القبس /33 (لَوۡلَا يَنۡهَىٰهُمُ ٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ ..) سورة المائدة:63 - وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قرآنياً/3

| |عدد القراءات : 72
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

(لَوۡلَا يَنۡهَىٰهُمُ ٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ عَن قَوۡلِهِمُ ٱلۡإِثۡمَ وَأَكۡلِهِمُ ٱلسُّحۡتَۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ)

وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قرآنياً/3

في الآية الكريمة توبيخ وتقريع للربانيين والأحبار لتركهم فريضة النهي عن المنكر، وكذا لتركهم الأمر بالمعروف المستفاد بالاقتران بين الفريضتين([1]) وتصف تخليهم عن وظيفتهم ببئس الصنيع.

والربانيون نسبة إلى الرب سبحانه وتعالى، ويمكن أن يراد بهم ما نسميهم في عرفنا (المتدينين) وهم الذين يغلب عليهم الالتزام بالشريعة فنسبوا إلى صاحب الشريعة سواء كانوا من العلماء أو غيرهم، أو يراد بهم واجهة المؤسسة الدينية والقائمون بالوظائف الدينية كأئمة المساجد وخطباء المنابر والجمعة وسدنة العتبات المقدسة، أما الأحبار فهم العلماء وحملة العلم سواء كانوا صالحين أو فاسقين.

وذكر قول الإثم وأكل السحت من دون المنكرات لا يخصص الآية بها لعدم الخصوصية ولدلالة آيات أخرى على العموم كقوله تعالى: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} (المائدة:79)، وإنما ذكر قول الإثم وأكل السحت خاصة لأنهما المذكورات في الآية السابقة {وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (المائدة:62)، ولأنهما أصل المعاصي المتفشية في المجتمع. فقول الإثم يتضمن الغيبة والنميمة والكذب والافتراء والبهتان وإيذاء الآخرين والتضليل وترويج الشبهات وتحريف الكلم عن مواضعه والتغرير بالآخرين والتدليس عليهم وغيرها كثير.

أما أكل السحت فيشمل موبقات كثيرة كالفوائد الربوية والرشوة في القضاء وسرقة أموال الشعب وأخذ الأثمان على إلقاء الأحكام بغير ما أنزل الله تعالى، وشرعنة عمل الظالمين، والتطفيف في الميزان وبيع المحرمات وأكل المال بالباطل والظلم ونحوها كثير.

فالآية تدعو إلى العمل بهذه الفريضة وتذم تاركها بأشد الذم، وهي عامة في دلالتها لكل المنتسبين إلى الشريعة، ولو قلنا بأن خطابها خاص لشريحة العلماء والمتدينين، فإن ذلك لا ينافي عموم الوجوب، وإنما خصَّت هؤلاء لأن الوجوب عليهم أأكد والامتثال متوقع منهم أكثر من غيرهم لمعرفتهم بعظمة هذه الفريضة وشدة وجوبها وسوء عاقبة تركها، كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام): (لنحملن ذنوب سفهائكم على علمائكم)([2]).

ولا يرد هنا إشكال اجتماع وجوبين على موضوع واحد باعتبار الوجوب العام للفريضة الشامل للأحبار والربانيين، وهذا الوجوب الخاص المستفاد من الآية، لأن هذا الخطاب فيه مزيد تأكيد على هؤلاء الخاصة وتذكير بمسؤوليتهم المضاعفة عن الفريضة، مضافاً إلى نقاشنا في أصل الكبرى فإننا لا نمنع منها كمــا تقدم([3]).

قال العلامة الطبرسي: ((فذمَّ هؤلاء - أي الربانيين والأحبار- بمثل اللفظة التي ذمَّ بها أولئك([4])، وفي هذه الآية دلالة على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه وفيه وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر))([5]).

قال في ظلال القرآن: ((إن سمة المجتمع الخيّر الفاضل الحي القوي المتماسك أن يسود فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. أن يوجد فيه من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ وأن يوجد فيه من يستمع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وأن يكون عرف المجتمع من القوة بحيث لا يجرؤ المنحرفون فيه على التنكر لهذا الأمر والنهي، ولا على إيذاء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر.

هكذا وصف الله الأمة فقال: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}(آل عمران: 110),  ووصف بني إسرائيل فقال: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ}(الأحزاب: 79). فكان ذلك فيصلاً بين المجتمعين وبين الجماعتين.

أما هنا فينحى باللائمة على الربانيين والأحبار، الساكتين على المسارعة في الإثم والعدوان وأكل السحت؛ الذين لا يقومون بحق ما استحفظوا عليه من كتاب الله))([6]).

أقول: ينبغي الالتفات إلى أن مطلوبية هذه الوظيفة من الربانيين وعلماء الدين لا تعني أن يتركوا كل أعمالهم ومسؤولياتهم وواجباتهم ويتفرغوا لأمر هذا ونهي ذاك ويترصدوا كل منكر لينهوا عنه ويراقبون أفعال الناس ويتجسسون عليهم ليأمروهم وينهوهم، فهذه سيرة غير عقلائية ولا متشرعية، وإنما عليهم أن يكونوا متصفين بهذه الصفة ويكون ديدنهم ذلك ويمتلكون حاسة الغضب لله تعالى إذا عُصي، ولا يترددون في الامتثال عند تنجّز التكليف.

 ((ثم إن قوله سبحانه: {يَفعَلُونَ} إما مجاز؛ لأن الترك ليس فعلاً –على قول المشهور-، وإما حقيقة، ويراد بالفعل الذي أوجب تركهم الأمر والنهي، وذلك عبارة عن تكالبهم على الدنيا وأخذهم الرشوة على سكوتهم والأول أقرب سياقاً والثاني أقرب والله العالم))([7]).

أقول: ليس في التعبير مجاز، وإنما هو على نحو الحقيقة؛ لأن الترك يصدق عليه فعل إذا اقترن بالقصد، كالصوم الذي هو كفٌّ عن المفطرات مقترناً بنية القربة إلى الله تعالى. مضافاً إلى أن التقريب الذي ذكره للاستعمال على نحو الحقيقة مقبول، ومراد من الشارع المقدس، وهو الالتفات إلى علل الأفعال قبل نفس الأعمال والعلاج لا بد أن يتناول العلل، وقد نبّهنا على ذلك في خطابات متعددة.

 



([1]) بحث مفصلاً في البحوث التمهيدية في الجزء الأول من كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

([2]) وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 7، ح3.

([3])) انظر: أسمى الفرائض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، القسم الأول: ص92.

([4]) يقصد قوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} في هذه الآية وقوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الآية السابقة.

([5]) مجمع البيان: مج 2: 336.

([6]) في ظلال القرآن: مج 2/790.

([7]) الفقه: 48/164.