القبس /85(وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ) سورة الإسراء:3 - لا تعتنق عقيدة او فكرة ولا تقل او تفعل فعلاً الا عن علم ويقين
(وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ)
موضوع القبس:لا تعتنق عقيدة او فكرة ولا تقل او تفعل فعلاً الا عن علم ويقين
قال الله تبارك وتعالى:(وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسُۡٔولٗا) (الإسراء:36)
ولا تقف:أي لا تتبع، من القفو وهو الاتباع كقولك اقتفيت أثره، والفرق ان الاتباع يطلق على كل افراده سواء كان اختياريا او باكراه، اما الاقتفاء فيختص بالاتباع الاختياري، فالآية تؤسس قاعدة رصينة في التلقّي والأخذ من قنوات ومصادر المعلومات الخارجية والداخلية وهي الاذن والعين والتأملات الذهنية فلابد أن يكون ذلك مستنداً الى العلم الذي يشمل المعلومات المتيقنة المأخوذة عن حس ومشاهدة، أو عن مصادر معتبرة عند العقلاء التي لا يُعبأ باحتمال الخطأ فيها كإخبار الثقة او التواتر.
وهذه القاعدة القرآنية يجب تفعيلها في كل نواحي الحياة، فلا يرتب أثراً على ما يسمعه او يجده مكتوباً أو ينقدح في ذهنه الا اذا وجد دليلاً علمياً عليه سواء كان في الاعتقاد او السلوك او العلاقات مع الآخرين ولا ينشر شيئاً الا بعد ان يتأكد من مصداقيته وجواز نشره، في الحديث عن الامام الصادق (عليه السلام) قال (ان من حقيقة الايمان ان لا يجوز منطقك علمك)([1]) وفي حديث عن الامام موسى بن جعفر (عليهما السلام) (ليس لك ان تتكلم بما شئت، لان الله عز وجل يقول:(وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)([2]), وفي الحديث النبوي (ايّما رجل اشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها برئ كان حقا على الله ان يذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاد ما قال)([3])، فمن لا يأخذ بهذه القاعدة يعرّض نفسه للمسؤولية، ويكون اول شاهد عليه حواسه (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً).
مثلاً شخص يدّعي عنواناً معيناً كالسفاره عن الامام المهدي (عليه السلام) او الوكالة والنيابة عنه لا يجوز تصديقه لانها دعوى غير مستندة الى العلم، او شخص يتبنى مشروعاً معيناً كإصلاح الأوضاع العامة وتغيير أحوال الناس نحو الاحسن لا يجوز تصديقه واتباعه حتى يتحقق من مصداقيته، او ما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من اتهامات لهذا وذاك بالفساد والصفقات المشبوهة لا يجوز تصديقه وترويجه الا بعد التحقق من صدقه او ما تتداوله الناس من أخبار عن هذا وذاك أنه فعل كذا وقال كذا لا يجوز تبنّيه وترتيب الأثر عليه لان مثل هذه المصادر لا يوثق بها وقد تصل الحالة الى الاقتتال والقتل لمجرد انه قيل له ان هذا الرجل او تلك المرأة فعلا كذا وكذا قبل أن يتبيّن حقيقة الأمر وقد يكون المخبر مبغضاً او حاسداً او له غرض شخصي فيعمل على القاء الفتنه بهذه الاخبار وقد يكون متوهماً او مشتبهاً كما وقع في الكثير من الحالات.
والشرع المقدس يرى الصدق في هذه الأمور قبيحاً فكيف بالكذب لان فيها تدميراً للعلاقات الاجتماعية وتخريباً للأُسر، في الحديث النبوي الشريف (ثلاث يقبح فيهن الصدق:النميمة وإخبارك الرجل عن أهله بما يكرهه وتكذيبك الرجل عن الخبر)([4]) وفي حديث اخر عن الامام (عليه السلام) قال (من روى على أخيه المؤمن رواية يبتغي بها شينه وهدّم مروته اخرجه الله تعالى من ولايته الى ولاية الشيطان ثم لا يقبله الشيطان)([5]) بغض النظر عن كونه صادقاً او كاذباً فيما روى ، وبالمقابل مدح الله تعالى قوماً فقال تعالى (فَبَشِّرْ عِبَادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) (الزمر:17-18) فلا يكتفي احدهم بصدق الخبر حتى يّرتب عليه الأثر أو ينقله للغير، لان الصدق قد يكون ضاراً، بل يتثبت من حسن القول مضافاً الى صدقه.
وهذه القاعدة القرآنية مما تدعو له الفطرة السليمة أيضاً فانها تتحرى دائما الوصول الى الواقع والحقيقة فلا تعطي قيمة للمظنون او المشكوك، ويحاول العقلاء أن يصلوا الى الحقيقة وتحصيل العلم بأنفسهم إن أمكن والا فيرجعون الى من له العلم بذلك كمراجعة المريض للطبيب، أو رجوع عامة الناس الى المجتهد العارف بتحصيل الاحكام الشرعية وهكذا، ولا يعذرون من يتبنى عقيدة او قولاً او فعلاً من دون ذلك، وقد لبّى الله تعالى حاجة هذه الفطرة لدى الانسان فاعطاه السمع والبصر والعقل لتكون له أدوات يصل بها الى الحقيقة، وسيسأل الانسان عن كيفية توظيفه واستعماله هذه الأدوات فهل ان ما اصغى له بسمعه كان من مصدره الموثوق، وهل ان ما نسبه الى عينه حينما يقول رأيت كان قد رآه فعلاً وواضحاً لديها فعلاً؟ وهل ان ما فكّر فيه ورتبّه بذهنه كان مستنداً الى معلومات ومقدمات صحيحة؟ وهذه الحواس ستشهد عليه وتجيب بصدق (حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (فصلت:20) فعلى الانسان ان يحذر ويتجنب اتباع ما ليس له به علم والا فانه لا يكون معذورا.
والمطلوب دائماً هو التثبت من المعلومة قبل البناء عليها، ومن صدق الدعوى قبل التسليم بها، ولو بنى المجتمع حياته على هذه القاعدة القرآنية لأغلق أبواب الكثير من المفاسد والاضرار والخرافات والانحرافات وبهذا المنهج نحافظ على العلاقات الاجتماعية وسمعة الأشخاص وكرامتهم ومنع حصول حالة الإحباط واليأس لدى العاملين بسبب ما يشيعه الحاسدون، وبذلك نستطيع تقويم عقائد وأفكار المجتمع من الانحراف والضلال.
فعلى مستوى الاعتقاد:لم يقدّم الملحدون دليلاً علمياً على نفي وجود الخالق تبارك وتعالى وغاية ما يدّعون انه لم يثبت عندهم وجوده سبحانه فكيف يريدون بجهلهم هذا نفي الأدلة القاطعة التي يقيمها المؤمنون بالله تعالى.
والذين ينكرون المعاد ليس عندهم دليل وانما هو مجرد استبعاد وقصور اذهانهم عن تصور الحالة بينما المؤمن عنده الحجج الدامغة على هذه الحقيقة، وكذلك الذين ينكرون الوحي والنبوة، قال تعالى (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (يونس:36).
وهكذا اذن المطلوب التثبت وتحصيل العلم في كل شؤون الحياة فلا يجوز تصديق خبر بناءاً على الاشاعات أو الاقدام على فعل لمجرد ان الناس فعلته مما سمّوه بالسلوك الجمعي وجعلوا له مثلاً يستشهدون به وهو (حشر مع الناس عيد) كزيارة بعض القبور او القيام ببعض الاعمال التي لم يثبت أصلها، او اتباع شخص لمجرد ادعاءات ما لم يتحقق من توفر الشروط المطلوبة.
فهذه كلها مخالفة لهذه القاعدة القرآنية، وقد روي في كتب العامة عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) قوله (بئس مطية الرجل:زعموا)([6]) وقوله (صلى الله عليه واله وسلم) (اياكم والظن فان الظن اكذب الكذب)([7]) وفي حديث آخر (إن افرى الفرى ان يُريَ الرجل عينيه ما لم تريا)([8]).
وفي حواراتنا لابد ان نستند في مواقفنا الى الحجة والبرهان لا الظنون والقياسات ولا في احكامنا على الآخرين بالظن والتهمة والاشتباه والاحتمال، لذا لا يبني القاضي على كلام المدعّي في قضية معنية وإنما يطالبه بالبينة ويسمح للمدعى عليه بالدفاع عن نفسه وهكذا.
وبذلك يكون الإسلام قد سبق الحضارات المعاصرة في تأسيس منهج التثبت العلمي الشامل لكل شيء، حتى العلوم التجريبية والطبيعية حيث لا مكان للافتراضات الوهمية والاحتمالات غير الممحصة والاحكام الساذجة، ويجعل ذلك مسؤولية شرعية وأمانة يُسئل عنها وهذه الرقابة الداخلية مما تميز المنهج الإلهي عن المادي، ويستشعرها المؤمن حتى لو خلى عن أي رقيب حتى على مستوى المشاعر والخلجات القلبية، فلا يقول كلمة بلسانه ولا ينقل حادثة عن أحد ، ولا يحكم بعقله حكماً ولا يعقد أمراً الا وقد استند فيه الى المعلومة الصحيحة.
فلنتعاون جميعاً لنشر هذه الثقافة القرآنية والمنهج القرآني الكفيل بتحقيق السعادة والصلاح ولتجنب التداعيات الاجتماعية الخطيرة، والا فان الثقة ستنعدم بالجميع ويختلط الصالح والفاسد وتضيع الحقيقة ونفقد كل أمل بالصلاح والإصلاح.