القبس /36 (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ) سورة المائدة:105 - دفع إشكال التعارض بين ما دل على وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مع آية (عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ)

| |عدد القراءات : 93
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ)

موضوع القبس: دفع إشكال التعارض بين ما دل على وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مع آية (عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ)

ويحسن الآن التعرض إلى ما قيل من الإشكال بوجود التنافي ظاهراً بين هذه الآيات التي توجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُـرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إلى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (المائدة:105).

وتقريب الإشكال أن آية {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } تضع عن المؤمنين وظيفة الدعوة إلى الله تبارك وتعالى و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكتفي منهم بالالتفات إلى إصلاح أنفسهم، ويكون معنى {لا يَضُـرُّكُم} أي لا تبعة عليكم ولا مسؤولية شرعية؛ لسقوط التكليف عنكم.

ويظهر أن البعض اتخذ من هذه الآية ذريعة لترك هذه الفريضة منذ صدر الإسلام، ففي الدر المنثور بأسناد عديدة ((صعد أبو بكر منبر رسول الله (صلى الله عليه واله) فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنكم لتتلون آية من كتاب الله وتعدّونها رخصة، والله ما أنزل الله في كتابه أشدّ منها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَـلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} والله لتأمــرنّ بالمعـــروف ولتنهنَّ عـــن المنكــر أو ليعمنّكم الله منه بعقاب))([1]).

أقول: آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تأبى أن تكون هذه الآية حاكمة عليها على نحو النسخ والإلغاء كما يصوّر الإشكال، خصوصاً بعد جعل هذه الوظيفة سمة الأمة الإسلامية التي تتميز بها عن كل الأمم في قوله تعالى: {كنتم خير أمة}، وعليه فلا يحتمل سقوط فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بآية {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}، مضافاً إلى أن فهم آية {عليكم أنفسكم} على أنه ترك وظيفتي الدعوة والأمر والنهي قابل للمناقشة فيزول الإشكال من أصله.

وهذا ما سيتضح من خلال الوجوه التي نذكرها لمعالجة الإشكال، ومنها:-

1-          إن آية {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} تأتي بعد امتثال فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالمعنى الذي تقدم([2]) في تفسير قوله تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} (التحريم:6) وفي هذا المعنى رواية أوردها في الدر المنثور بطرق عديدة عن أبي أمية الشعباني قال: ((أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قال: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألتُ عنها رسول الله (صلى الله عليه واله) قال: (بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحّاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً، يعملون مثل عملكم)))([3]).     وأخرج عن حذيفة وغيره في هذه الآية قال: ((إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر)).

2-          معنى {عليكم أنفسكم} أي أنتم مسؤولون عن صلاح أنفسكم والتزامها بأوامر الله تعالى ونواهيه ومنها فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير، وحينئذٍ لا تتحملون مسؤولية من ضل ممن هم مرتبطون بكم كآبائكم وأزواجكم ونحوهم، فتكون بمعنى قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الإسراء:15) وقوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ} (البقرة: 134)، خصوصاً وأن المخاطبين يومئذٍ كان آباؤهم وبعض أقربائهم على الشرك، ويؤيد هذا المعنى ورود لفظ {إذا اهتديتم} هنا وفي الآية السابقة عليها {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170).

ويمكن أن يستفاد هذا المعنى مما رواه في الدر المنثور بسنده عن ابن عباس في تفسير الآية قال: ((إذا ما أطاعني العبد فيما أمرته من الحلال والحرام، فلا يضرُّه من ضلَّ بعده إذا عمل بما أمرته به))([4])، وعنه أيضاً قال إن مراد الآية: ((أطيعوا أمري واحفظوا وصيتي)) واختاره العلامة الطبرسي في المجمع([5]).

3-          إن آية {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} خاصة بدعوة الكفار إلى الإسلام فترخّص في تركها وترك الجهاد، وربما يستدل له باستعمال لفظ الهداية والضلال في الآية مما يناسب كون الخطاب بلحاظ دعوة الكفار، روى في الدر المنثور بسنده عن أبي عامر الأشعري ((إنه كان فيهم شيء فاحتبس على رسول الله (صلى الله عليه واله) ثم أتاه فقال: ما حبسك؟ قال: يا رسول الله قرأت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال: فقال له النبي (صلى الله عليه واله): أين ذهبتم؟ إنما هي: لا يضركم من ضلّ من الكفار إذا اهتديتم)([6]).

أقول: هذا المعنى لا يمكن قبوله في فريضة الجهاد والدعوة إلى الله تبارك وتعالى كما لم يُقبّل في فريضة الأمر والنهي؛ لأن الدعوة إلى الخير من مقومات هوية هذه الأمة وعناصرها الأساسية كما تقدم في تقريب قوله تعالى: {ولتكن منكم}.

4-          أن الآية خاصة بظرف التقية وحصول الضرر من ممارســة الفريضــــة

فتكون دليلاً على اشتراط عدم الضرر من الامتثال.

في الدر المنثور بطرقه عن ابن مسعود في قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} قال: ((مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر ما لم يكن من دون ذلك السوط والسيف، فإذا كان ذلك كذلك فعليكم أنفسكم)([7]) وروى مثله عن ابن عباس.

أقول: لا يدل ظاهر الآية ولا سياقها على الاختصاص بظرف التقية.

5-          أن يقال: إن هذه الآية تدل على الرخصة، فتُحمل آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الظاهرة في الوجوب على الاستحباب كما هو مقتضى الصناعة.

وهو وجه يجري على القواعد المعمول بها لو كنّا نحن والآيات الشريفة، وعلى فرض ظهور الآية في هذه الرخصة، وروى في الدر المنثور عن الحسن أنه تلا هذه الآية فقال: ((يا لها من سعة ما أوسعها، ويا لها من ثقة ما أوثقها))([8]).

أقول: بغضّ النظر عن صحة الوجه فنّياً، إلا أن فهم الرخصة بعيد لبعد الأثر المترتب عليها وهو قوله تعالى: {لا يضرّكم} إذ من المعلوم تضرر المجتمع بوجود الفساد والانحراف فيه، وأن عدم الردع عن المنكر يؤدي إلى انتشاره وفتكه في كيان المجتمع حتى يقضي عليه، قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} (الأنفال: 25).

مضافاً إلى أن نتيجة هذا الوجه مما لا يمكن قبولها لإجماع المسلمين على وجوب الفريضة في الجملة.

6-          إن آية {عليكم أنفسكم} تدعو المؤمنين إلى الثبات على الحق والاستقامة، وأن يلزموا ما هم عليه، ولا يتأثروا بما عليه أهل الضلال من النعم المادية والترف فيدعوهم ذلك إلى ترك ما هم عليه، فتقول لهم الآية: إن ما عندهم هو الخير فالزموه –الذي هو معنى عليكم- ولا يغرنكم ما فاتكم مما عند أهل الضلال فتضلوا مثلهم، فتضروا أنفسكم بالتأثر بهم، ولا تخافوا من أن يكون لزوم طريقتكم المثلى سبباً لفوات النعم عليكم ونحوها.

فيكون هذا المعنى قريباً من قوله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه: 131)، وقوله تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (آل عمران: 196-197)، وقوله تعالى: {وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} (القصص:57)، وهو ما يريد الله تعالى حماية عباده منه في قوله تعالى: {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ، وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} (الزخرف: 33).

7-          ما يقرب من قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا أصلحكم بفساد نفسي) ويكون معنى الآية: التفتوا أولاً إلى إصلاح أنفسكم ولا تنشغلوا بالعمل على إصلاح المجتمع وتضيّعوا أنفسكم، فإذا لزم الانهماك بالعمل الاجتماعي تضييع أنفسكم فتركه أولى والالتفات إلى تهذيب النفس وتكميلها.

وهذه مشكلة كبيرة أفرزها واقع العمل الإسلامي الاجتماعي والحركي، والمتصدين له على أوسع مستوياته لكنهم عندما يتعرضون لامتحانات التقوى والاستقامة ينهارون، وقد شخّصت هذه المشكلة في جملة من خطاباتي.

وتدل عليه فيما نحن رواية علي بن إبراهيم في تفسيره الآية عن النبي (صلى الله عليه واله) قال: (أصلحوا أنفسكم فلا تتبعوا عورات الناس ولا تذكرونهم، فإنه لا يضركم ضلالتهم إذا كنتم أنتم صالحين)([9]).

وقد نبّه القرآن الكريم إلى هذه النكتة في آيات عديدة كقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً، وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} {الكهف: 6-7)، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} (الرعد:31).

أقول: والخلاصة أن على المؤمن أن يراقب الله تعالى في حركته ولا يشغله شيء عن إصلاح نفسه ويوظف كل عمل لهذا الغرض، ومن تلك الأعمال الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يكلف نفسه أكثر من ذلك، فإن النتائج بيد الله تعالى وهو مدبّر الأمور ومسبب الأسبا.

وهذا الوجه اختاره السيد الطباطبائي في الميزان (قده): ((إن الآية لا تنافي آيات الدعوة وآيات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فإن الآية إنما تنهى المؤمنين عن الاشتغال بضلال الناس عن اهتداء أنفسهم وإهلاك أنفسهم في سبيل إنقاذ غيرهم وإنجائه.

على أن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من شؤون اشتغال المؤمن بنفسه وسلوكه سبيل ربه، وكيف يمكن أن تنافى الآية آيات الدعوة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أو تنسخها ؟ وقد عدهما الله سبحانه من مشخصات هذا الدين وأسسه التي بنى عليها كما قال تعالى: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) وقال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (آل عمران: 110).

فعلى المؤمن أن يدعو إلى الله على بصيرة وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على سبيل أداء الفريضة الإلهية وليس عليه أن يجيش ويهلك نفسه حزنا أو يبالغ في الجد في تأثير ذلك في نفوس أهل الضلال فذلك موضوع عنه))([10]).

8-          ما يشبه الوجه الخامس بتطبيقه على المجتمع وذلك بأن نفهم من {أنفسكم} العموم المجموعي لا الاستغراقي؛ لأن المؤمنين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فيكون المعنى: عليكم أن تلتفتوا إلى صلاح وإصلاح مجتمعكم من خلال إصلاح أنفسكم، وحينئذٍ يكون قوله تعالى: {لا يضرّكم} إما من باب التطمين من قبل الله تعالى بأنهم لا يضرّهم الضالون، بمعنى أن ضلالهم لا يسري ولا يصل إليكم ما دمتم عاملين على إصلاح بعضكم بعضاً، فتكون من آيات الحث على فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو تكون بمعنى أنهم ليس عليهم تضييع وظيفتهم أمام مجتمعهم من أجل أن يلتفتوا إلى إصلاح حال الآخرين.

وهذا المعنى أورده في مجمع البيان وقال: ((إن هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الله تعالى خاطب بها المؤمنين فقال: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} يعني عليكم أهل دينكم –كما قال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ }- لا يضركم من ضل من الكفار، وهذا قول ابن عباس في رواية عطا عنه، قال: يريد يعظ بعضكم بعضاً وينهى بعضكم بعضاً ويعلّم بعضكم بعضاً ما يقرّبه إلى الله ويبعده عن الشيطان ولا يضركم من ضل من المشركين والمنافقين وأهل الكتاب))([11]).

وأيضاً احتمله السيد الطباطبائي، قال (قده): ((وتسع الآية أن تحمل على الخطاب الاجتماعي بأن يكون المخاطب بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} مجتمع المؤمنين فيكون المراد بقوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} هو إصلاح المؤمنين مجتمعهم الإسلامي باتخاذ صفة الاهتداء بالهداية الإلهية بأن يحتفظوا على معارفهم الدينية والأعمال الصالحة والشعائر الإسلامية العامة كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103} وقد تقدم في تفسيره أن المراد بهذا الاعتصام الاجتماعي الأخذ بالكتاب والسنة.

ويكون قوله: { لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } يراد به أنهم في أمن من أضرار المجتمعات الضالة غير الإسلامية فليس من الواجب على المسلمين أن يبالغوا الجد في انتشار الإسلام بين الطوائف غير المسلمة أزيد من الدعوة المتعارفة كما تقدم.

وهنا معنى آخر لقوله: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} من جهة أن المنفى في الآية هو الإضرار المنسوب إلى نفس الضالين دون شيء معين من صفاتهم أو أعمالهم فتفيد الإطلاق، ويكون المعنى نفى أن يكون الكفار ضارين للمجتمع الإسلامي بتبديله مجتمعاً غير إسلامي بقوة قهرية فتكون الآية مسوقة سوق قوله تعالى: { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} (المائدة: 3) ، وقوله: {لَنْ يَضُـرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} (آل عمران: 111) .))([12]).

9-          ما ذكرناه في بعض كتبنا([13]) من أن التكاليف على قسمين: الفردية والاجتماعية، ونعني بالأولى تلك التي توجَّه إلى الفرد بما هو فرد من دون ارتباطها بتكليف الآخرين، كالصلوات اليومية التي يجب على الفرد القيام بها سواء امتثل الآخرون أم لا، أما الثانية فهي التي يُخاطب بها الفرد بما هو جزء من المجتمع، وهذا الفرق ناشئ من كون امتثال الأولى يؤتي ثماره سواء أدى الآخرون أم لا بعكس الثانية.

فآية {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} بلحاظ الأولى أما وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي من الثانية، فموضوعهما مختلف.



([1]) الدر المنثور: مج 3/215.

([2]) وكذلك انظر: أسمى الفرائض، القسم الأول: ص79.

([3]) الدر المنثور، مج3، 215، وأوردها مختصرةً في تفسير البرهان: 3/298 عن مصباح الشريعة: 18.

([4]) الدر المنثور: مج 3، 219.

([5]) مجمع البيان: مج2: 392.

([6]) الدر المنثور: مج3، 215.

([7]) الدر المنثور، مج3، 216، 219.

([8]) الدر المنثور، مج3، 218.

([9]) البرهان في تفسير القرآن: 3/298 عن تفسير القمي: 1/188.

([10]) الميزان في تفسير القرآن: 6/163.

([11]) مجمع البيان: مج2/392.

([12]) الميزان في تفسير القرآن: 6/167- 168.

([13]) خطاب المرحلة: 1/291-292.