القبس/43(وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ) سورة الأعراف:156 - موجبات الرحمة الإلهية

| |عدد القراءات : 86
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

(وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ)

موضوع القبس:موجبات الرحمة الإلهية

سعة الرحمة الإلهية:

ورد في الدعاء الشريف (اللهم إني أسألك موجبات رحمتك)([1]) وطلب الرحمة أمر طبيعي لأنه لا نجاة ولا توفيق إلا برحمة الله تعالى، عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) قال (لن يدخل الجنة أحد إلا برحمة الله، قالوا:ولا أنت؟ قال:ولا أنا إلا أن يتغمدني)([2]).

فما هي موجبات الرحمة الإلهية؟ وهل تحتاج الرحمة الإلهية إلى موجبات وأسباب وقد وسعت كل شيء؟

في الحديث الشريف عن الإمام السجاد (عليه السلام) قال (لا يهلك مؤمن بين ثلاث خصال:شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وشفاعة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وسعة رحمة الله عز وجل)([3]).

(وقيل له (عليه السلام) يوماً أن الحسن البصري قال:ليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا كيف نجا، فقال (عليه السلام):أنا أقول ليس العجب ممن نجا كيف نجا، وإنما العجب ممن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله)([4]).

وتصديق هذا في كتاب الله تعالى فإن السؤال يوم القيامة لا يكون عن الناجين كيف نجوا، وإنما {عَنِ الْمُجْرِمِينَ ، مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (المدثر:41-42).

وقد أشارت عدة آيات كريمة إلى سعة رحمة الله تبارك وتعالى، قال عز من قائل {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:156).

وقال تعالى {ربَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (غافر:7).

مثال في الرحمة الإلهية:

ويقرّب لنا النبي (صلى الله عليه واله وسلم) سعة رحمة الله تعالى بقوله (إنّ لله تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخّر الله تعالى تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة)([5]) فتصوروا سعة رحمة الله تعالى التي كتبها على نفسه وألزم تبارك وتعالى نفسه بها، قال تعالى {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (الأنعام:12) وقال تعالى {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام:54) بل إن الله تعالى إنما خلق الخلق ليرحمهم بأن يجعلهم أمة واحدة متفقة على التوحيد، قال تعالى {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود 118-119).

الرحمة العامة والخاصة:

ولكن - اعلموا أيها الأحبة- أن لله تبارك وتعالى رحمة عامة لكل مخلوقاته وهي التي أشير إليها في موارد كثيرة كما في أدعية رجب (يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة)([6])، وفي دعاء آخر (ورزقك مبسوط لمن عصاك، وحلمك معترض لمن ناواك، عادتك الإحسان إلى المسيئين وسبيلك الإبقاء على المعتدين)([7]) فجميع خلقه حتى الذين يبارزونه بالمعصية والإنكار يرفلون بنعمه التي لا تعد ولا تحصى.

وهناك رحمة خاصة يمنُّ بها على عباده المؤمنين الذين عرفوه ودلّهم عليه بفضله وكرمه وهداهم إلى طاعته فراحوا يتحروّن رضاه، وهي التي أشير إليها في الحديث النبوي الشريف (اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرّضوا لنفحات الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده) وعنه (صلى الله عليه واله وسلم) (تعرّضوا لرحمة الله بما أمركم به من طاعته)([8]) والتعرض لها يعني التعرض لأسبابها وموجباتها، كما في الدعاء (اللهم إني أسألك موجبات رحمتك) ([9]).

تعرضوا لرحمة الله تعالى:

وقد ورد في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ذكر الكثير من هذه الموجبات للرحمة الإلهية، فنحن لا يمكن أن نعرفها ونهتدي إليها إلا أن يهدينا الله تبارك وتعالى {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ} (الأعراف:43).

وبعض هذه الأسباب لا يكون الإنسان مسؤولاً عن توفيرها وإنما جعلها الله بكرمه وفضله وليس على العاقل الكيِّس إلا استثمارها والتعرض لها كالأضرحة المقدسة للمعصومين (سلام الله عليهم) وقد حبانا الله تعالى نحن العراقيين بالعديد من أبواب الرحمة هذه، ومنها عموم المساجد، ومنها صلاة الجمعة والجماعة وحلقات العلم والمذاكرة، وعموم التجمعات الإيمانية، والأزمنة الشريفة كليلة الجمعة ويومها، ومنها هذا الشهر الشريف:شهر رجب الذي لقب في الأحاديث الشريفة بالأصّب لأن الرحمة تُصبّ فيه صبّاً.

ما تستدر به الرحمة الإلهية:

ومن أسباب الرحمة الإلهية ما يوفرهـا الإنسـان بفضـل الله تبـارك وتعـالى، وقد وجدت من أهل تلك الموجبات الاتصـاف بالرحمـة بحيـث تكـون محركـة لأفعاله ومنبعاً لمشاعره وتبنى عليها علاقاته مع الآخرين من خلال الرحمة بهم والشفقة عليهم والرفق بهم ومداراتهم والتفاعل مع قضاياهم وحوائجهم عن أمير المؤمنين (عليه السلام):(أبلغ ما تُستّدر به الرحمة أن تضمر لجميع الناس الرحمة)([10])، لأن الرحمة من صفات الله تبارك وتعالى، وقد وصف الله عباده الذين رضي عنهم بأنهم {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} (الفتح:29) {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (البلد:17) {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} (الحديد:27) وقال تعالى {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف:56).

وفي الأحاديث الشريفة عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم): (من لا يرحم لا يُرحم)([11]) (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)([12]) (من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله)([13]) (الراحمون يرحمهم الرحمن يوم القيامة، أرحم من في الأرض يرحمك من في السماء)([14]) (قال رجل للنبي (صلى الله عليه واله وسلم):أحب أن يرحمني ربّي قال (صلى الله عليه واله وسلم):ارحم نفسك وارحم خلق الله يرحمك الله)([15]).

والرحمة بالآخرين تبدأ من رحمة نفسه بأن يجنبّهـا مـا يضرّهـا فـي الدنيـا ككثير من الحماقات والأفعال اللاعقلائية كالتدخين وصرف الأموال الطائلة في اللهو والعبث، وما يضرّها في الآخرة كارتكاب المعاصي والعياذ بالله وصرف العمر في التفاهات وعدم التفقه في أمور الدين والمعرفة الضرورية.

ثم تتوسع الرحمة إلى من يليه في بيته كوالديه، قال تعالى {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} (الإسراء 23-24).

ثم الرحمة بالزوجة والزوج بالنسبة للمرأة، قال تعالى ممتناً على عباده {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم:21) وورد في الحديث الشريف (اتقوا الله في الضعيفين اليتيم والمرأة)([16]) ثم الرحمة بالأقرباء وقد اشتق لهم اسم من الرحمة فيقال لهم الأرحام والأوامر في صلة الرحم كثيرة والنواهي عن قطعه شديدة.

ثم الرحمة بالآخرين خصوصاً إذا كانوا من ذوي الحاجة والمرضى والفقراء والمبتلين ببلاء ما، وهكذا حتى يمتلئ قلبه رحمة وشفقة على كل الموجودات، ومنبع هذه الرحمات كلها تقوى الله تبارك وتعالى وحب الله تبارك وتعالى، فالتقوى تردعه عن ظلم الآخرين والإساءة إليهم والتقصير في أداء حقوقهم وحب الله يترشح منه حب الخير لجميع الخلق حتى أعدائه بأن يسأل الله تعالى لهم الصلاح والهدى لأن الجميع عيال الله تبارك وتعالى، وخلقه فيحبهم حباً لخالقهم وربّهم ومدبر شؤونهم (وقد ورد في الحديث: ( الخلق عيال الله تعالى فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله, أو أدخل على أهل بيت سروراً...)([17]) وفي حديث آخر عن الإمام الكاظم عن مثل هذا الشخص أنه معنا في درجتنا.

كالوالد الرحيم:

وكلما ازدادت ساحة مسؤولية الفرد، ازداد مقدار الرحمة الواجب توفرها، سواء كانت المسؤولية دينية - كالمرجعية الدينية ومعتمديها- أو سياسية - ككبار مسؤولي الدولة- أو اجتماعية - كزعماء العشائر أو وجهاء المجتمع- أو إدارية - كمدير الدائرة أو المدرسة- أو تعليمية- كالمدرس مع طلبته- في كتاب الخصال بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) قال (إن الإمامة لا تصلح إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن المحارم، وحلم يملك به غضبه، وحسن الخلافة على من وُلّيَ حتى يكون له كالوالد الرحيم)([18]) والحديث مطلق يشمل أي إمامة ورئاسة وزعامة مما ذكرنا.

من موجبات الرحمة:

وللرحمة الإلهية موجبات أخرى، وهي كثيرة نذكر منها شيئاً مختصراً لإلفات نظركم.

منـها:طاعـة الله ورسـوله قـال تعــالى {وَأَطِيعُـواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (آل عمران:132) وقال تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّـلاةَ وَآتُـوا الزَّكَـاةَ وَأَطِيعُـوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النور:56) وقال تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} (النساء:175).

ومنها:الصبر على المصائب قال تعالى {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ، أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة:156-157).

ومنها:الاستغفار قال تعالى {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النمل:46).

ومنها:الإصلاح بين الإخوة المتخاصمين، قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(الحجرات:10).

ومنها:ما ورد في الأحاديث الكثيرة من قولهم (عليهم السلام) رحم الله امرءاً كذا وكذا، كقول أمير المؤمنين (عليه السلام):(رحم الله امرءاً أحيا حقاً وأمات باطلاً، وأدحض الجور وأقام العدل)([19]) وقوله (رحم الله امرءاً علم أن نفسه خطاه إلى أجله فبادر عمله وقصّر أمله)([20]).

ومنها:ما عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم)أنه قال (سبعة يُظلهم الله عز وجل في ظله يوم لا ظلّ إلا ظلُّه:إمام عادل، وشابٌ نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان كانا في طاعة الله عز وجل فاجتمعا على ذلك وتفرّقا، ورجل ذكر الله عز وجل خالياً ففاضت عيناه من خشية الله عز وجل، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال، فقال:إني أخاف الله عز وجل، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما يتصدق بيمينه)([21]).

نسأل الله تعالى أن يتغمدنا برحمته في الدنيا والآخرة وأن يوفقنا لموجبات رحمته إنه لطيف بعباده.

 



([1]البحار:ج83 ص63.

([2]كنز العمال- المتقي الهندي:4/254/ح10407

([3])  بحار الأنوار:78/ 159.

([4] المصدر:78/ 153.

([5]) كنز العمال:ج4 ص249، ح10382.

([6]) إقبال الأعمال:ج3 ص211.

([7]السابق:ص210.

([8])تنبيه الخواطر :ج2 ص120.

([9]البحار:ج83 ص63.

([10]) ميزان الحكمة:ج2 /ص1050.

([11]) الوسائل:ج4 /ص197.

([12]) البحار:ج79 /ص91.

([13]كنز العمال:ج6 /ص263.

([14]) البحار:ج74 /ص167.

([15])كنز العمال:ج16 /ص128.

([16]) البحار:ج76 /ص268.

([17]) بحار الأنوار- المجلسي: 71/316/ح73

([18]الكافي:ج1 /ص407.

([19]) الواسطي :ص261

([20]) ميزان الحكمة :ج ٢ /ص ١٠٥٢

([21]) الخصال للصدوق:2/342