القبس/54(إِنَّمَا يَعۡمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ) سورة التوبة:18 - مسؤولية المؤمنين عن إعمار المساجد

| |عدد القراءات : 76
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

 (إِنَّمَا يَعۡمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ)

موضوع القبس: مسؤولية المؤمنين عن إعمار المساجد

قال الله تبارك وتعالى (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة:18).

المساجد هي محالّ عبادة الله تعالى، وأُخذ اسمها من السجود لأنه أوضح اشكال العبودية، وتسمى بيوت الله وهذه الإضافة والنسبة للتشريف، روي عن أبي بصير قال (سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن العلة في تعظيم المساجد فقال: إنما أمر بتعظيم المساجد لأنها بيوت الله في الأرض)([1]) وقال الامام الصادق (عليه السلام)أيضاً (عليكم بإتيان المساجد، فإنها بيوت الله في الأرض، ومن أتاها متطهراً طهره الله من ذنوبه، وكتب من زواره فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء، وصلوا من المساجد في بقاع مختلفة، فان كل بقعة تشهد للمصلي عليها يوم القيامة)([2]).

و(إِنَّمَا) تفيد الحصر كما هو معروف فكأن عمارة المساجد مختصة بقوم تتوفر فيهم شروط خمسة: الايمان بالله تعالى وبالآخرة وإقامة الصلاة وايتاء الزكاة وأن لا يخشى أحداً غير الله تعالى، فكأن الاعتقاد والايمان لا يكفي ما لم يقترن بالعمل الصالح والإخلاص لله تعالى والحرص على إقامة منهجه الإلهي، وأن لا يطيع ولا يعبد الا الله تعالى فكأن في الآية كناية عن ذلك لأن الداعي الى العبادة والطاعة هو الخوف من العقاب، حتى الرجاء وطلب الكرم والرحمة هو في الحقيقة خوف من انقطاعها وفواتها.

والجملة يمكن أن تكون خبرية بمعنى أن من طبيعة المؤمن المتصف بهذه الخصال أن يعمر مساجد الله، وان المساجد لا يعمرها الا مثل هؤلاء، وهو معنى صحيح إذ كيف يتصور إعمار المساجد التي هي بيوت الله ممن لم يؤمن بالله تعالى ولا يدين له بالطاعة، كما في الحديث النبوي الشريف (عمّار بيوت الله هم أهل الله) وقوله (صلى الله عليه واله وسلم) (من ألف المسجد ألفه الله)([3])، وتدلُّ بالملازمة على المعنى المقابل وهو أن من يوفَّق لإعمار المساجد فان هذا العمل يكشف عن أن عمّارها ممن تحققت فيهم هذه الصفات.

ويمكن أن تفيد الجملة الانشاء فتتضمن تكليفاً بأن  لا تقبلوا من أي أحد إعمار المساجد والمساهمة فيها الا من كان بهذه الأوصاف إذ ليس لمن لا يتصف بهذه الصفات حق في ذلك (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ) (التوبة:17) فلا تجاملوا أصحاب الأموال غير المشروعة وتداهنوهم من أجل تشييد المسجد، فليس لأصحاب الأيادي غير النزيهة التشرف بمثل هذا العمل المبارك (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (الحج:26)، وقد كان بعض المسلمين يرغبون بأن يستمر المشركون في زيارة البيت الحرام بعد نزول الوحي بمنعهم (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا) (التوبة:28) لما في مجيئهم من مصالح اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية فوبّختهم هذه الآية والتي سبقتها (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ) (التوبة:17) فلا خير يرجى من مساهمتهم في بناء المسجد أو تجمّعهم فيه وكذا كل الناس غير المؤمنين.

والشواهد على ذلك من تاريخ الإسلام كثيرة اذ لما تدّخلت الحكومات غير الصالحة في شؤون المساجد وأشرفت عليها وعيّنت مرتزقتها، أو أصبح بناء المساجد وسيلة لتباهي أصحاب الثروات غير المشروعة وتفاخرهم أو لإضفاء شرعية لأعمالهم، فقد المسجد روحه وفشل في تحقيق أغراضه.

والإعمار هو إدامة الحياة والوجود، ومنه سمي عمر الانسان لأنه يعني عمران حياة البدن بوجود الروح فيه، وإعمار المساجد:

قد يكون مادياً بتشييدها وترميمها وإصلاح الخراب فيها وهو الظاهر بمقتضى المقابلة من قوله تعالى في الآية التالية (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (التوبة:19).

وقد يكون معنوياً بإدامة الحضور فيه للعبادة والطاعة وإقامة الشعائر الخالصة لله تعالى فيها، والآية الكريمة تعطي أهمية للثاني، بدليل نفيه في الآية السابقة عن المشركين وسائر غير المؤمنين (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ) (التوبة:17) فلا تصدق عليهم عمارة المسجد الذي هو بيت الله تعالى وهم يعبدون فيها الأصنام ويتخذونها أرباباً من دون الله تعالى فهي شهادة فعليه منهم بالكفر، ويستفاد من هذا القيد عدم المانع من دخول غير المسلم الى المسجد اذا كان لأجل الاهتداء وطلب الحقيقة لأنه ليس شاهداً على نفسه بالكفر، حيث كان رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) يستقبل في مسجده الشريف اتباع الديانات الأخرى لكي يستمعوا الوحي ويتعرفوا على الرسالة الإسلامية.

وهذه العمارة المعنوية هي التي تُبرِزُ حقيقة المسجد وتؤدي رسالته الإلهية المفعمة بالخير والصلاح والرحمة والسعادة، والتي هدفها بناء الانسان الصالح والمجتمع الصالح، أما بناء الجدران والسقوف وزخرفتها فإنها لا قيمة لها إذا خلت من هذه الحقيقة حيث يتحول المسجد الى مكان للنزهة واللهو والعبث ويصير متحفاً يرتاده السوّاح كما حصل فعلاً.

ولذا اشترطت الآية في إعمار المساجد الشروط الخمسة لأنها المحركات نحو هذه الغايات النبيلة. وهذه العمارة المعنوية هي ما عبَّر عنها أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يرتجز حينما كان يشارك رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) والصحابة في بناء أول مسجد في الإسلام عندما هاجر النبي (صلى الله عليه واله وسلم) الى المدينة:

 

لا يستوي من يعمر المساجدا
ومن يُرى عن الغبار حائدا

 

يظلُّ فيها راكعاً وساجدا
يُعرِضُ عنه جاحداً معاندا

واستشهد بها عمار بن ياسر عند حفر الخندق معرّضاً ببعض الصحابة([4]).

والخراب المعنوي هو ما يشكو منه المسجد يوم القيامة ومن عدم اهتمام الناس به، فقد روى جابر عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) أنه قال (يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون: المصحف، والمسجد، والعترة، يقول المصحف: يا ربّ، حرّفوني وَمزّقوني، ويقول المسجد: يا رب، عطّلوني وضيّعوني، وتقول العترة: يا ربّ، قتلونا وطردونا وشردونا، فأجثو للركبتين في الخصومة فيقول الله عزّ وجلّ لي: أنا أولى بذلك منك)([5]).

وروى الشيخ الكليني والصدوق عن الامام الصادق (عليه السلام) انه قال (ثلاثة يشكون إلى الله عزّ وجلّ: مسجد خراب لا يصلي فيه أهله، وعالم بين جهّال، ومصحف معلّق قد وقع عليه الغبار لا يقرأ فيه)[6]. وهذه الروايات شاهدة بمقتضى المقابلة على ان المراد من الاعمار في الآية الشريفة هو المعنوي.

ثم تقول الآية (فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة:18) ويمكن ان نذكر عدة وجوه لاستعمال (عسى) التي تفيد الاحتمال ظاهراً بدل الجزم بكونهم من المهتدين، منها:

1- لأن احتمالات الاستقامة والانحراف تبقى مفتوحة وان قام بفعل المهتدين الآن، فعلى العامل المخلص أن يبقى دائماً في يقظة وحذر ولا يتكل على عمله ولا يترك منفذاً للعجب أو الرياء الى قلبه فان النفس الامارة بالسوء متربصة بصاحبها ويمكن ان توقع به في أية لحظة فتزل قدمه عن الطريق المستقيم. 

2- ان حصول الاهتداء في فعلٍ ما ـ وهو هنا إعمار المسجد ـ مرة أو مرات من الانسان لا يلزم منه أن يصبح من (المهتدين) الا بعد ان يتحول الاهتداء الى صفة ذاتية راسخة من خلال التكرار والاعتياد والتحول الى ملكة.

3- ويحتمل أن يكون وجهه التعريض بالمشركين وأمثالهم بأن من يرجى أن يكون من المهتدين هم أهل هذه الصفات من عمّار المساجد وليس أنتم، ولا ينفعكم مجرد بنيان المسجد وإعمار ما خرب منه ففي هذا حث لهم على أن يكونوا مؤمنين مخلصين ليصبحوا من المهتدين.

إن رسالة المسجد في الإسلام عظيمة كما كان في عهد رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام)  فهو مظهر عزة الإسلام وقوة المسلمين، وهو مجمع المؤمنين ومحل احتشاد الأخوة في العقيدة، وعمارته ونشاطه علامة يقظة المسلمين، وفيه يتعلم الناس أمور دينهم ويناقشون قضاياهم المصيرية، ومنه تصدر القرارات المهمة، وتنطلق حركة الوعي والإرشاد والإصلاح وقوافل الخير والمعروف والدفاع عن الإسلام، وبوجوده تغلق منافذ المنكر والفساد والشر، وبه تتحقق مصالح اجتماعية وأخلاقية واقتصادية وسياسية وفكرية جمّة لا يسع المجال لشرحها، فهو جماع الخير ومركز كل حركة إسلامية فاعلة.

ولا مجال في المسجد للعابثين والمنافقين، روى ورّام في كتابه قال (قال: يأتي في آخر الزمان قوم يأتون المساجد، فيقعدون حلقاً، ذكرهم الدنيا وحب الدنيا، لا تجالسوهم فليس لله فيهم حاجة)([7]) .

وروى الامام الصادق (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال (الجلوس في المسجد لانتظار الصلاة عبادة ما لم يُحدِث، قبل: يا رسول الله وما الحدث؟ قال: الاغتياب)([8]).

 لذا حث القادة المعصومون (عليهم السلام) على كلتا العمارتين المادية والمعنوية:

ففي العمارة المادية روى الشيخ الكليني بسند صحيح عن ابي عبيدة الحذاء قال (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من بنى مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنّة. قال أبو عبيدة: فمرّ بي أبو عبد الله في طريق مكّة وقد سوّيت بأحجار مسجداً، فقلت له: جعلت فداك، نرجو أن يكون هذا من ذاك؟ قال: نعم)([9]).

وروى البرقي في المحاسن أن أبا الصباح سأل الامام الصادق (عليه السلام) قال: (ما تقول في هذه المساجد التي بنتها الحاج في طريق مكّة؟ فقال: بخّ بخّ، تيك أفضل المساجد، من بنى مسجداً كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنّة)([10]).

وورد في العمارة المعنوية:

قول النبي (صلى الله عليه واله وسلم): (سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عزّ وجلّ، ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان كانا في طاعة الله عزّ وجلّ فاجتمعا على ذلك وتفرّقا، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال: إنّي أخاف الله، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما يتصدّق بيمينه)[11].

وروى الامام الصادق (عليه السلام) عن جده رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قوله: (من كان القرآن حديثه والمسجد بيته بنى الله له بيتاً في الجنة)[12] وروى الامام الباقر قال (عليه السلام) (قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) لجبرائيل (عليه السلام): يا جبرائيل أي البقاع أحبّ الى الله عزوجل ؟ قال: المساجد، وأحبُّ أهلها إلى الله أوَّلهم دخولاً وآخرهم خروجاً منها)([13]).

وقوله (صلى الله عليه واله وسلم): (من مشى إلى مسجد من مساجد الله فله بكلّ خطوة خطاها حتى يرجع إلى منزله عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيّئات، ورفع له عشر درجات)([14]).

وقول أمير المؤمنين (عليه السلام)في آثار التردد على المساجد (من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخاً مستفاداً في الله، أو علماً مستطرفاً، أو آية محكمة، أو يسمع كلمة تدلّه على هدى، أو رحمة منتظرة، أو كلمة تردّه عن ردى، أو يترك ذنباً خشية أو حياءً)([15]).

وروى الديلمي في الارشاد عنه (عليه السلام)قوله: (الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنّة، لأنّ الجنّة فيها رضى نفسي والجامع فيه رضى ربّي)([16]) .

وقول الامام الصادق (عليه السلام): (لا يرجع صاحب المسجد بأقلّ من إحدى ثلاث خصال : إما دعاء يدعو به يدخله الله به الجنّة ، وإمّا دعاء يدعو به فيصرف الله به عنه بلاء الدنيا، وإمّا أخ يستفيده في الله)([17]).

وقوله (عليه السلام): (من مشى إلى المسجد لم يضع رجلاً على رطب ولا يابس إلاّ سبّحت له الأرض إلى الأرضين السابعة)([18]).

وقال الشيخ الصدوق في ثواب الأعمال وفي علل الشرائع (روي أنّ في التوراة مكتوباً: إنّ بيوتي في الأرض المساجد، فطوبى لعبد تطهّر في بيته ثمّ زارني في بيتي، ألا إنّ على المزور كرامة الزائر، ألا بشّر المشائين في الظلمات إلى المساجد بالنور الساطع يوم القيامة)([19]) .

وقد كان النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) يهددان بالعقوبة من يتخلف عن حضور الصلاة في المساجد لغير عذر فقد روي بسند صحيح عن عبدالله بن سنان عن الامام الصادق (عليه السلام): (سمعته يقول: إن أُناساً كانوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) أبطأوا عن الصلاة في المسجد، فقال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): ليوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم)([20]).

 

أيها الأحبة:

هذا بعض ما ورد في عظمة المساجد وبركتها على الفرد والمجتمع، وقد لمسنا ذلك على أرض الواقع، فكلما كانت المساجد عامرة وفاعلة كان المجتمع في خير لذا فنحن مطالبون اليوم بـ (صحوة) و (يقظة) وقيام استجابة لقوله تعالى (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ) (سبأ:46) فننفض عنا ركام هذه الغفلة والتقصير في حق المساجد بل في حق أنفسنا إذ لم نستثمر هذه الفرصة العظيمة للطاعة التي أتاحها الله تبارك وتعالى حتى لا نكون ممن يشكوهم المسجد كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام): (ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل: مسجد خراب لا يصلي فيه أهله، وعالم بين جهال، ومصحف معلق قد وقع عليه الغبار لا يقرأ فيه)([21]).

وعلينا ان نستفيد من زخم المسجد وقوته وآثاره المباركة في المواجهة الحضارية التي يخوضها الإسلام مع اعدائه داخل بلاد المسلمين وخارجها لمحق الإسلام.

إن الفرصة متاحة اليوم لنشر المساجد ومحالّ العبادة وإقامة الشعائر الدينية في كل مكان ولو بأبسط اشكالها، كغرفة كبيرة تتخذ حرماً للصلاة مع مغاسل للوضوء، من دون الحاجة الى أبنية ضخمة، نعجز عن تفير أموالها، والمهم تأسيسها على التقوى {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (التوبة:108).

أهمية الإعمار المعنوي:

والأهم من الإعمار المادي هو الإعمار المعنوي الذي تشكو منه المساجد في الحديث المتقدم، وإعمارها يكون بإقامة الصلوات فيها والذكر والدعاء وبيان الأحكام الشرعية والأخلاق الفاضلة وتهذيب النفوس ومجالس الوعظ والإرشاد وذكر فضائل أهل البيت (عليهم السلام) ومظلوميتهم والشعائر الدينية، وجعلها خالصة لله تعالى (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) (الجن:18) وعدم تشويش المؤمنين بالدعوات الشخصية والفئوية وتجنيبها ما ينافي قدسيتها من المحرمات واللغو واللهو وأعمال الدنيا، وفي ذلك ورد عن أبي ذر (رضوان الله عليه) عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال:(يا أبا ذر الكلمة الطيبة صدقة وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة، يا أبا ذر من أجاب داعي الله وأحسن عمارة مساجد الله كان ثوابه من الله الجنة، فقلت: كيف يعمر مساجد الله؟ قال: لا ترفع الأصوات فيها ولا يُخاض فيها بالباطل ولا يشترى فيها ولا يباع واترك اللغو ما دمت فيها، فإن لم تفعل فلا تلومن يوم القيامة إلا نفسك)([22]).

ومن وصايا النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لأبي ذر (رضوان الله عليه): (يا أبا ذر: كل جلوس في المسجد لغو إلا ثلاثة: قراءة مصلٍّ أو ذكر ذاكر الله تعالى أو سائل عن علم)([23]).

من بركات إعمار المسجد:

إن من بركات إعمار المساجد وإحيائها دفع البلاء عن الأمة وما أحوجنا إليه ونحن نسأل الله تعالى ان يكشف عنا هذا الوباء، روي عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) أنه قال:(إن الله تبارك وتعالى ليريد عذاب أهل الأرض جميعاً حتى لا يحاشي منهم أحداً إذا عملوا بالمعاصي واجترحوا السيئات، فإذا نظر إلى الشيّب ناقلي أقدامهم إلى الصلوات، والوُلدان يتعلمون القرآن رحمهم الله فأخّر ذلك عنهم)([24]) ومن وصايا النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لأبي ذر:(يا أبا ذر: يقول الله تعالى: إن أحب العباد إليّ المتحابون بجلالي المتعلقة قلوبهم بالمساجد المستغفرون بالأسحار، أولئك إذا أردت بأهل الأرض عقوبة ذكرتهم فصرفت العقوبة عنهم)([25]).

فسارعوا أيها المؤمنون {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران:133).

إن أولى من يخاطب بوجوب التحرك لإعمار المساجد هم فضلاء الحوزة العلمية لأنهم بهم ينعقد نظام هذه الحركة المباركة وإمام المسجد هو القائد الديني والاجتماعي في منطقته، وقد عرضت في خطاب سابق[26] عدة خطوات لإعمار المساجد وتفعيل دورها في حياة الأمة نعيد التذكير بها مع إضافة خطوات أخرى منها:

1 - إشغال كل مسجد مهما كان بسيطاً ونائياً بإمام يقيم فيه الشعائر، وإذا خلت منطقة أو ناحية من مسجد فيمكن اتخاذ غرفة كبيرة في أحد البيوت مما يعرف بالمضيف أو الديوانية أو غرفة الاستقبال ويُتخذ لها باب خارجي يفتح للمصلين في أوقات الصلوات ولإقامة الشعائر الدينية وتجهيزها بمكبر صوت لرفع الآذان، ولا أعتقد أنّ هذا يكلّف شيئاً يذكر في قبال ما أعدّ الله لفاعله من الخيرات والبركات.

2 - الحرص على إقامة صلاة الجماعة في المسجد فإنها مفتاح البركات ولا تختص بالفرائض اليومية بل تشمل الصلاة في العيدين وعند حصول الخسوف والكسوف، ولقد ثبت بالتجربة أنّ المسجد الذي تقام فيه صلاة الجماعة يكون أكثر فاعلية واجتذاباً للناس من المسجد الخالي منها، وهم على حق في ذلك من أكثر من جهة:

أ - الثواب العظيم الذي أعدّ للمصلي جماعة بحيث إذا بلغ عدد المصلين عشرة فلا يحصي ثواب الجماعة إلا الله تبارك وتعالى.

ب - إنّ وجود إمام الجماعة يلزم منه تحقيق فوائد كثيرة كإجابة الاستفتاءات وقضاء الحوائج الاقتصادية والاجتماعية وإلقاء المحاضرات في الوعظ والإرشاد وتبليغ الأحكام.

3 - اختيار إمام الجماعة المخلص لله تبارك وتعالى الحريص على المصالح الاجتماعية أكثر من مصلحة نفسه، وأن يكون ذا فضيلة علمية ليستطيع تلبية احتياجات المجتمع الفكرية والفقهية والثقافية.

4- ان ينظم حلقات دراسية يتعلم فيها الناس أمورهم الدينية من عقائد واخلاق ومسائل الحرام والحلال خصوصاً المسائل الابتلائية وان يحث الشباب الواعين المثقفين الفطنين على الالتحاق بالحوزة العلمية في النجف الاشرف لينهلوا من معينها ويعودوا الى مجتمعهم مبلغين دُعاة الى الله تبارك وتعالى وأقل ما يجزيه من النشاط هو إلقاء محاضرة في الأسبوع مرة تطبيقاً لرواية الامام الصادق (عليه السلام) عن جده رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): (أفٍّ لرجل لا يفرّغ نفسه في كلّ جمعة([27]) - أي أسبوع – لأمر دينه فيتعاهدوه ويسأل عن دينه)([28])، ولما كانت فرصة القراءة والتفقه ليست متاحة لكلّ أحد لأسباب شتى فعلى إمام المسجد توفير هذه الفرصة للمجتمع، وبذلك فهو يعينهم على امتثال أمر الإمام، فإن دوره في المجتمع، يتمثل بتقريب الناس إلى طاعة الله تبارك وتعالى بتكثير فرصها وفتح المزيد من أبوابها، وتقليل فرص المعصية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

5 - إحياء الشعائر الدينية ومناسبات أهل البيت (عليهم السلام) جميعاً، وعدم الاكتفاء بشهر رمضان وشهر محرم، وأؤكد هنا على ضرورة إقامة المجالس في المساجد([29]) لعدّة أمور، فهي أبعد عن الرياء والعجب ويكون الحضور فيها خالصاً لله لا مجاملة لأحد، وفيها إعطاء أهمية للمسجد في حياة الناس، ولاقترانها بصلاة الجماعة عادة، ولأنها اعظم أجراً لما ذكرنا من أنّ الجلوس في المسجد عبادة.

6 ـ إقامة المسابقات الدينية والثقافية خصوصاً في شهر رمضان وليالي وأيام الجمع، وتعيين الجوائز للفائزين، وهذا يحقق أكثر من ثمرة:

أ - حثّ المؤمنين على قراءة الكتب والازدياد من العلم والمعرفة ليكونوا بمستوى المسابقات.

ب - حثّهم على الحضور في المساجد لما في جو المسابقات من متعة وفائدة وتسلية.

7 - وضع لوحة إعلانات يسجل فيها كلّ يوم شيء جديد، كحديث شريف له ثمرة اجتماعية أو أخلاقية أو عقائدية، أو تدوّن فيها بعض الأحكام الابتلائية، أو استفتاءات مستحدثة، أو خبر نافع عن الحوزة، أو عن إصدار جديد، أو إلفات النظر إلى حالة اجتماعية منحرفة، أو معاملة باطلة تجري في السوق وتصحيح ذلك وفق الضوابط الشرعية، وأي شيء آخر يشدّ الناس إليها ويجعلهم في تفاعل مستمر مع المسجد.

8 - إنشاء حلقات تعليم القرآن الكريم قراءةً وتفسيراً وعقد المحافل القرآنية لشد الناس الى ثقل الله الأكبر.

9 - تأسيس مكتبة ولو بسيطة في كلّ مسجد تضم مجموعة من الكتب الدينية والثقافية التي يحسُن بالمسلم الإطلاع عليها.

10- أن يبذل إمام المسجد وسعه في قضاء حوائج الناس فيزوِّج هذا الشاب المتعفف ويساعد ذلك المحتاج ويُوجِد فرصة عمل لهذا العاطل وهكذا، مع مشاركتهم في مناسباتهم الاجتماعية وأفراحهم وأحزانهم حتى يكون للجميع كالأب والأخ الشفيق الرحيم وبذلك ينجذب الناس إلى المسجد ويجدون فيه المنقذ والمأوى والكهف الحصين.

11- أن يتشكل في المسجد موكب لإحياء الشعائر والمناسبات الدينية ولجان ومجاميع لإدارة مختلف النشاطات المطلوبة بحسب رغبات العاملين ومؤهلاتهم، فمجموعة للأعمال الخيرية والإنسانية ومساعدة العوائل، وأخرى للعلاقات الاجتماعية ولجنة للعمل الثقافي تتولى إصدار النشرات الجدارية والورقية وتوزيعها، ولجنة لرعاية الشباب وأخرى لتنظيم السفرات الدينية أو الترفيهية وهكذا.

12- ولا تقتصر هذه الحركة الفاعلة على الرجال، فللنساء نصيبهن بل الحظ الأوفر لهن لأن المجتمع النسوي أحوج إلى الرعاية بسبب طول الإهمال والحرمان وشدة المعاناة وضغط العوائق الاجتماعية وبعض رواسب التعصب والجهل والأنانية، فتُخصَّص حسينيات أو دور للعمل النسوي وتتصدى له المبلغات الرساليات، وقد توفرت المئات منهن بفضل الله تبارك وتعالى، فالساحة مهيأة لأداء هذه الرسالة الإلهية.

 إن في هذه الحركة المباركة استجابة لدعوة الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه واله وسلم) قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال : 24).

وأنت ترى إنّ المسؤولية متبادلة بين الحوزة الدينية والمجتمع فإن بعضهم يكمل بعضاً، فالحوزة ترشد المجتمع وتوجهه إلى طريق الصلاح، والمجتمع يطبّق ويمتثل ويمارس دور الشاهد على الحوزة ليقيّمها هل أدّت دورها كما ينبغي.

وتتعاظم الفرصة والمسؤولية مع إطلالة شهر رمضان المبارك وإقبال الناس على الطاعة والحضور في المساجد، وفقنا الله تعالى وإياكم لما يحب ويرضى.



[1] - الحديثان في بحار الأنوار: 84 / 6

[2] - بحار الأنوار: 83/384

[3] - الدر المنثور: 3/216

[4] - بحار الأنوار: 19/124، 20 /243، عن تفسير القمي: 2/97 ومناقب ابن شهراشوب: 1/236 والديوان المنسوب الى أمير المؤمنين (عليه السلام) : 36

[5] - وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عليهم السلام): ج5 / ص 202 / ح 2

[6] - وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عليهم السلام): ج5 / ص 201 / ح 1

[7] - وسائل الشيعة / ط. آل البيت(عليهم السلام) : ج 5/ ص 214 / ح 4

[8] -  بحار الأنوار: 83/ 384

[9] - وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عليهم السلام) : ج5 / ص 203 / باب 8 / ح 1

[10] - وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عليهم السلام): ج5 / ص 203 / باب 8 / ح 6

[11] - وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عليهم السلام) : ج5 / ص 199 / ح 4

[12] - وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عليهم السلام) : ج5 / ص 198/ ح 2

[13] - الكافي : 3 / 489 ، ح 14 باب النوادر

[14] - وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عليهم السلام) : ج5 / ص 201 / ح 3

[15] - وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عليهم السلام) : ج5 / ص 197 / ح 1

[16] - وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عليهم السلام) : ج5 / ص 199 / ح 6

[17] - وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عليهم السلام) : ج5 / ص 193 / ح 2

[18] - وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عليهم السلام) : ج5 / ص 200 / ح 1

[19] - وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عليهم السلام) : ج5 / ص 244 / باب 39 / ح 1

[20] - وسائل الشيعة / ط. آل البيت (عليهم السلام) : ج5 / ص 194 / ح 2

([21]) وسائل الشيعة:كتاب الصلاة، أبواب حكام المساجد، باب 5، ح1.

([22]) المصدر، باب 27، ح3.

([23]) بحار الأنوار:83/370.

([24]) وسائل الشيعة:كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، باب 3، ح3.

([25]) بحار الأنوار:83/370.

([26] ) راجع كتاب (شكوى المسجد) و (خطاب المرحلة: 1/425-445)

([27]) كان سماحة الشيخ يلقي خطبة أسبوعية بعد صلاة الظهر يوم الجمعة في جامع حي الكرامة في النجف حيث كان يؤم الجماعة.

([28]) أصول الكافي: 1 / باب سؤال العالم وتذاكره ح 5

([29]) كان سماحة الشيخ يعقد مأتماً أسبوعياً بعد صلاتي المغرب والعشاء جماعة في جامع الكرامة مساء الأربعاء، وفي ذكرى شهادة المعصومين (عليهم السلام) والعشرة الأولى من محرم الحرام ويجلب لذلك عدداً من الخطباء.