {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} (إبراهيم: 26) وحذر من مغبّة الكلمة الضارة.

فمثلاً اعتبر من يقول ولو شطر كلمة في المشرق فقُتل بها شخص في المغرب اعتبره قاتلاً، كما يفعل اليوم صناع ثقافة التكفير والقتل والظلم والعدوان فيطيعهم وينخدع بضلالاتهم شخص في المشرق أو المغرب ويقوم بعملية إجرامية يكون وزرها الأول على صانع هذه الثقافة.

ويوجد بهذا الصدد حديث شريف مهم ويشكّل ضربة قاضية لهؤلاء الذين يروّجون صناعة القتل والرعب لمجرد الاختلاف في الرأي أو تضرّر المصالح فقد روى الإمام الصادق (عليه السلام) عن جده رسول الله (صلى الله عليه واله) (أنه قال "يعذّب اللهُ اللسان بعذابٍ لا يعذّبُ به شيئاً من الجوارح فيقول: أي ربِّ عذّبتني بعذابٍ لم تعذّب به شيئاً، فيقال له: خرجت عنك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها فسفك بها الدم الحرام وعزّتي لأعَذّبنَّك بعذابٍ لا أعذّبُ به شيئاً من جوارحك)([4]).

فإذا استشعرنا هذه الأهمية فإن هذا الشعور سينظّم برامج التعامل مع الكلمة وسيراقبها ويتحكم بها، فإن الكلمة في وثاقك وتحت سيطرتك ما دمت لم تطلقْها فإذا أطلقتها فستكون أنت في وثاقها وتتحمل تبعتها ومسؤوليتها، وكم شخص ذهب ضحية الكلمة سواء في الدنيا أو في الآخرة كقاضي القضاة للمعتصم العباسي الذي وشى بالإمام الجواد (عليه السلام) وهو يعلم أن ذلك سيخلّده في النار كما قال هو نفسه.

ونحن اليوم نشهد ثورة معلوماتية هائلة وتكنولوجيا اتصالات عظيمة لم تحلم بها البشرية من قبل، تفتح لنا الأبواب الواسعة لإيصال خطاب السلام والسعادة للبشرية، ولم يعد الطغاة قادرين على حبس الكلمة ومنع وصولها إلى الناس كما كانوا يفعلون عبر التأريخ ولسانهم واحد {مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى} (غافر: 29)، واضطر الإسلام لحمل السيف في وجوه هؤلاء الطغاة ليحرّر شعوبهم من عبادتهم ويترك لهم الخيار في اعتناق العقيدة التي يقتنعون بها تحت شعار {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة:256)و{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (الأنفال:42) و{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف:29) و{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان:3) وشجّع الحوار وثقافة الرأي الآخر {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} (البقرة: 111) {وَلا تُجَادِلُوا أهل الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت:46) {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125).

كما أننا نعيش بفضل الله تبارك وتعالى فرصة عظيمة لإيصال الكلمة الطيبة إلى مسامع العالم التوّاق للسلام والسعادة والخير، بعد أن فشلت أمامه كل الأيديولوجيات وبعد أن فشل غير اتباع أهل البيت (عليهم السلام) في عرض الإسلام بشكله الصحيح مما اوجب نفوراً وارتداداً لدى معتنقيه، فالعالم كله ينتظر منكم يا اتباع أهل البيت (عليهم السلام) أن تعكسوا لهم الصورة النقية الناصعة للإسلام المملوءة بالرحمة وحب الخير والسلام والطمأنينة لكل البشر.

وقد مرّت علينا عقود من سنيّ الكبت وسلب الحرّيات والحجر على الكلام، وقد أزاله الله تعالى ليبلوَنا أنشكر ونؤدي حق هذه النعمة، أم نكفر والعياذ بالله ونسيء استخدام هذه الحرية.

فهذه عوامل ثلاثة:

1-     وسائل الاتصالات المتطورة.

2-     فشل الإيديولوجيات في تحقيق السعادة للبشرية وتوفير الأمن والسلام والطمأنينة لها.

3-     توفر الحرية الكاملة لممارسة الدعوة إلى الله تبارك وتعالى والحق والهداية والصلاح.

تضاعف علينا مسؤولية استثمار (الكلمة) في أداء الرسالة التي ائتمنا الله تبارك وتعالى وقبلنا حملها بعد أن اعتذرت السماوات والأرض وسائر المخلوقات عن حملها {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} {الأحزاب: 72}



([1] ) بحار الانوار : ج ٦٨ / ص ٢٧٤/ ح3

([2]) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب احكام المساجد ، باب 27، ح3.

([3]) الكافي: ج2 ص115.

([4]) وسائل الشيعة، مج8، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب4، ح4.